كتاب
حقيقة الإيمان
بقلم
عبد الله محمد (طارق) بن أحمد (عبد الحليم) القنائي
-تغمده الله برحمته-
بسم الله الرحمن الرحيم
تصدير (*)
"مما يجب أن يعلم أن الذي يريد أن ينكر على الناس ليس له أن ينكر إلا بحجة وبيان، إذ ليس لأحد أن يلزم أحدًا بشيء، ولا يحظر على أحد شيئًا بلا حجة خاصة، إلا رسول الله ﷺ المبلِّغ عن الله الذي أوجب على الخلق طاعته فيما أدركته عقولهم، وما لم تدركه، وخبره مصدق فيما علمناه، وما لم نعلمه.
وأما غيره إذا قال: هذا صواب أو خطأ، فإن لم يبين ذلك بما يجب به اتباعه، فأول درجات الإنكار أن يكون المنكر عالمًا بما ينكره، وما يقدر الناس عليه، فليس لأحد من خلق الله كائنًا من كان أن يبطل قولًا أو يحرم فعلًا إلا بسلطان الحجة، وإلا كان ممن قال الله فيه [الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ماهم ببالغيه] (١)، وقال فيه [الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتًا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار] (٢) .
هذا وأنا في سعة صدر لمن يخالفني، فإنه وإن تعدى حدود الله فيّ بتكفير أو تفسيق، أو افتراء أو عصبية جاهلية: فأنا لا أتعدى حدود الله فيه. بل أضبط ما أقوله وأفعله، وأزنه بميزان العدل، وأجعله مؤتمًا بالكتاب الذي أنزله الله، وجعله هدى للناس، حاكمًا فيما اختلفوا فيه.
قال الله تعالى: [كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه] (٣)، وقال تعالى: [فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول] (٤) . وقال تعالى: [لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط] (٥) .
_________
(*) صدرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب في مطبعة المدني بالقاهرة ١٩٧٩ م
(١) غافر ٥٦.
(٢) غافر ٣٥.
(٣) البقرة ٢١٣.
(٤) النساء ٥٩.
(٥) الحديد ٢٥.
1 / 1
ذلك أنك ما جزيت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه [إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون] (١)، وقال تعالى [وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا إن الله بما يعملون محيط] (٢) .
وإن أرادوا أن ينكروا بما شاءوا من حجج عقلية أو سمعية فأنا أجيبهم إلى ذلك كله وأبينه بيانًا يفهمه الخاص والعام أن الذي أقوله: هو الموافق لضرورة العقل والفطرة، وأنه الموافق للكتاب والسُّنَّة وإجماع سلف الأمة، وأن المخالف لذلك هو المخالف لصريح المعقول، وصحيح المنقول، فلو كنت أنا المبتدئ بالإنكار، والتحديث بمثل هذا لكانت الحجة متوجهة عليهم، فكيف إذا كان الغير هو المبتدئ بالإنكار [ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ماعليهم من سبيل] (٣) . [ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون] (٤) . [إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد] (٥) . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.." (٦) .
المقدمة
إن الحمد لله نستعينه ونستغفره، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله ﷺ.
وبعد:
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وقد أمر الله ﷿ المؤمنين بالاعتصام بحبله، والتزام الجماعة، وذم التفرق والاختلاف في كتابه وعلى لسان رسوله ﷺ.
قال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا) (٧) .
قال الطبري: (عن ابن مسعود أنه قال: "واعتصموا بحبل الله جميعًا" قال: الجماعة) (٨) .
_________
(١) النحل ١٢٨.
(٢) آل عمران ١٢٠.
(٣) الشورى ٤١.
(٤) الصافات ١٧١-١٧٣.
(٥) غافر ٥١.
(٦) من رسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية مجموع الفتاوى جـ٣صـ٥٤٢.
(٧) آل عمران ١٠٣.
(٨) الطبري جـ٤ص٣٠.
1 / 2
وقال تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) (١) .
عن ابن مسعود ﵁ قال: "خط لنا رسول الله ﷺ يومًا خطًا ثم قال: هذه سبيل الله ثم خط خطوطًا عن يمينه وخطوطًا عن يساره ثم قال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها ثم قرأ هذه الآية" (٢» .
قال القرطبي: "وهذه السبل تعم اليهودية والنصرانية والمجوسية، وسائر أهل الملل وأهل البدع والضلالات من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع، وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام" (٣) . ولكن لما كان أمر الله قدرًا مقدورًا، ولا تبديل لكلمات الله، فقد افترقت الأمة كما أخبر عن ذلك ﷿ وكما حذر رسول الله ﷺ.
قال تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة. ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) (٤) . وقال ﷺ: "لتركبن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتم حتى لو أن أحدهم جامع امرأته بالطريق لفعلتموه" (٥) .
كما قال ﷺ: "إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة" (٦) .
_________
(١) الأنعام ١٥٣.
(٢) رواه ابن ماجه والدرامي واللفظ له.
(٣) القرطبي جـ٧ص١٣٨.
(٤) هود ١١٩. وقد قيل في معنى قوله تعالى (ولايزالون مختلفين) وجهين أنها في المختلفين في أصل الدين كاليهود والنصارى، والآخر أنها في أهل البدع المتفقين في أصل الدين المختلفين في الآراء. وعلى هذا يكون "إلا من رحم ربك" هم أهل السّنة. راجع الاعتصام للشاطبي جـ٢ص١٦٦ إلى ص١٧٢.
(٥) أخرجه الحاكم.
(٦) رواه ابن ماجه بسنده عن أنس. وللحديث روايات أخرى اختلفت في عدد الفرق وقد حاول الشاطبي التوفيق بين هذه الروايات كلها راجع الاعتصام جـ٢ص٢٤٠.
1 / 3
وقال ﷺ: "لاتزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك" (١» .
فعلم من هذا يقينًا أن هذه الطائفة الناجية الظاهرة على الحق، العارفة به، هي الواجب اتباعها، وهي التي على ما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه كما جاء في إحدى روايات الحديث.
وإن هذه الفرقة الناجية - بإذن الله - هي التي تتناول النصوص - من الكتاب والسُّنَّة - متبعة في فهمها أصول النظر الصحيح والفهم السليم الذي يجب أن يفهم منها بإعتبار مفهوم خطاب العرب ولغتهم، وبإعتبار فهم مقاصد الشريعة العامة واتجاهها، وهو الفهم الذي سلكه السلف الصالح، فخط به اتجاهًا في النظر إلى الأمور نتج عنه مسلك أهل السُّنَّة والجماعة عبر العصور والقرون في فهم ما عرض من مشكلات فكرية وعقائدية، فالناس في فهم الأمور طرفان ووسط.. الطرفان إما إلى تفريط وإما إلى إفراط.
والوسط هم أهل العدل الذين قال الله تعالى فيهم: "وكذلك جعلناكم أمة وسطًا" (٢) .
وكان من نتيجة الفرقة والاختلاف، واختلال الفهم والنظر، أن نشأت في الإسلام فرق كثيرة - سواء - عقائدية أو سياسية (٣) - فرقت أهل الإسلام وجعلتهم شيعًا وأحزابًا ... كل حزب بما لديهم فرحون! .
وكانت هذه الفرق - على الجملة - إما إلى تفريط - كما هو حال المرجئة - وإما إلى إفراط كما هو حال الخوارج.
_________
(١) رواه مسلم.
(٢) البقرة ١٤٣.
(٣) راجع الفرق بين الفرق للبغدادي، الملل والنحل لابن حزم، وغيرها من كتب الفرق لترى كيف لعب الشيطان بهؤلاء الناس فمزقوا دينهم وصاروا شيعًا وأحزابًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
1 / 4
وقد كان السبب الأساسي في إنحراف هذه الفرق عن جادة الطريق راجع إلى عدة أسباب مشتركة في منهجها بينهم، هي سمة أهل البدع والأهواء كلهم في تناول النصوص وفهمها فهمًا مريضًا خادمًا لفكرة أساسية اعتقدوها ابتداءً ثم حملوا عليها النصوص تأكيدًا لفكرتهم وتقديمًا لها على ما قصد إليه الشارع محادةً لله ولرسوله حيث يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) (١) .
يقول الإمام ابن تيمية: "أحدها قوم اعتقدوا معاني، ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها! .
الثاني: قوم فسروا القرآن بمجرد مايسوغ أن يريده من كان من الناطقين بلغة العرب بكلامه من غير النظر إلى المتكلم بالقرآن، والمنزل عليه، والمخاطب به! .
فالأولون راعوا المعنى الذي رأوه من غير نظر إلى ماتستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان، والآخرون راعوا مجرد اللفظ، وما يجوز أن يريد به عندهم العربي من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم، وسياق الكلام" (٢) .
وهذا النهج من النظر إلى النصوص نهج منحرف ولاشك، لأنه يؤدي إلى تضارب القرآن الكريم والسُّنَّة المطهرة، وما من فرقة من هذه الفرق الزائغة إلا وأعرضت عن بعض الآيات والأحاديث التي لم توافق مذهبها غير راغبين في الجمع بينها وبين سواها من النصوص ليتحد الفهم، ويستقيم النظر، ويخرج من مضمون قوله تعالى: (كما أنزلنا على المقتسمين. الذين جعلوا القرآن عضين" (٣) .
روى الطبري في تفسيره عن الضحاك في قوله تعالى: (جعلوا القرآن عضين) جعلوا كتابهم أعضاء كأعضاء الجزور، وذلك أنهم تقطعوه زبرا، كل حزب بما لديهم فرحون، وهو قوله تعالى: (فرقوا دينهم وكانوا شيعًا) (٤) .
وقد بيَّن الشاطبي مسالك أهل البدع والأهواء في الفهم السقيم، منبهًا على مسالك أهل الحق في الفهم المستقيم، في كتابه "الاعتصام".
_________
(١) الحجرات ١.
(٢) مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية ص٨١.
(٣) الحجر ٩١.
(٤) الطبري ج١٤ص٦٤..
1 / 5
يقول: "أن للراسخين طريقًا يسلكونها في اتباع الحق، وأن الزائغين على طريق غير طريقهم، فاحتجنا إلى بيان الطريق التي سلكها هؤلاء لنجتنبها، كما نبين الطريق التي سلكها الراسخون لنسلكها" (١) .
ومعالم الطريق المستقيم واضحة بينة لمن أراد الله له الهداية والتوفيق كما قال تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه) (٢) .
ويمكن أن نجمل بعض سمات أهل البدع والأهواء في مذهبهم في النظر والاستدلال تبعًا لما قرره أئمة أهل السُّنَّة في كتبهم فنقول، أن من طرقهم.
الإعتماد على الأحاديث الواهية الضعيفة والمكذوبة.
ردهم للأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم، إما بدعوى أنها غير موافقة للعقول أو أنها غير جارية على الدليل إلى غير ذلك من الشبه.
عدم رد الفروع الجزئية إلى قواعدها الكلية واتباع المتشابه من الآيات وعدم ردها إلى المحكم.
عدم الأخذ بطريق الراسخين في العلم في تناول النصوص بالجمع بين أطراف الأدلة.
فما أجمل في مكان بُيِّن في آخر، وما أطلق في موضع قيد في آخر، وماعم في نص خصص في آخر ... فالعمل بالمجملات والمطلقات والعمومات دون النظر إلى مخصصاتها ومقيداتها ومبيناتها يؤدي إلى الزيغ والهلاك.
وليس هذا موضع شرح هذه المآخذ في الاستدلال، وما يمكن أن تؤدى إليه (٣)، ولكننا أردنا أن ننبه إلى طرف منها، لنكون منبهين على تجاوز كلا الطرفين المفرطين، والمفرّطين، في حدود الله والاعتداء عليها لعدم فهمهم الأصيل لمسالك السلف في تناول النصوص.
_________
(١) الاعتصام للشاطبي جـ١ص٢٢٣.
(٢) الأنعام ١٥٣.
(٣) يراجع بحثنا التالي إن شاء الله تعالى عن "أصول الفكر والنظر عند أهل السّنة والجماعة".
1 / 6
وإن من أهم الأمور وأخطرها في عصرنا الحالي - وواقعنا الإسلامي على وجه الخصوص - هو ضرورة إزالة الالتباس الذي حدث في الفهم العام لحقيقة الإسلام والإيمان، بعد أن تجاذب الناس الطرفين الذين أشرنا إليهما في هذا السياق، فمن قائل إن الإسلام الكلمة، وإن من نطق بالشهادتين فهو المسلم عند الله تعالى لا يضره بعد ذلك عمل كائنًا ما كان، ومن قائل أن الأعمال كلها - فرضها ونفلها - داخلة في الحد الأدنى للإسلام فمن ترك منها شيئًا - فرضًاأو نفلًا - أو أتى محرمًا أو مكروهًا مع علمه به، كفر بالله والعياذ بالله.
وكلا القولين هو من نتاج ذلك الفهم الأعوج الذي ذكرناه، وستكون قضيتنا الأساسية هنا هي قضية من أخطر قضايا الفكر الإسلامي، وهي "دخول الأعمال في الإيمان ولزوم جنسها لصحته، والقدر المطلوب منها ليصير الرجل مسلمًا، وما يجب أن يفعل، وما يجب أن يترك ليحقق إسلام المرء ظاهرًا وباطنًا".
وهي القضية التي تميعت في عقول الناشئة من "دعاة الإسلام" في هذا العصر، حيث خلطوا في النصوص أو اتبعوا المنهج الأعوج في الفهم، فخرجوا إلى نتائج شابهت في كثير منها ما خرجت إليه الفرق التي شذت عن أهل السُّنَّة والجماعة في مختلف العصور.
كما سنناقش بالدليل الشرعي المدعم بالنصوص الثابتة كلًا من الفريقين المفرّطين والمفرطين الذين قال عنهما ابن تيمية بحق "أن معرفة أدلة كل منهما لا تفيد إلا في هدم مذهب الآخر".
وقد قال بعض السلف: "ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط. وإما إلى مجاوزة، وهي الإفراط ولا يبالي بأيهما ظفر زيادة أو نقصان" (١) .
وبعد:
_________
(١) مدارج السالكين لابن القيم ج٢ص١٠٨.
1 / 7
فإنه من فضل الله تعالى أن هدانا للمسلك القويم - مسلك أهل السُّنَّة والجماعة - وسط هذا الخضم الهائل من الآراء والأهواء، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ونسأله تعالى أن يوفقنا إلى الاعتصام بحبله والثبات على هديه إنه سميع عليم.
اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
الباب الأول
مفاهيم ضرورية
الفصل الأول
الإسلام والإيمان
إن المتتبع لآيات القرآن الكريم، وأحاديث رسول الله ﷺ، يجد أن كلًا من لفظي "الإسلام والإيمان" قد وردا في بعضها بمعنى واحد - أي مترادفين - يدلان على مسمى واحد، وفي بعضها الآخر ورد كل منهما بمعنى مغاير للآخر، ودلّ كل منهما على معنى غير الذي دل عليه الآخر.
وقد تكلم السلف الصالح، وأئمة الإسلام في هذه القضية وامتلأت كتبهم بتحليلها، ونحن - إن شاء الله - ذاكرون لبعض الشواهد من الكتاب والسُّنَّة على هذه القضية أولًا، ثم جامعون بين أطراف هذه الشواهد والأدلة لنصل بذلك إلى الفهم المستقيم الذي تتواكب فيه المعاني كلها وتنتظم في اتساق يرفع الخلاف بين نصوص هذه الشريعة الغراء كما قال تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا) (١) .
أولا ً: فقد وردت آيات وأحاديث تفيد أن الإسلام هو الأعمال الظاهرة من البدن، والإيمان هو الأعمال الباطنة في القلب، فهما إذن متغايران.
مثال ذلك، قال تعالى: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) (٢) .
وصح عن رسول الله ﷺ فيما رواه عنه مسلم بسنده عن عمر بن الخطاب قال:
_________
(١) النساء ٨٢.
(٢) الحجرات ١٤.
1 / 8
"بينما نحن عند رسول الله ﷺ ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي ﷺ فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله ﷺ: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال صدقت. قال فأخبرني عن الإحسان قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.." (١) .
وفي الصحيحين عن ابن عمر ﵄: "أن رجلًا سأل النبي ﷺ: أي الإسلام خير. قال: أن تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" (٢) .
وفي حديث عبد الله بن عبيد الله بن عمير عن أبيه عن جده أنه قيل لرسول الله ﷺ: ما الإسلام؟ قال: إطعام الطعام وطيب الكلام [قيل فما الإيمان، قال: السماحة والصبر] (٣) .
ثانيًا: كما وردت الآيات والأحاديث تفيد أن الأعمال الظاهرة داخلة في معنى الإيمان، وأن الأعمال الباطنة داخلة في معنى الإسلام. ومن ذلك:
قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون) (٤) .
_________
(١) رواه مسلم.
(٢) رواه البخاري ومسلم.
(٣) صححه الألباني وقال، حديث صحيح رجاله ثقات لولا عنعنة الحسن ولكن له شاهد من حديث عمرو بن عبسة في المسند ٤/٣٨٥ وآخر من حديث عبادة بن الصامت ٥/٣١٨-٣١٩. راجع رسالة الإيمان لابن أبي شيبة ص١٨ طبعة المدرسة السلفية.
(٤) الحجرات ١٥.
1 / 9
وفي الصحيحين عن أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ قال: "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" (١) .
وفي حديث وفد عبد القيس: "آمركم بأربع: الإيمان بالله وحده وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا الخمس من المغنم ... " (٢) .
وعن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: "إن للإسلام صوى ومنارًا كمنار الطريق منها أن تؤمن بالله ولا تشرك به شيئًا وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن تسلم على أهلك إذا دخلت عليهم وأن تسلم على القوم إذا مررت بهم فمن ترك من ذلك شيئًا فقد ترك سهمًا من الإسلام ومن تركهن فقد ولى الإسلام ظهره" (٣) .
وقال تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) (٤) .
ثالثًا: كما وردت آيات وأحاديث تفيد أن الإسلام والإيمان مترادفين. ومن ذلك:
قوله تعالى: (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) (٥) .
_________
(١) راجع شرح النووي على مسلم جـ٢ص٣.
(٢) السابق جـ١ص١٨١.
(٣) قال الألباني صحيح على شرط الشيخين راجع الإيمان لأبي عبيد ص١١ طبعة المدرسة السلفية.
(٤) آل عمران ٢٩.
(٥) الذاريات ٣٥.
1 / 10
قال الإمام أحمد حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا عباد بن راشد حدثنا الحسن حدثنا أبو هريرة ونحن بالمدينة قال: قال رسول الله ﷺ، "تجئ الأعمال يوم القيامة فتجئ الصلاة فتقول يارب أنا الصلاة فيقول إنك على خير. وتجئ الصدقة فتقول يارب أنا الصدقة فيقول إنك على خير، ثم يجئ الصيام فيقول يارب أنا الصيام فيقول إنك على خير. ثم تجئ الأعمال كل ذلك يقول الله تعالى إنك على خير، ثم يجئ الإسلام فيقول يارب أنت السلام وأنا الإسلام فيقول الله إنك على خير بك اليوم آخذ وبك أعطي" (١) .
والجمع بين كل ماسبق من الآيات والأحاديث التي ذكر في بعضها أن الإسلام شئ والإيمان شئ آخر، وفي بعضها أن الإسلام بمعنى الإيمان، هو أنه كما قال ابن رجب: "إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر، ودل بانفراده على ما يدل عليه الآخر بانفراده، فإذا قرن بينهما دل أحدهما على بعض مايدل عليه بانفراده، ودل الآخر على الباقي" (٢) .
ثم يقول ابن رجب بعدها: "وقد صرح بهذا المعنى جماعة من الأئمة. قال أبو بكر الإسماعيلي في رسالته إلى أهل الجبل: قال كثير من أهل السُّنَّة والجماعة إن الإيمان قول وعمل، والإسلام فعل مافرض الله على الإنسان أن يفعله. إذا ذكر كل اسم على حدته مضمومًا إلى الآخر، فقيل المؤمنون والمسلمون جميعًا مفردين أريد بأحدهما معنى لم يرد به الآخر، وإذا ذكر أحد الاسمين شمل الكل وعمهم. وقد ذكر هذا المعنى أيضًا الخطابي في معالم السُنن وتبعه عليه جماعة من العلماء بعده" (٣) .
_________
(١) رواه أحمد في مسنده.
(٢) رواه أحمد.
(٣) جامع العلوم لابن رجب ص ٢٦.
1 / 11
ثم يقول: "وقد نقل هذا التفريق بينهما عن كثير من السلف: منهم قتادة وداود ابن أبي هند وأبو جعفر الباقر والزهري وحماد بن زيد وابن مهدي وشريك وابن أبي ذئب وأحمد بن حنبل وأبو خيثمة ويحيى بن معين وغيرهم.. وبهذا التفصيل الذي ذكرناه يزول الاختلاف فيقال: إذا أفرد كل من الإسلام والإيمان بالذكر فلا فرق بينهما حينئذ، وإن قرن بين الاسمين كان بينهما فرق. والتحقيق في الفرق بينهما أن الإيمان هو تصديق القلب وإقراره ومعرفته، والإسلام هو استسلام العبد لله وخضوعه وانقياده له" (١) .
ويقول ابن تيمية: " ... فلهذا فسَّر النبي ﷺ الإيمان بإيمان القلب وبخضوعه وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، وفسَّر الإسلام باستسلام مخصوص هو المباني الخمس وهكذا في سائر كلامه ﷺ يفسَّر الإيمان بذلك النوع ويفسَّر الإسلام بهذا" (٢) .
ويقول: "وأما إذا قرن الإيمان بالإسلام، فإن الإيمان في القلب والإسلام ظاهر" (٣) .
فما ذكرناه هو حاصل الأمر في هذا الموضوع، وبه يرفع الخلاف - كما قال ابن رجب - بالجمع بين أطراف الأدلة كلها، كما هو معلوم من أصول النظر عند أهل السُّنَّة في تناولهم للنصوص.
ثم إن "الدين" هو جماع ذلك كله. يقول شارح الفقه الأكبر: " (والدين اسم واقع على الإيمان والإسلام والشرائع كلها) أي الأحكام جميعها، والمعنى أن الدين إذا أطلق فالمراد به التصديق والإقرار وقبول الأحكام للأنبياء عليهم الصلاة والسلام" (٤) .
_________
(١) جامع العلوم لابن رجب ص٢٦.
(٢) الإيمان لابن تيمية ص٢٢٤.
(٣) مجموع الفتاوى لابن تيمية جـ٧ص٥٥٣.
(٤) شرح الفقه الأكبر لملا على القارى ص٧٣.
1 / 12
ويقول البغوي في شرح السُّنَّة: "قد جعل النبي ﷺ الإسلام اسمًا لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسمًا لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شئ واحد وجماعها الدين" (١) .
وما ذكره البغوي هو أحسن تفسير لهذا الأمر، فإن هذا التقسيم اصطلاحي فقط، أما من ناحية الحقيقة فإن الإيمان لا يوجد إلا بالإسلام، كما أن الإسلام لا يظهر إلا بالإيمان، وإخبات القلب لازمه العمل، كما أن العمل ينبئ عن التزام القلب وإخباته.. وذلك لصحة التلازم بين الظاهر والباطن كما هو مقرر في الأصول (٢) .
يقول ابن تيمية: "وبهذا يظهر خطأ جهم ومن اتبعه في زعمهم أن مجرد إيمان بدون الإيمان الظاهر ينفع في الآخرة، فإن هذا ممتنع، إذ لا يحصل الإيمان التام (٣) في القلب إلا ويحصل في الظاهر موجبه بحسب القدرة، فإن من الممتنع أن يحب الإنسان غيره حبًا جازمًا، وهو قادر على مواصلته ولا يحصل منه حركة ظاهرة إلى ذلك" (٤) .
ويقول شارح الفقه الأكبر " (ولكن لا يكون) أي لا يوجد في اعتبار الشريعة (إيمان بلا إسلام) أي انقياد باطن بلا انقياد ظاهري" (٥) .
_________
(١) عن ابن تيمية في "الإيمان" ص٣١١.
(٢) الموافقات للشاطبي جـ١ المسألة العاشرة.
(٣) والإيمان التام هنا هو الذي ينجو به صاحبه من الخلود في النار، وليس هو الإيمان الكامل أو "الإيمان الواجب كما قد يوهم اللفظ لقول ابن تيمية في شرح معناه "مقدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام" الإيمان الأوسط ص٩٥ ومعلوم أن تارك الشهادتين كافر بإجماع، فإنتفاء إيمان القلب التام مستلزم الكفر.
(٤) مجموع الفتاوى لابن تيمية جـ٧ص٥٥٣.
(٥) شرح الفقه الأكبر ص ٧٢.
1 / 13
كما يقول شارح الطحاوية "فالحاصل أن حالة اقتران الإسلام بالإيمان غير حالة إفراد أحدهما عن الآخر، فمثل الإسلام من الإيمان كالشهادتين أحدهما من الأخرى، فشهادة الرسالة غير شهادة الوحدانية، فهما شيئان في الأعيان وإحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم كشئ واحد، كذلك الإسلام والإيمان، لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له إذ لا يخلو المؤمن من إسلام به يتحقق إيمانه، ولا يخلو المسلم من إيمان به يصح إسلامه" (١) .
الفصل الثاني
الإيمان قول وعمل يزيد وينقص
الإيمان شرعًا (٢): هو تصديق خبر الرسول ﷺ فيما أخبر به عن ربه ﷿ جملة وعلى الغيب والانقياد لشريعته والتزامها (٣) .
والحديث في هذا الأمر على أصلين.
الأول: أن الإيمان قول وعمل.
الثاني: أنه يزيد وينقص.
الأصل الأول: الإيمان قول وعمل.
وتفصيل هذه الجملة أن الإيمان قول وعمل بالقلب واللسان والجوارح.
_________
(١) شرح الطحاوية لابن أبي العز ص ٢٥١.
(٢) وأما عن الإيمان لغة فقد اختلف العلماء في تحديد معناه، فقد نقل عن بعضهم أن الإيمان لغة التصديق وهو ما ذكره ابن حجر في الفتح جـ١ص٤٦، والكشميري في الفيض جـ١ ص ٤٤، وصاحب المعارج جـ٢ ص٢٥. ورد هذا القول الإمام ابن تيمية في كتاب "الإيمان" من ستة عشر وجهًا أنكر فيها أن المعنى اللغوي للإيمان هو التصديق فارجع إليه ص ١٠٦ وبعدها. ونحن لا ننقل هذا الخلاف بتفصيل ولا ننازع فيه لأن لفظ الإيمان منقول عن معناه في استعمال الشرع عند من قال إن معناه اللغوي التصديق، وعند من نازع في نقله فإن معناه اللغوي مطابق للشرعي فالحاصل واحد والحمد لله.
(٣) وسيأتي بيان هذه الجملة في الفصل الثالث من هذا الباب إن شاء الله تعالى.
1 / 14
يقول شارح العقيدة الطحاوية الإمام ابن أبي العز "وهنا أصل آخر وهو أن القول قسمان: قول القلب وهو الإعتقاد (١) وقول اللسان وهو التكلم بكلم الإسلام: والعمل قسمان عمل القلب وهو نيته وإخلاصه وعمل الجوارح" (٢) .
ويقول صاحب "معارج القبول": " (اعلم) يا أخي وفقني الله وإياك والمسلمين (بأن الدين) الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه ورضيه لأهل سماواته وأرضه. وأمر أن لا يعبد إلا به ولا يقبل من أحد سواه ولا يرغب عنه إلا من سفه نفسه ولا أحسن دينا ممن التزمه واتبعه هو (قول) أي بالقلب واللسان (وعمل) أي بالقلب واللسان والجوارح" (٣) .
ويقول الإمام ابن القيم: "وهاهنا أصل آخر، وهو أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل. والقول قسمان: قول القلب وهو الاعتقاد، وقول اللسان وهو التكلم بكلم الإسلام. والعمل قسمان: عمل القلب وهو نيته وإخلاصه وعمل الجوارح" (٤) .
_________
(١) وإن الاصطلاح على تسمية قول القلب هنا "الاعتقاد" وقصره على ذلك يجب أن يفهم منه شمول الاعتقاد لمعنى الالتزام كما سيأتي بعد، وليس "الاعتقاد" أو قول القلب هو مجرد التصديق بمعنى نسبة الصدق إلى الخبر أو المخبر وإنما إن قيل هو التصديق فيعنى به التصديق المخصوص المتضمن للإقرار والالتزام والانقياد، فإنه من المعلوم من الدين بالضرورة أن من "صدق" بشريعة من شرائع الإسلام دون "الالتزام بها" التزام الطاعة بالقبول – وليس التنفيذ كما سيأتي في التفريق بينهما – كان ولا ينجيه الاعتقاد بمعنى التصديق فقط بهذا إلا تضمن الالتزام بطاعة الله فيها فيكون مسلمًا، حتى وإن ترك أعمال الطاعات كسلًا أو هوى، وهذا ما سنفصله بعد في الفصل الثالث من هذا الباب إن شاء الله تعالى.
(٢) شرح العقيدة الطحاوية ص ٢٤٥.
(٣) معارج القبول جـ٢ص١٧.
(٤) كتاب الصلاة لابن القيم ص٢٤.
1 / 15
وبيان هذه الأقسام (١) هو أن:
قول القلب: تصديقه وانقياده (٢) .
قال تعالى: (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون) (٣) . وقال تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا) (٤) . وفي حديث الشفاعة: "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه من الخير ما يزن شعيرة ... " (٥) .
قول اللسان: وهو النطق بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله والإقرار بلوازمهما (٦)
_________
(١) راجع في بيان معاني هذه الأقسام إلى كل من شرح الطحاوية ص٢٤٥ ومعارج القبول جـ٢ص١٧ وغيرها.
(٢) وهو المعنى الذي نبهنا عليه سابقًا من أنه إذا اعتبر "الاعتقاد" هو قول القلب لزم أن يكون "قول القلب" يشمل التصديق والانقياد.
(٣) الزمر ٢٣.
(٤) الحجرات ١٥.
(٥) رواه البخاري ومسلم.
(٦) وننبه هنا إلى أمرين: أولهما: أن النطق بالشهادتين المعتبر شرعًا هو المستلزم لمعرفة معناهما وتحقيق لوازمهما مع ترك ما يناقضهما، وليس هو مجرد النطق اللفظي فقط كما سنبين في الفصل الثاني من الباب الثالث، وإلا فإن الجهل بمعناهما يتنافى كلية مع معنى قول القلب السابق لقول اللسان، والذي أجمع العلماء على اعتباره ركن الإيمان، إذ كيف يجتمع الجهل بالشئ مع تصديقه والإقرار به؟! ويرجع في هذا تفصيلا لكتابنا عن عارض الجهل في الشريعة المسمى "الجواب المفيد".
ثانيًا: أن المراد بالنطق بالشهادتين هو ظهور دلالة الإسلام، فإن إسلام الفارسي الذي لا يتكلم العربية يتحقق بمجرد إعلانه الإستسلام بلفظ "ميتراس" أي أسلمت، وأي دلالة على الإسلام تكون معتبرة طالما أنها تكفي للتدليل على الإنخلاع من الشرك والتبري من دين الكفر، فإن قول الشهادة يكون معتبرًا في بعض الحالات كحالة عباد الأوثان فإنه يكتفي منهم بقول لا إله إلا الله لأنهم لم يكونوا عليها قبل الإسلام، وأما أهل الكتاب المعتقدين لرسالة محمد ﷺ إلى العرب فلا يكتفى بنطقه الشهادتين منهم بل لابد من أن ينضم إليهما قول "إلى العرب العالم كافة" يقول الإمام النووي في شرحه على مسلم: "ذكر القاضي عياض معنى هذا وأوضحه، فقال اختصاص عصمة المال بالنفس بمن قال لا إله إلا الله تعبير عن الإجابة إلى الإيمان. وأن المراد بهذا مشركو العرب وأهل الأوثان ومن لا يوحد وهم كانوا أول من دعى إلى الإسلام وقوتل عليه فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفي في عصمته بقول لا إله إلا الله إذ كان يقولها في كفره وهي من اعتقاده، ولذلك جاء في الحديث الآخر وأني رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة"اهـ.
كلام القاضي شرح النووي على مسلم جـ١ ص ٢٠٧.
كما نص على هذا المعنى ابن قدامة المقدسي في المغني، قال: "والثانية" أنه إن كان مقرًا بالتوحيد كاليهود حكم بإسلامه لأن توحيد الله ثابت في حقه وقد ضم إليه الإقرار برسالة محمد ﷺ فكمل إسلامه، وإن كان غير موحد كالنصارى والمجوس والوثنيين لم يحكم بإسلامه حتى يشهد أن لا إله إلا الله وبهذا جاءت أكثر الأخبار وهو الصحيح لأن من جحد شيئين لا يزول جحدهما إلا بإقراره بهما جميعًا، وإن قال أشهد أن النبي رسول الله لم يحكم بإسلامه لأنه يحتمل أن يريد غير نبينا ... وعن عمران بن حصين قال: أصاب المسلمون رجلًا من بني عقيل فأتوا به النبي ﷺ فقال يا محمد إني مسلم فقال ﷺ "لو كنت قلت وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح" رواه مسلم ويحتمل أن هذا في الكافر الأصلي أو من جحد الوحدانية، أما من كفر بجحد نبي أو كتاب أو فريضة ونحوها فلا يصير مسلمًا بذلك – أي بقوله إني مسلم أو نطقه بالشهادتين – لأنه ربما اعتقد أن الإسلام ماهو عليه، فإن أهل البدع كلهم يعتقدون أنهم هم المسلمون ومنهم من هو كافر"اهـ.
المغني جـ٨ص١٤٣.
ويراجع في نفس المعنى بدائع الصنائع للكاساني جـ٩ص٤٣١٢، فهذا المعنى متواتر في كتب الفقه والعقائد بأجمعها على اختلاف مذاهبها – فابن قدامة حنبلي والنووي شافعي والقاضي عياض مالكي والكاساني حنفي – والشاهد فيه أن نطق الشهادتين باللسان إنما هو معتبر في حالة دلالته على الإسلام، وليس في كل حالة على الإطلاق، والحديث مبسوط في هذا الأمر في كتابنا عن "التوحيد" وغيره فارجع إليه.
1 / 16
قال تعالى: (وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق) (١) .
وقال تعالى: (وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب) (٢) .
عمل القلب: "وهو النية والإخلاص والمحبة والانقياد والتوكل".
قال تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) (٣) .
وقال تعالى: (إنما نطعمكم لوجه الله) (٤) .
وقال تعالى: (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا) (٥) .
وعن النبي ﷺ "إنما الأعمال بالنيات" (٦) .
عمل اللسان والجوارح. فعل اللسان كتلاوة القرآن والذكر.
وعمل الجوارح كإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والجهاد والحج (٧)
_________
(١) القصص ٥٣.
(٢) الشورى ١٥.
(٣) الأنعام ٥٢.
(٤) الإنسان ٩.
(٥) الأنفال ٢٨.
(٦) متفق عليه.
(٧) وقد خالف في هذا – أي إدخال أعمال الجوارح في مسمى الإيمان – بعض فقهاء الكوفة كأبي حنيفة وغيره، ومدار خلافهم في أمرين:
(أ) أن مسمى الإيمان يشمل القول دون العمل.
(ب) إن الإيمان – بمعناه عندهم – لا يزيد ولا ينقص. فنقول وبالله التوفيق قالوا "إن مسمى الإيمان لا يدخله عمل الجوارح، وجعلوه بذلك مرادفًا للتصديق وهو تصديق مخصوص مستلزم للإقرار والانقياد كما سيتضح بعد فيما سننقله عن أئمتهم في معناه – فلاحظوا بذلك المعنى اللغوي – كما أثبتوه – دون المعنى الشرعي كما قال شارح الطحاوية: "فالإمام أبو حنيفة ﵁ نظر إلى حقيقة الإيمان لغة مع أدلة من كلام الشارع وبقية الأئمة ﵏ نظروا إلى حقيقته في عرف الشرع فإن الشرع ضم إلى ذلك – التصديق- أوصافًا وشرائط". شرح الطحاوية ص ٢٤١. وقد استدلوا على ذلك بأدلة تدل على أن الإيمان هو التصديق دون العمل كقوله تعالى (وما أنت بمؤمن لنا) أي مصدق لنا كما دللوا بمبانيه الإيمان للأعمال الصالحة في التعبير القرآني على افتراقهما في المعنى كقوله تعالى "الذين آمنوا وعملوا الصالحات" فالأعمال إذن ثمرة من ثمرات الإيمان وليست لازمًا من لوازمه، ثم كان من نتيجة هذا النظر أن كان الإيمان – في مصطلحهم – لا يقبل الزيادة ولا النقصان، وإنما تتفاوت مراتب اليقين القلبي، وأما أصل الإيمان – التصديق – فهو مرتبة محفوظة. وننقل هنا من أقوال أئمة الأحناف ما يدل على ما ذكرناه.
يقول شارح الفقه الأكبر: " (وإيمان أهل السماء والأرض) أي من الملائكة وأهل الجنة والأنبياء والأولياء وسائر المؤمنين من الأبرار والفجار (لا يزيد ولا ينقص) أي من جهة المؤمن، نفسه، لأن التصديق إذا لم يكن على وجه التحقيق يكون في مرتبة الظن والترديد، والظن غير=
= مفيد في مقام الاعتقاد عند أرباب التأييد قال تعالى (إن الظن لا يغني من الحق شيئًا) فالتحقيق أن الإيمان كما قال الإمام الرازي لا يقبل الزيادة والنقصان من حيث أصل التصديق لا من جهة اليقين فإن مراتب أهلها مختلفة في الدين".
شرح الفقه الأكبر لملا علي القاري ص٧٠.
وراجع التفسير الكبير للرازي جـ٢ص٢٦.
ثم يقول بعدها: "وهذا معنى ما ورد لو وزن إيمان أبي بكر الصديق ﵁ بإيمان جميع المؤمنين لرجح إيمانه يعني لرجحان إيقانه ووقار جنانه وثبات إتقانه وتحقيق عرفانه، لا من جهة ثمرات الإيمان من زيادات الإحسان لتفاوت أفراد الإنسان من أهل الإيمان في كثرة الطاعات وقلة العصيان وعكسه في مرتبة النقصان مع بقاء أهل وصف الإيمان في حق كل منهما بنعت الايقان، فالخلاف لفظي عند أرباب العرفان" السابق ص ٧٠.
ويقول صاحب "فيض الباري" العلامة الكشميري: "وأثبت شئ في هذا الباب عقيدة الطحاوي فإنه كتب في أوله أنه يكتب فيه عقائد الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأبى يوسف رحمه الله تعالى، وأحسن شروحه شرح القونوى وهو حنفي المذهب تلميذ ابن كثير ويستفاد منه أن الإمام رحمه الله تعالى إنما نفى الزيادة والنقصان في مرتبة محفوظة كما سيأتي ولا ينفي مطلقًا" فيض الباري شرح البخاري جـ١ص٦٠. وتعليقًا على ذلك نقول: إنه بالنسبة لمسألة دخول الأعمال في مسمى الإيمان فإن الحق – والله أعلم – في جانب جمهور أهل السنة والجماعة الذين اعتبروا إن الإيمان قول وعمل، فالأعمال داخلة في مسماه، فإنه من المقرر في علم الأصول أن اللفظ إن كان له استعمالان لغوي وشرعي قدم المعنى الشرعي على اللغوي.
(راجع الموافقات جـ٢ص٢٦٨ وبعدها) .
وأما عن مباينة الأعمال الصالحة للإيمان في التعبير القرآني فقد أوضح الإمام ابن تيمية أن ذلك إنما هو من قبيل عطف الخاص على العام كما في قوله تعالى: (من كان عدوًا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) البقرة ٩٨ ومثاله كثير في القرآن.
كما رد ابن تيمية تفصيلًا على ما ذهبت إليه هذه الطائفة من الفقهاء في كتاب "الإيمان" بأكثر من ستة عشر وجهًا فارجع إليها ص٢٤٧ وبعدها، ص٥١ وبعدها وإنما مرادنا هنا هو إثبات ما ذهب إليه جمهور أهل السنة في هذا الأمر والمهم هنا هو أن نبين كذلك أنه وإن كان أبو حنيفة قد قصر لفظ الإيمان على التصديق – الذي هو تصديق مخصوص كما سنبينه بعد – فإنه متفق مع أهل السنة جميعًا على ترتيب الثواب والعقاب على الأعمال – وهو ما فارقته فيه المرجئة – سواء فعلها أو تركها فهم في ذلك سواء.
يقول ابن تيمية: "ومما ينبغي أن يعرف أن أكثر التنازع بين أهل السنة في هذه المسألة هو نزاع لفظي وإلا فالقائلون بأن الإيمان قول من الفقهاء كحماد بن أبي سليمان – وهو أول من قال ذلك ومن اتبعه من أهل الكوفة – وغيرهم متفقون مع جميع علماء السنة على أن أصحاب الذنوب داخلون تحت الذم والوعيد وإن قالوا إن إيمانهم كامل كإيمان جبريل فهم يقولون إن الإيمان بدون العمل المفروض ومع فعل المحرمات يكون صاحبه مستحقًا للذم والعقاب كما تقوله الجماعة..." الإيمان ص٢٥٥.
كذلك فإن الحنفية قد جعلوا كثيرا من الأعمال من شرائط الإيمان ومستلزماته، وجعلوا من لم يأتي بها كافرًا، بل توسعوا في ذلك عن سواهم من المذاهب، قال صاحب الفقه الأكبر" "... وفي الخلاصة من وضع قلنسوة المجوس على رأسه قال بعضهم يكفر، وقال بعض المتأخرين إن كان لضرورة برد.. لا يكفر الإيمان وإلا كفر"جـ١٥٥.
وكذلك: "وفي الخلاصة من أهدى بيضة إلى المجوسي يوم النوروز كفر أي لأنه أعانه على كفره وإغوائه أو تشبه بهم في أهدائه.." إلى غير ذلك كثيرًا جدًا من الأعمال التي نصوا على كفر فاعلها أو على كفر من لم يتركها "إن كانت من أعمال المشركين" فهم وإن جعلوا الإيمان "التصديق" إلا أن ذلك خلاف لفظي لأن من الأعمال عندهم – بل أكثر مما هي عند غيرهم – ما يكفر فاعله ويخرج عن الملة مطلقًا، ونظرة في كتب فقه الحنفية تؤكد ذلك مما لا يدع مجالا للشك (راجع شرح الفقه الأكبر، الإعلام بقواطع الإسلام للهيثمي) .
وأما بالنسبة لمسألة التصديق ومعناه والمراد منه، فقد ذكرنا من قبل أن الأحناف وإن اعتبروا أن الإيمان هو التصديق إلا أنهم جعلوا الإقرار من لوازمه.
= فمدار النجاة عندهم – كمداره عند أهل السنة جميعًا – على الالتزام بالطاعة – كما سيتبين بعد في مفهوم الالتزام عند أهل السنة – مع ترك أعمال الشرك جملة، ولم يجعلوه كما يعتقد بعض مرجئة العصر الحديث – هو مجرد نسبة الصدق إلى الخبر أو المخبر، فإن هذا الأمر مما لا يختلف فيه بين أبي حنيفة وبقية الأئمة لمساسه بأصل الدين ومدار النجاة من الكفر المخلد في النار وهذا ما عناه الإمام الكشميري في "فيض البارى" حيث ذكر أن الخلاف بين أبي حنيفة وبقية الأئمة – وإن لم يكن نزاعًا لفظيًا في رأيه – إلا أنه اختلاف في جهة النظر ولكن مدار النجاة عندهم واحد يقول:
"ومن ههنا علمت أن الاختلاف ليس من باب الاختلاف في الأنظار بمعنى أن هذا مؤد إلى طرف صحيح وهذا أيضًا لطرف آخر صحيح وعند كل حصة صحيحة، والناتج عند كل واحد ناج عن الآخر وكذلك الهالك عند واحد هالك عند الآخر" فيض البارى جـ٢ص٦٣.
وهذا الذي أشار إليه العلامة الكشميري هو ما نريد أن نؤكد عليه هنا، فإن خلاف أبي حنيفة وأصحابه مع بقية أهل السنة إنما هو خلاف لفظي يتناول مدلولات الألفاظ أو خلاف في الأنظار يصل إلى طرف صحيح، وإنما المهم هو أن القدر اللازم للنجاة من الخلود في النار عند كل منهما لا يتغير فأبو حنيفة قد أطلق الإيمان على التصديق ثم جعل شرط قبوله الإقرار بالطاعة، والانقياد - وليس نطق اللسان فقط - لضمان النجاة، وأهل السنة قد أطلقوا الإيمان على التصديق والإقرار والالتزام بالطاعة معًا، وهو المستلزم للانقياد للشرائع عامة وأدخلوا في مسماه الأعمال فيكون بهذا المعنى الإقرار شرطًا عند أبي حنيفة وشرطًا (أو ركنًا) عند بقية أهل السنة.
يقول صاحب فيض الباري: ".. فأقول إن الجزء الذي يمتاز به الإيمان والكفر هو التزام الطاعة مع الردع والتبرى عن دين سواه.." إلى قوله: "فهذا هو الصواب في تفسيره. فقد نقل الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى الإجماع على كون هذا الجزء مما لابد منه في باب الإيمان وحينئذ ينبغي أن يراد من الاقرار في قول الفقهاء الاقرار بالتزام الطاعة" الفيض جـ١ من ٥١.
وما ذكره في غاية الأهمية للدلالة على أن مراد الفقهاء بالاقرار ليس هو نطق الشهادتين باللسان ولكن هو التزام الطاعة وعدم الانخلاع من الأحكام الشرعية عامة. ثم يبين أن القول بأن الاقرار المنجي هو النطق بالشهادتين يورد إشكالًا يقول: "وههنا إشكال يرد على الفقهاء والمتكلمين وهو أن بعض أفعال الكفر قد توجد من المصدق كالسجود للصنم والاستخفاف بالمصحف، فإن قلنا أنه كافر، ناقض قولنا: "إن الإيمان هو التصديق" ثم يجيب قائلًا: فالحق في الجواب ما ذكره ابن الهمام رحمه الله تعالى وحاصله أن بعض الأفعال تقوم مقام الجحود نحو العلائم المختصة بالكفر.
وإنما يجب في الإيمان التبرؤ عن مثلها أيضًا، كما يجب التبرؤ عن نفس الكفر، ولذا قال تعالى: (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) في جواب قولهم (إنما كنا نخوض ونلعب) لم يقل إنكم كذبتم في قولكم بل أخبرهم بأنه بهذا اللعب والخوض اللذين من أخص علائم الكفر خلعوا ربقة الإسلام عن أعناقهم وخرجوا عن حماه إلى الكفر، فدل على أن مثل تلك الأفعال إذا توجد في رجل يحكم عليه بالكفر ولا ينظر إلى تصديقه في قلبه ولا يلتفت إلى أنها كانت منه خوضًا وهزءًا فقط أو كانت عقيدة، ومن ههنا تسمعهم يقولون إن التأويل في ضروريات الدين غير مقبول وذلك لأن التأويل فيها يساوي الجحود. وبالجملة إن التصديق المجامع مع أخص أفعال الكفر لم يعتبره الشرع تصديقًا، فمن أتى بالأفعال المذكورة فكأنه فاقد للتصديق عنده وأوضحه الجصاص فراجعه" الفيض جـ١ ص ٥.
فانظر رحمك الله إلى قول كبار أئمة الحنفية - كابن الهمام والكشميري والجصاص - وهم الذين أطلق عليهم بعض العلماء - مرجئة الفقهاء لمجرد أنهم أخرجوا الأعمال من مسمى الإيمان لفظًا فقط رغم اشتراطهم للقدر اللازم منها للنجاة من الخلود في النار كبقية أهل السنة سواء بسواء.
يقول شارح الطحاوية مبينًا ذلك: "ولم يقابل لفظ الإيمان قط بالتكذيب كما يقابل لفظ التصديق وإنما يقابل بالكفر.. والكفر لا يختص بالتكذيب بل لو قال أعلم أنك صادق ولكن لا أتبعك بل أعاديك وأبغضك وأخالفك لكان كفرًا أعظم، فعلم أن الإيمان ليس التصديق فقط ولا الكفر التكذيب فقط بل إذا كان الكفر يكون تكذيبًا ويكون مخالفة ومعاداة بلا تكذيب، فكذلك الإيمان يكون تصديقًا وموافقة وموالاة وانقيادًا ولا يكون مجرد التصديق". شرح الطحاوية ص ٢٤٣.
ويقول الإمام الطحاوي في المتن: "وأهله - أي أهل الإيمان - في أصله سواء" أي متفقون على أصله المنجي من الخلود في النار الموقع خلافه في الكفر، فالمحصلة إذن واحدة والخلاف وإن كان لفظيًا.. أو خلافًا في النظر كما يرى صاحب الفيض - فالاتفاق حاصل فيما هو مدار النجاة من الكفر، وترتب الثواب والعقاب حسب إتيان الأعمال أو تركها متفق عليه بينهم، والأعمال المكفرة والتي تعرف بها انخرام الأصل وسقوط عقد القلب محددة في مذاهبهم، بل إن الأحناف توسعوا في دلالات الكفر بالأعمال عن سائر المذاهب، كما ذكرنا من قبل، وأما أن يقال إن الإيمان هو التصديق ثم يقابل التصديق بالتكذيب فيكون الكفر هو التكذيب فقط، فذلك ما لم يقله أحد من أئمة السنة لا الأحناف ولا غيرهم، بل إن هذا هو محور بدعة الإرجاء المذمومة كما سنبين بعد إن شاء الله تعالى، كذلك أن يقال إن إخراج الأعمال من مسمى الإيمان يعني عدم حدوث أو ترتب الكفر على عمل من الأعمال فهذا خلاف ما ذهب إليه جميع أهل السنة - بما فيهم الحنفية - بل إن قائل ذلك قد اضطرب فهمه عامة سواء في مفهوم الأحناف للإيمان أو في مفهوم بقية أئمة السنة فيه، كذلك اضطرب في مفهوم الكفر العملي والاعتقادي ومجالهما كما سنبين بعد. ومما يجدر هنا، أن ننقل أثرًا رواه ابن أبي العز في شرحه على الطحاوية يفيد تردد أبي حنيفة في قوله في الإيمان، قال: "إن حماد بن زيد كما روى له حديث أي الإسلام أفضل. الخ قال له: ألا نراه يقول أي الإسلام أفضل؟ قال الإيمان ثم جعل الهجرة والجهاد من الإيمان؟ فسكت أبوحنيفة فقال بعض أصحابه: "ألا نجيبه يا أبا حنيفة قال: بم أجيبه وهو يحدثني بهذا عن رسول الله ﷺ" شرح الطحاوية ص ٢٥٣.
1 / 17
قال تعالى: (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرًا وعلانية يرجون تجارة لن) (١) .
وقد أجمع العلماء على هذا الأصل.
ذكر الآجري في "الشريعة": "حدثنا أبو حفص عمر بن أيوب السقطي قال: سمعت أبا جعفر محمد بن سليمان يقول: سمعت سفيان بن عيينة يقول غير مرة: "الإيمان قول وعمل"، قال ابن عيينة: "وأخذناه ممن قبلنا: قول وعمل، وأنه لا يكون قول إلا بعمل". قيل لابن عيينة: "يزيد وينقص؟ قال: فأي شئ إذًا؟ " (٢) . كما نقل ابن تيمية قول أبي القاسم الأنصاري شيخ الشهرستاني في شرح الإرشاد لأبي المعالي قوله:
"وذهب أهل الأثر إلى أن الإيمان جميع الطاعات فرضها ونفلها، وعبروا عنه بأنه إتيان ما أمر الله به فرضًا ونفلًا والانتهاء عما نهى عنه تحريمًا وتأدبًا" (٣) .
كما قال: "ولهذا كان القول أن الإيمان قول وعمل عند أهل السُّنَّة من شعائر السُّنَّة، وحكى غير واحد الاجماع على ذلك"، وقد ذكرنا عن الشافعي ﵁ ماذكره من الاجماع على ذلك قوله في الأم: "وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم وممن أدركناهم يقولون إن الإيمان قول وعمل ونية لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر" (٤) .
ثم نقل ابن تيمية أسماء من قال بهذا من أئمة مكة والمدينة والكوفة والبصرة وواسط، وقال أبو عبيد: "وهو قول أهل السُّنَّة المعمول به عندنا" (٥) .
إلى غير ذلك من آثار أجمعت كلها على هذا القول دون خلاف معتبر.
الأصل الثاني: أن الإيمان يزيد وينقص.
وهو كما قال السلف: "يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية" (٦) .
قال تعالى: "وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا" (٧) .
_________
(١) فاطر ٢٩.
(٢) كتاب الشريعة للآجرى ص ١١٦.
(٣) الإيمان لابن تيمية ص ١٢٤.
(٤) السابق ص ٢٦٥.
(٥) الإيمان ص ٢٦٦ وبعدها.
(٦) فتح الباري لابن حجر جـ١ ص٤٧، الشريعة للآجرى ص١١٤ عن محمد بن علي ﵁.
(٧) الأنفال ٢.
1 / 18
وقال تعالى: "فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانًا وهم يستبشرون" (١) .
وقال تعالى: "هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم" (٢) .
وعن علي بن أبي طالب ﵁ قال: "الإيمان يبدأ لمظة بيضاء في القلب، كلما ازداد الإيمان ازدادات بياضًا حتى يبيض القلب كله، وإن النفاق يبدأ لمظة سوداء في القلب، فكلما ازداد النفاق ازدادت حتى يسود القلب كله" (٣) .
ويقول شارح الطحاوية: "وكلام الصحابة ﵃ في هذا المعنى كثير أيضًا، منه قول أبي الدرداء ﵁: "من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد هو أم ينقص".
وعن عمر بن الخطاب أنه يقول لأصحابه: "هلموا نزداد إيمانًا" يتذكرون الله تعالى ﷿.
وكان ابن مسعود ﵁ يقول في دعائه: "اللهم زدنا إيمانًا ويقينًا وفقهًا".
وكان معاذ بن جبل ﵁ يقول لرجل: "اجلس بنا نؤمن ساعة"، ومثله عن عبد الله بن رواحة.
وصح عن عمار بن ياسر أنه قال: "ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان: إنصاف من نفسه، والإنفاق من إقتار، وبذل السلام للعالم". ذكره البخاري ﵀ في صحيحه" (٤) .
وذكر الآجري في "الشريعة: "حدثنا حفص بن محمد الصندي بسنده عن عمير بن حبيب قال: الإيمان يزيد وينقص، فقيل وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله ﷿ وحمدناه وسبحناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا فذلك نقصانه".
وعن ابن عباس وأبي هريرة بسنده قال: الإيمان يزيد وينقص.
_________
(١) التوبة١٢٤.
(٢) الفتح ٤.
(٣) عن رسالة "الإيمان" لأبي بكر بن أبي شيبة ط المدني ص٩.
(٤) شرح الطحاوية لابن أبي العز ص٢٤٧، كتاب الإيمان لابن تيمية ص١٩١.
1 / 19
وقال: حدثنا أبوبكر بن أبي داود بسنده عن عبد الرزاق قال: سمعت معمرًا وسفيان الثوري ومالك بن أنس وابن جريج وسفيان بن عيينة يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص" (١) .
وغير ذلك كثير من الآثار التي وردت تدل على إجماع أهل السُّنَّة والجماعة على هذا القول، وهي تثبت كلها أن إيمان المرء يزيد وينقص حسب ما يقوم به من عمل صالح أو طالح، وهو أمر يعانيه كل مسلم في حياته، فهو كلما أخذ بالصالح من القول والعمل أحس بفيضان النور الإلهي يعمر قلبه وكيانه ... وكلما بعد عن العمل الصالح والقول الصالح كلما أحس بغشاوة على قلبه تزداد كثافتها حتى يصبح قلبه أسودًا مربادًا ويرون عليه الران كما قال تعالى: "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون" (٢) .
قاعدة في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه:
لقد استفاض العلماء في شرح هذه المسألة في كتب العقائد عامة، فلا مجال للزيادة على ذلك، وإنما نريد أن نتناول بالبحث هنا بعض مانحسب أنه قد خفى على الكثيرين في هذا الزمان من معان متعلقة بهذا الأمر، مما أدى إلى اضطرابهم في فهم أقوال السلف، وبالتالي إلى فهم القضية عامة. ونحصر قولنا في أمرين:
أولًا: إثبات أن هناك حد أدنى من الإيمان الذي ينجو به صاحبه من الخلود في النار.
ثانيًا: لزوم جنس الأعمال لتحقيق هذا الحد الأدنى من الإيمان الذي ينجو به صاحبه من الخلود في النار وهما قضيتان متلازمتان. فنقول وبالله التوفيق:
_________
(١) الشريعة للآجرى ص١١١ وبعدها.
(٢) المطففين١٤.
1 / 20