وكان كمال قد عرف أنه قد ذهب إلى القاهرة وأنه سيعود إلى القرية عند المساء، وكان يعلم أنه يقطع الطريق وحده من المحطة إلى القرية، والطريق من المحطة إلى القرية محفوف من أحد جانبيه برمال الصحراء وتلالها.
وكان هناك تل يعرفه كمال، ومن وراء هذا التل خرج كمال وقطع الطريق على عبد الرحمن، فأصاب منه في ذلك اليوم المائتي جنيه التي تعود أن يضعها في جيبه، وأصاب منه جنيهين وقروشا هي بقية جنيهات خمسة، انتهبت الخمر وتذكرة القطار منها ثلاثة جنيهات إلا قليلا.
وهكذا وقعت الحادثة الثانية في موعد لم تنتظر القرية أن تقع فيه، فما عودوا أن تقع حادثتان على شخصين في القرية في ليلتين متتاليتين.
وقيدت الحادثة ضد مجهول!
وفي الليلة الثالثة كان الخواجة استاورو تاجر القطن خارجا من القرية في طريقه إلى القطار الأخير، وكان الليل أسود، ولكن الخواجة كان مطمئنا؛ لأن خفيرا نظاميا من قبل العمدة كان يرافقه، ولكن الخفير النظامي كان أكثر جبنا من الخواجة حين وضعت المقروطة في ظهره، وحين طلب كمال من الخواجة أن يعطيه ما يحمل من المال، وتسلم كمال المال وأمر الخواجة وحارسه أن يعودا أدراجهما إلى القرية، وأطلق خلفهما عيارا جعل الأعيرة تنطلق من الخفراء، وجعل سكان السلام يطمئنون إلى أن الأعين من حولهم يقظة مفتحة، تحيطهم بالأمن الراصد وبالسلاح القاتل لكل من يحاول أن يعدو عليهم، وما عرفوا أن هذا العيار إنما كان إعلانا عن جريمة ثالثة تقع في الليلة الثالثة. ... ما عرفوا ذاك إلا حين عاد الخواجة استاورو مع الخفير، وقد أخذ الهلع بمجامع الخفير، بينما راح الخواجة استاورو يهدئ من روعه، فما كان يحمل غير خمسين جنيها وهي أقل من أن يفقد رجل مثل الخفير حياته من أجلها؛ فقد كان يوشك من الخوف أن يموت.
كان كمال قد أعد الخطة بدقة، ومن ذلك الذي يظن أن قرية واحدة يعتدى على ثلاثة منها في ثلاث ليال متوالية؟
وقيدت الحادثة ضد مجهول!
وهل كان كمال إلا مجهولا؟ ومن ذلك الذي يظن أن كمالا يستطيع أن يعتدي، وهو من عاش عمره مرعى للاعتداء، ومواطنا للهوان، وصوتا أجوف يشيع ميتا أو يزف عروسا؟ وفي هذا المجهل، وفي هذه الزاوية المتوارية عن الأعين، وفي هذه الغمرة من حقارة الشأن، كان كمال قد أعد الخطة وانتفع بكل شيء، حتى بهذا الاحتقار الذي كان يتمتع به؛ فقد كان يتوارى في هذا الاحتقار بعد كل جريمة، فلا يفكر أحد فيه، وتقيد الحادثة ضد مجهول، فقد كان جبابرة الليل في القرية في مكانهم عند كل حادثة، وكان الجميع يرونهم حين تأتي إليهم أنباء الحوادث، فيجدونهم مذهولين معهم، ولا مجال لشك في صدق ذهولهم فقد كانوا معهم.
وإن خطر لواحد ممن كان يراهم ومعهم كمال أن يسأل عن كمال أين هو؟ انبعث أحدهم قائلا في صوت من يضيق بالإجابة على تافه الأمور في وقت لا يتفق مع هذه التفاهة: «إنه مريض، لقد أوصل إلينا وطنية تخبرنا بذلك منذ أيام ...»
ألم أقل لك إنه كان قد أعد الخطة فأحكم إعدادها؟ لم يغفل عن صغيرة منها منذ ذلك اليوم الذي أمل فيه أن يستولى على سلاح.
صفحة غير معروفة