382

الحرافيش

تصانيف

وقعت حادثة لا تعتبر غريبة بمقايس ما يقع في الحارة، ولكنها هزت قلوب الأسرة هزا. كانت حليمة تقدم كافة الخدمات لدار الفتوة حسونة السبع بلا مقابل، بلا كلمة شكر. حتى هنا لا غرابة ولا تعجب؛ فقد كان حسونة من أفظع الفتوات الذين سيطروا على الحارة وأذلوها. كان يستغل حتى أفقر الفقراء. وكان يجادل بيده وقدمه لا بلسانه، وينشر الرعب مع الهواء. وكان على شراسته وقوته حذرا كثعلب. هو الذي أوجب على جميع أتباعه بأن يستأثروا لأنفسهم بزقاق لا يقيم فيه أحد غيرهم ليتجنبوا مؤامرة كالتي دبرت للفتوات أيام فتح الباب. وهو نفسه شيد داره في نهاية الزقاق.

وقد حدث أن تأخرت حليمة في صنع صفيحة مفتقة بسبب وعكة طارئة، ولما ذهبت بها إلى الدار لعنها بعنف وصفعها. ورجعت المرأة دامعة العينين، ولكنها أخفت الخبر عن ابنيها ضياء وعاشور. غير أن ضياء كان يتردد أحيانا على البوظة، وفي مرة سأله زين علباية الخمار: ألم تعلم بما حدث للست الوالدة؟

هكذا تلقى ضياء الإهانة، ثم قذف بها دامية في قلب عاشور. وتلظى ضياء بالغضب، ولكن شرره لم يجاوز جدران البدروم، أما عاشور فغاص في الحزن حتى قمة هامته. كان قويا ومهذبا. غطى تهذيبه على قوته فواراها عن الأعين.

وكان نبيل الرأس غليظ القسمات غامق السمرة، وفي وجنتيه بروز وفي فكيه صلابة. ولم يطق البقاء في البدروم مع أحزانه فخرج إلى الظلام، مسوقا بقوة خفية نحو ساحة التكية، نحو خلود جده عاشور. جلس القرفصاء دافنا رأسه بين ركبتيه في جو جامد لا يتنفس، تسبح فيه الأناشيد وحدها. أصغى طويلا وغمغم: ما أشد ألمي يا جدي!

وناجته الأناشيد بلغتها الغامضة:

في مهر رخت روز مرا نور تماندست

وزعمر مرا جز شب ديجور نماندست

8

واستقرت الإهانة في الأعماق؛ فهي لا تهضم ولا إلى الخارج فتقذف. وكان عاشور ينمو نموا فذا كشجرة توت، يذكر هيكله المتمادي في العملقة وملامحه الغليظة الجذابة بما قيل في وصف جده عاشور. أصبح منظر راعي الغنم جديرا بلفت الأنظار. وخافت حليمة أن تثير قوته هواجس الوحش حسونة السبع فحذرته قائلة: تناس قوتك. تظاهر بالجبن فهو أرحم. ليتني ما سميتك بعاشور!

ولكن الفتى كان فطنا، مستغنيا بفطنته عن التحذير. وكان يمضي طيلة نهاره في الخلاء بين الماعز بصحبة معلمه أمين الراعي. لم يظهر قط في البوظة أو الغرزة أو القهوة. لم يستعمل قوته قط إلا في المثابرة والصبر. أجل مزقته الإهانة. غضب حتى تخيل أركان الحارة وهي تهدم ويبعث من في القبور، ولكنه لم يتهور، ضبط نفسه، لم يتجاهل القوة الغشوم المتربصة الحذرة القاسية ونبابيتها المتأهبة، وكلما ضاق صدره مضى إلى ساحة التكية، يؤاخي الظلام، ويذوب في الأناشيد. وتساءل مرة في حيرة: ترى أيدعون لنا أم يصبون علينا اللعنات؟

صفحة غير معروفة