وقد قامت بينه وبين سعدية أم الخير قصة حب، كان هو الطرف الوحيد فيها، فلم تكن الطاقية المنحرفة ولا الزر المفتوح ولا المشية المنتظمة ولا إجادة التصويب، لم يكن شيء من هذا ليغري سعدية به، ولكنه أصر على حبها فلم تبال هي ولا أبوها إصراره، وتزوجت من صالح أبي سعد الله.
وأما نور الكحلة فهو رجل حديث التخرج من سجن المديرية، ولقد سجن في واحدة من جريمتين إحداهما يرويها هو والأخرى ترويها ملفات القضية القابعة في المحكمة، والتي لا يطلع عليها إلا المعنيون بالأمر، أما التي يرويها هو فهي أنه كان يحب فتاة تسكن في جواره بالبندر، وكانت البنت لعوبا تحب أن يعجب الناس بها، وكان هو يرقبها ليل نهار، فحين عرف القوم أنها لا تسير إلا وعينه رقيب عليها، انفضوا عنها وتركوها خشية عيونه الرقيبة وجبروته وعنفه وخشية سطوته وسلطانه؛ فقد كان ساعي الباشا المدير، حتى كان يوم وقعت فيه مشادة بينه وبين ولد تافه يعمل كاتب حسابات في المديرية، فاغتاظ منه الكاتب وأراد أن يفجعه في أعز شيء لديه، فتقدم للجارة يخطبها، فلم يجد نور بدا من أن يطلق الرصاص على الكاتب ولكن الرصاصة أخطأته؛ لأن السلاح كان قديما، فحبس نور، تلك هي رواية نور.
وأما الحقيقة فهي أن نورا كان يعمل ساعيا بمكتب المدير حقا، ولكنه لم يحب فتاة ولم يطلق رصاصا، وإنما سرق حافظة المدير في أول الشهر وعاش المدير شهرا يقترض، ولم يتمكن نور من إخفاء الحافظة بعد أن صرف النقود، فقبض عليه وأودع السجن، وشددت العقوبة، لا لأن الحافظة حافظة المدير، ولكن لأنه ساعي المدير، وكان المفروض أن يكون أمينا على الحافظة لا سارقها.
وعاد نور إلى القرية يعيش على ريع فدان وعشرة قراريط جمع ثمن أغلبها من نفحات القوم في المديرية، تلك التي كانت تعطى له عن كرم، أو تلك التي كان يختلسها اختلاسا كلما غفلت عين صاحب مال عن ماله.
تلك هي الجماعة أكاد أكون قد ألممت بها جميعا لم أترك منها أحدا، وإن كنت قد تركت شيئا لم أذكره فما أظنني قد أسقطت جليلا ولا أغفلت أمرا ذا بال، وهل كانت تلك اليد الدائرة بالمخدر إلا يدا تمتد عن كمية من الهمل تنظر إليها الجماعة أو لا تنظر، فهي بقعة في الأرض لا تزيد، فأسرار الجماعة كلها تدار على مسمع من هذا الشيء، يكادون لهوان شأنه لا يحسون أن معهم خامسا، فجرائم القتل أو السرقة أو تجارة المخدرات جميعا تلقى، ويخيل لأعضاء المنتدى أنها تلقى في الأرض، فما كانوا يحسون أن في وسطهم أذنا تسمع، ألم أقل لك إنهم ما كانوا يحسون بصاحب الأذن جميعا؟ فكيف بأذنه؟!
كان ذلك الشيء هو كمالا، وكان في جلسته تلك يقدم إلى نفسه أمتع ما تتمتع به نفسه، فلم يكن أحب إليه من تلك الجلسة يستمع فيها إلى هؤلاء الجبابرة وهم يروون أفاعيلهم وكيف نجوا منها، ولم يكن كمال غبيا كل الغباء؛ فقد كان باستطاعته أن يعرف الكذب من الصدق فيما يقولون، ولكنه كان يطلق إعجابه الضخم بأعمالهم جميعا ما وقع منها وما لم يقع، وقد كان مديحه شيئا مفروضا في الجلسة، ينتظره كل منهم ولا يجيب عليه، وإنما يستقبله في صمت فرحان، ويمضي فيما كان يقول وكأن أحدا لم يمدح، أو يقاطع، أو يبذل أقصى غايات الجهد ليبلغ بنفاقه إلى أروع الإتقان.
هذه هي الجماعة التي كان ينضم عليها بيت النمرود في كل مساء.
وكان قد مضى على الجماعة عدة أمسيات لم تشرف فيها بجلسة الدفراوي في صدرها، وكانت الجماعة تقول فيما بينها إن لديه مأمورية في بلدة ما.
حتى كان ذلك اليوم فإذا هم يتناقلون فيما بينهم أن الفرماوي قد قتل، فيسأل الكحلة: قتل؟ من قال؟ - أنا كنت في الزمارنة، كنت أبيع بيعة إلى الطحاوي وعرفت أنه قتل. - إذن فالدفراوي نجح في مهمته! - وهل كنت تشك في هذا؟
فقال الزهار في اعتزاز: يد الدفراوي قاعدة لا تخيب أبدا.
صفحة غير معروفة