محاضرات عن الحركات الإصلاحية ومراكز الثقافة في الشرق الإسلامي الحديث
تصانيف
رسم له تلميذه عبد الرحمن الجبرتي في مفتتح ترجمته له صورة جامعة مانعة، فقال: هو «شيخنا علم الأعلام، والساحر اللاعب بالأفهام، الذي جاب في اللغة والحديث كل فج، وخاض من العلم كل لج ... الرحالة النسابة، الفقيه المحدث، اللغوي النحوي الأصولي، الناظم الناثر، الشيخ أبو الفيض، السيد محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرزاق، الشهير بمرتضى، الحسيني الزبيدي.»
والحقيقة أن السيد مرتضى خير نموذج يمثل ثقافة العالم الإسلامي في عصره، تلك الثقافة التي كان قوامها الدراسات اللغوية والدينية بجميع فروعها؛ فهو - كما نص الجبرتي - لغوي ونحوي، وناظم وناثر، وهو فقيه ومحدث، وأصولي ونسابة، وهو بعد هذا كله رحالة، يذرع البلاد الإسلامية طولا وعرضا في طلب العلم، وتلك كانت كذلك شيمة معظم العلماء المسلمين في عصره، وفي الأعصر السابقة.
ولكنه امتاز عن علماء عصره بميزات كثيرة؛ فكان متوقد الذهن شديد الذكاء غزير العلم متعدد الثقافة، دءوبا على العمل وافر الإنتاج، وقد حاول أن يخرج بدروسه ومؤلفاته عن منطقة الجمود الفكري التي سادت العصر، وأن يجدد فيما يقول وفيما يكتب، ولكنه كان في تجديده سلفيا، وما كان يستطيع أن يكون غير ذلك، فكان يحاول أن يحيي طريقة السلف الصالح في دراسة الحديث، كما بدأ يختار لدروسه كتبا من الأصول الهامة التي كتبت في العصور السابقة المزدهرة. وكان السيد مرتضى إلى هذا مدرسا ناجحا كأحسن ما يكون المدرس الناجح، يجيد التعبير ويحسن العرض والشرح والمناقشة، فكان - كما وصفه تلميذه الجبرتي بحق - «علم الأعلام، والساحر اللاعب بالأفهام.»
والسيد مرتضى يعتبر مرة أخرى خير نموذج للمواطن المسلم؛ فقد كان العالم الإسلامي إلى عصره - وقبل أن يفتته الاستعمار الأوروبي إلى دول متفرقة - يعتبر وطنا واحدا، وكان أي مواطن - وخاصة إذا كان عالما - يستطيع أن ينتقل من بلد إلى بلد دون حرج؛ فقد يولد العالم في إقليم، ويتلقى العلم في إقليم ثان، ويعيش في إقليم ثالث، ثم يموت في إقليم رابع، فهو يلقى الترحاب في كل هذه الأقاليم؛ لأنها جميعا تكون الوطن الإسلامي الأكبر.
هكذا كان السيد محمد؛ فهو - كما يصفه الكتاني في فهرس الفهارس: «واسطي عراقي أصلا، هندي مولدا، زبيدي علما وشهرة، مصري إقامة ووفاة ، حنفي مذهبا، قادري إرادة، نقشبندي سلوكا، أشعري عقيدة.»
فأسرة الزبيدي عراقية الأصل من مدينة واسط، ثم ارتحلت إلى الهند، والرحلة المتبادلة بين الهند الإسلامية والبلاد العربية - وخاصة العراق والجزيرة العربية - لم تكن شيئا غريبا في تلك العصور، ولا نعرف متى رحلت هذه الأسرة، ولكننا نعرف أنها استقرت في «بلجرام» وهي قصبة على خمسة فراسخ من قنوج وراء نهر الجانج، وبها ولد صاحبنا محمد في سنة 1145ه/1732م.
وكانت أسرته أسرة علم؛ فإن من جدوده من كان قطبا، ومنهم من كان وليا صالحا، ومنهم من كان محدثا كبيرا، فقد قال الكتاني في التعريف به: «... محمد بن أبي الغلام محمد، ابن القطب أبي عبد الله محمد، ابن الولي الصالح الخطيب أبي الضياء محمد، ابن عبد الرزاق الحسيني، من قبيل أبي عبد الله محمد المحدث الكبير ...» (1-1) دراسته الأولى في الهند وتتلمذه لشاه ولي الله
وفي الهند تلقى السيد محمد دروسه الأولى، فتتلمذ على المحدث محمد فاخر الألهابادي، وعلى العالم المصلح المجدد شاه ولي الله دهلوي، فسمع عليه الحديث وأجازه.
لقد كانت في الهند حينذاك نهضة دينية تجديدية، يتزعمها شاه ولي الله،
1
صفحة غير معروفة