وأما الشروط الداخلية فمرجعها إلى واحد فقط موجود في نفس الحبة هو جوهر الحياة، وهو الحس، فإذا عرض له ما يوقف عمله امتنع النمو ولو كانت الشروط الأخرى مستوفاة. وهذا ليس خاصا بالنباتات وبذروها؛ لأن بيضة الدجاجة أيضا لا تستطيع التفريخ في هواء فيه أيثير.
ولا يخفى أن التعفن حاصل عن فطر صغير ميكروسكوبي يحلل المواد المتعفنة، فيغتذي ببعضها، والبعض الباقي يتحول إلى صورة جديدة، فمع كون هذا الفطر دنيئا جدا في سلم الكائنات الآلية، فالأيثير يؤثر فيه ويمنع عمله؛ فيمتنع التعفن، وعلى ذلك فمن أدنى سلم الكائنات الحية إلى أعلى ما يوجد على الأرض من نبات وحيوان توجد فيه نفس هذه الصفة الجوهرية التي تتميز بها الحياة. وهي واحدة في الذات، ولو مهما تعددت أنواعها فبدونها لا حياة، أو بالحري لا حياة ظاهرة، وبها تبدو كل حياة، وينمو النبات والحيوان. والعقل الذي يضع الإنسان في مركز يميزه عن سائر المخلوقات ليس سوى نتيجة مجتمع إحساساته المشتركة بعضها مع بعض.
هذا وإذا نظرنا إلى الحس من حيثية كونه تكيفا في التأثير لكيفية في المؤثر - كما في الفقرة الثانية من تحديد كلودبرنار - فلا نستطيع أن نقفل باب الكلام في هذا الموضوع حتى نأتي ولو بإشارة فقط على كون المادة ذات حس أيضا، بدليل أنها تتأثر حال كونها مؤثرة، وتنفعل حال كونها فاعلة، فيكون حس الأجسام الآلية مرتبطا ارتباط الجزء بكله بتلك القوة العظيمة التي بها تتجاذب الأجسام بالنسبة إلى مادتها، وبالقلب كمربع البعد بينها، أعني بها الجاذبية العامة التي هي عبارة عن حس المادة في أبسط معانيه وأعم أنواعه. ا.ه.
كل السر في المادة1
جاء في مقالتي «الحس وأنواعه»، المدرجة في الصفحة 294 من السنة الخامسة للمقتطف، ما يتحصل منه «أن المادة ذات حس»، وأن «الحياة خاصة من خصائص المادة»، وهذه الحقيقة وإن كانت من الحقائق التي لا تقبل الرد في هذه الأيام، إلا أنه لا تزال توجد طائفة من العلماء يحاولون إنكارها، وعلى ذلك جرى صاحب مقالة «الحياة والجاذبية»، المدرجة في صفحة 236 من السنة السادسة للمقتطف، في اعتراضه على ما جاء في مقالتي المذكورة من هذا القبيل، فبيانا للحقيقة يترتب علينا جميعا أن نبحث في هذه المسألة بحثا لا يتجاوز حد العلم، وإنكارا لما يذهب إليه هو، وإثباتا لما ينكره يترتب علي؛ أولا: أن أثبت أن المادة ذات حس، وثانيا: أن الحياة ليست سوى خاصة من خصائص المادة، وإذا تبين ذلك سهل علينا إلحاق هذه الخاصة بالنواميس الطبيعية، سواء كانت الجاذبية أو سواها. (1) المادة ذات حس
الحس بالشيء في أبسط معانيه وأعم أنواعه هو الانفعال به، ولا يسع صاحب الاعتراض إلا أن يوافقنا على ذلك، وإلا يترتب عليه أن ينفي الحس عن النبات والحيوانات الدنيا التي لا شعور لها ولا إدراك. وهذا لا يوافقه عليه أحد من الطبيعيين والفسيولوجيين المعاصرين.
من المعلوم أن المادة إذا لامست جسما حيا تفعل فيه فتهيج فيه الحس ، ولكن من يقول لنا: إن الجسم الحي لا يفعل في المادة ويحدث فيها تغييرا، فبلا شك أن الحياة تفعل في بعض الأوساط، وأكبر دليل على ذلك الاختمار، فإذا ترك محلول سكري كعصير العنب مثلا ملامسا للهواء، فلا يلبث أن تدب فيه ملايين من الأجسام الحية الآتية جراثيمها من الهواء، فهذه الأجسام الخميرية تنمو وتكثر بسرعة عجيبة، وتحدث في المادة السكرية تفاعلا كيماويا يتحول به السكر بعد زمن معلوم إلى حامض كربونيك وكحول، ثم الكحول إلى حامض خليك، فوجود الأجسام الحية في هذا السائل قد غير خصائصه، فلو لم يكن هذا السائل يتأثر بهذه الأجسام الحية لما كان يتحلل عند ملامسته لها، إذن هو يحس بفعلها.
ولا يصعب علينا أن نأتي بأمثال عديدة في هذا المعنى، وأن نبين أن النور والحرارة والكهربائية التي تؤثر في حسنا تؤثر في المادة، كما هو ظاهر من تأثير النور في المركبات الكيماوية المستعملة في الفوتوغرافيا، فلو لم تكن هذه المركبات تحس بالنور لما كانت تتأثر به، وكذلك إذا أجرينا مجرى من الكهربائية على قطعة حديد لين، فالحديد يتأثر بالكهربائية، أي يحس بها، وهو ظاهر من اكتسابه قابلية جديدة لم تكن له قبل ذلك، وهي اجتذابه الحديد؛ أي صيرورته مغناطيسا.
والحرارة - كما نرى كل يوم - تغير المواد تغيرا كليا فتسيلها وتبخرها، فكل هذه الظواهر تدل على أن المادة تحس بالعوامل الخارجية. وهذا ما يراد به في تحديد «كلود برنار» للحس بقوله: إنه «تكيف في التأثير لكيفية في المؤثر.» وعلى ذلك تكون الجاذبية التي تتجاذب بها الأجسام بالنسبة إلى مادتها وبالقلب كمربع البعد بينها عبارة عن حس المادة في أبسط معانيه وأعم أنواعه. (2) الحياة خاصة من خصائص المادة
الحياة عند الحيويين قائمة بمبدأ حيوي قائم بنفسه، مجرد عن المادة، غير خاضع لنواميسها، مع كونه ذا سلطان عليها يدخل المادة من حيث لا نعلم، ويخرج منها إلى حيث لا ندري. وأما عند الماديين فالحياة حالة من حالات المادة، أو كيفية من كيفياتها خاضعة لنواميسها. ولقد أحسن صاحب مقالة «الحياة والجاذبية» بقوله: «قد أجمع العلماء والفلاسفة على أن المذهب الأقوى دليلا، والأبعد عن معارضة الحقائق هو الأرجح احتمالا.» فبقي علينا أن نعرف أية الحقائق هي التي يصح أن تسمى كذلك، أتلك المقررة في الذهن أم التي قررها العلم، وأن نعرف أي دليل أقوى، أدليل الحيويين القائلين في الحياة بالقوة الحيوية المنفصلة عن المادة، أم دليل الماديين القائلين في الحياة بالقوى الطبيعية والكيماوية المتصلة بالمادة.
صفحة غير معروفة