ولم يكن العمدة كاذبا في هذه المرة، فقد كانت درية جميلة حقيقة؛ فهي بيضاء صافية اللون، إلا من حمرة وردية تخالط بياضها بمقدار ما يجعل جمالها حيا متوثبا، وهي ذات شعر ذهبي مسرح في تموجات ثائرة معربدة. وإنها لتشجع هذه العربدة من شعرها فهي لا تكبح جماحه بمنديل أو شريط، وإنما تتركه على هواه فيلتوي حيث يطيب له أن يلتوي ويسيل حين يطيب له أن يسيل، وهو على الحالين جميل رائع الجمال. وإن لها جبهة طاب للشعر أن يأخذ مكانا كبيرا منها، فأخذ دون رادع، ولم يترك إلا ومضة ضيقة يتبعها حاجبان مرسومان في دقة رائعة، يعلوان عينين خضراوين ينبعث منهما نور فيه ذكاء لماح وجمال آسر، يعقبهما فم ما هو بالصغير ولا هو بالكبير، وإنما هو شفتان فيهما غلظة رقيقة، تزيدهما جمالا تلك النثلة التي تصل الشفة العليا بالأنف الصغير ذي الأرنبة المتوثبة. والوجه في مجمله يكاد يستدير لولا ذلك الذقن الصغير الذي أبى إلا أن ينفر نفورا منعه الجمال أن يشتط. تتوسط خدها الأيمن تلك النونة الصغيرة التي تزداد وضوحا عندما تضحك درية، وكم كانت تضحك درية! كل هذا الجمال يعلو رقبة تلعاء تفضي إلى صدر ينهد إلى باكر الشباب، حيران بين الظهور الواضح والاستخفاء الخجلان. ودرية فارعة الطول هيفاء غيداء، متوثبة إلى الفرح، سريعة إلى الضحك، تستعجل الأيام والأشخاص والأشياء. لا تطيق أن ترى الأيام تمضي مكتملة جميعا، تتمنى لو أن النهار أومض ثم أعقبه آخر. ثم هي تكلم الناس جميعا فلا يشعرون أنها مغرورة بجمالها هذا، وإنما هي تغمرهم بفيض من حنان فيحسون وكأن درية يهمها من أمرهم ما يهم أصدقاءهم الأقربين. لم تكن درية تستثني من عطفها هذا شخصا أو شيئا، نعم فإن من الناس أشياء، وهل كان كمال إلا شيئا؟ حتى هذا الشيء كانت درية تبذل له من كريم عطفها ما جعله يحس أن له وجودا ولا وجود له، أو أن له كيانا ولا كيان له. لقد كان العمدة محقا إذن حين فرح بابنته عندما قدمت إليه بالفطور في باكر الصباح، وكان محقا في تدليلها؛ فإنه هو لا شأن له بتربيتها فما كان يفهم في أصول التربية إلا أن يقول ما يراه، وهو يرى ابنته جميلة غاية الجمال، ويرى الناس من حوله وحولها يحبونها، ولا يهم العمدة إن كان حب الناس لدرية مبعثه أنه عمدة أو أنها تستحق هذا الحب، إنما كل شأنه أنهم يحبونها. ولو أن درية تركت لتدليل أبيها لكانت الطامة الكبرى، ولفقدت هذا الحب الذي يحبوها به الناس. لم يكن تدليل أبيها وحده هو قوام أخلاقها، وإنما كانت أمها من ورائها تشتد حين ترى لين الأب مائعا، وتقسو حين ترى البنية تنحرف عما تريده لها الأم.
أفطر العمدة في يومه هذا، وهم بأن يغير ثياب نومه ليخرج إلى الناس، حين سمع صوتا يعلو بجانب شباكه، ولم يسأل من ذاك فقد عرف الصوت وصاحبه ... كان ذاك هو كمال أبو منصور ذلك الشيء الذي ينطلق مع الفجر يلتمس رزقه بالدعاء للناس، وما هو بالشيخ العجوز الذي يقعده الكبر، ولا بالمريض المقعد الذي تحتجزه العلة، ولا هو بالعاطل المتبطل الذي يفقره العجز، وإنما هو شاب في ريعان الفتوة مكتمل الجسم موفور الصحة، وما له لا يكون وهو على كل مائدة واجد زاده! وهو - بعد - صاحب صنعة تجمع بين نقيضين، فهو رجل الأحزان والسعادة، وهو نجم المأتم والفرح، وهو الناعق عند الفراق الذي لا لقاء بعده في الدنيا، وهو البشير بلقاء يرجى فيه الاتصال. إنه عمود الوفيات في قريته، فما لاقى إنسان ربه إلا كان كمال هو ناقل نبأ هذا اللقاء إلى أهل القرية، حتى يبادروا إلى القيام بواجب العزاء ورد الجميل السابق، ومساندة أهل الذاهب، الحزين منهم والمتظاهر بالحزن.
وما لاقى إنسان زوجته إلا كان كمال أبو منصور هو الزغرودة، زغرودة الرجاء التي تنطلق مبشرة باللقاء، على حب كان هذا اللقاء أو على طمع في مال أو جاه، أو كان على ظروف اقتضت فتحكمت فكان الزواج ... لا شأن لكمال بشيء من هذا، وإنما كل شأنه أنه يعلم بالوفاة أو الزواج، فيهب إلى طبلته يعلقها إلى رقبته ويمسك بعصاه بالخيزران الغليظة بعض الشيء، ويطوف بالقرية. ولن يسمع أهل القرية نغمة حزينة أو فرحة، وإنما هي دقات تصاب بها الطبلة فتطلق لها صوتا ضخما يصيب بدوره آذان الآمنين من قرية السلام. نعم لقد كان كمال أبو منصور طبالا؛ فهو إذن ليس متبطلا، ولكن قرية السلام قرية لا تزيد، ولن تجد بالقرية ملاقيا لربه أو لعروسه في كل يوم، وقد تتباعد الأيام بين كل لقاء ولقاء، ولكن مواقيت الغذاء لا تتباعد، والبرد يأتي في موعده المعلوم، وكمال يعتقد أن الكرامة كل الكرامة هي أن يحصل على قوت يومه، ليس يعنيه أي سبيل يسلكه إلى هذا القوت، فما البأس به لو أنه طاف بالأغنياء من قريته يطلب أن يعوضوه خيرا عما يفوته عليه عدم انتظام الوفاة أو الزواج؟ ولا بأس عليه ما دام قد فكر في الأغنياء أن يكون في مقدمتهم عمدة القرية وعميدها، لا بأس عليه نعم. ولكن أكان عدم البأس وحده هو الذي ساق كمالا إلى موقفه هذا، أم أن هناك سببا آخر؟ ويحك يا كمال! ماذا تراه يكون السبب؟ حذار أن تفكر، حذار أن تهمس نفسك ولو إلى نفسك، ولكن لتقل الحق، وما ضرك أن يقال وهو مجرد أحلام؟ وهل تملك يا مسكين إلا هذه الأحلام؟! نعم، إن كمالا ليقصد إلى بيت العمدة لينال من بر العمدة، وليفتتح يومه بنظرة كريمة طيبة متفضلة تلقيها إليه درية مع ما تلقيه إليه من طعام، وهو لا يطمع في غير تلك النظرة، وإنه ليعتدها كرما منها يتخاذل إزاءه كل كرم يلقاه من أي كريم، وإنه ليعتدها زاد الدنيا الذي به يعيش إلى أن تتحقق له آمال وأحلام. وكم فكر في هذه النظرة إذا ما خلا بمغارته! وكم وقفت هذه النظرة حائلا دون أفكاره العاتية أن تنثال في ذهنه! ولكنه مع هذا لا يطيق الصبر عليها. لا بأس إذن بكمال أن يقف دون الشباك في باكر الصباح داعيا إلى الله: أن يطيل عمرك يا حضرة العمدة ويبقيك لنا يا رب.
ويجيب العمدة في فرح مبتسم، سعيدا أنه مقصد يدعى له ويسعى إليه: خيبك الله يا ولد يا كمال، يا بني الفجر حاضر لا يزال، ألا تنام يا ابن الملاعين؟
ويجيب كمال في تظاهر بالعبط والسذاجة السعيدة بهذه المداعبة: أطال الله عمرك يا حضرة العمدة، ولا أرانا فيك سوءا أبدا، والله صحوت وجئت إليك؛ لأني أستبشر بوجهك يا حضرة العمدة. - تعني أنك تريد أن تجد مأتما بعد أن تشوفني؟ - العفو يا حضرة العمدة، إنما وجهك كله أفراح، اللهم أطل عمرك يا رب أنت وستي درية الأميرة المؤدبة ...
ويسارع بالاستدراك: وستي الحاجة يا رب. - طيب طيب انتظر حتى تحضر لك فاطمة لتفطر.
ويجيب كمال بالدعاء مترسلا، ويترك موقفه من الشباك ويذهب إلى الباب الخلفي لينتظر ما سيجود به العمدة، وتمر به درية فيسارع منتهزا الفرصة السانحة: صباح الخير يا ستي درية. - صباح الخير يا كمال، كيف حالك؟ ألم تحضر لك فاطمة الفطور؟ - ستحضره يا ستي، لا تتعبي نفسك، اللهم أطل عمرك يا رب.
وتنصرف عنه درية إلى شئون المنزل ويظل هو حيث هو: إن رأى عينا تطل عليه أمعن في الدعاء للعمدة ولزوجته وابنته، وإن آمن كيد العيون صمت وظل ينظر إلى الخير الذي يرتع فيه العمدة، فيرى الدجاج الكثير معه الوز والبط، ويلقي بنظرة إلى مرتع الماشية فيرى عددا وفيرا من الجاموس والبقر والثيران والحمير والخيل، ويل للأيام! أكل هذا الخير في بيت واحد تنعم به أسرة واحدة؟! أهذا عدل يا رب؟ ويا ليته جمع ما جمع من الطريق الحلال! بل هو النصب والسرقة والرشوة، عدلك يا رب! هذا العتل الغليظ يتمتع بكل هذه الخيرات وأنا لا أملك شيئا، ما ذنبي إن كان أبي طبالا فكنت مثله؟ وكان أبوه عمدة فهو مثله! أأنا الذي خلقت أبي وجدي ومن سبقهم وقلت لهم كونوا طبالين فكانوا؟! أي ذنب جنيته؟! آه لو تحقق حلمي! اللهم حقق أملي يا رب، شيء تافه ذلك الذي أرجو أن أحصل على ثمنه أو أجده أو حتى أجد فرصة لأسرقه.
وتنقطع آمال كمال عندما تأتي فاطمة وفي يدها الطعام، ويسارع كمال داعيا لها ممازحا: اللهم أطل عمرك يا فاطمة أنت وسيدي وسيتي. - يا أخي كل، ما لك كثير الكلام؟! أتظننا فارغين مثلك؟! كل بسرعة.
ولا يمنع هذا الرد الجاف كمالا من أن يصل مزاحه: اللهم لا تحرمني من يديك الكريمتين، تتزوجيني يا فاطمة؟
صفحة غير معروفة