ملحق بالباب الأول
كان حضرة المعترض المشار إليه، وقد ستر اسمه، قد نشر قبل رسالته الثانية التي ظهرت في العدد 1179 من جريدة المحروسة، والمردود عليها هنا رسالة أولى في العدد 1175 منها، يعترض بها على المذهب المذكور، وقد رددنا عليها في العدد 1178 من الجريدة المذكورة بمقالة مختصرة، وهي هذه: (1) رد على رد
محصل ما في الرد المنشور في العدد 1175 من جريدة المحروسة على ما جاء في كتاب بخنر على مذهب دارون، أن حضرة صاحبه يوافقنا في أمور، ويخالفنا في أمور، يوافقنا في كون المادة أزلية أبدية، وأن الموجودات متكونة منها، ومتحولة عنها بقوة فيها ملازمة غير مفارقة. وهذا ما نذهب إليه ويذهب إليه جمهور الماديين، فلا خلاف بيننا من هذا القبيل؛ ولذلك فلا حاجة لنا إلى إعادة الكلام عليه، ويخالفنا في أن القوة اللابسة المادة والمتحولة فيها تحولها في الأجسام كافة من جماد ونبات وحيوان، هي على زعمه عاقلة مدركة تعمل في المادة إعمالا، مغياة على نظام مقصود.
وهذا ما لا نوافقه عليه، ولا يتحصل من مبدئه؛ فإنه جعل القوة والمادة أولا أزليتين، ثم جعل القوة متسلطة على المادة، وكيف يصح التوفيق بين القولين؛ لأنه في القول الأول جعلهما موجودتين معا، وفي القول الثاني فضل القوة على المادة، وسلطها عليها تتصرف فيها كما تشاء. ولا يخفى ما في هذا القول من معنى الفاعلية التي فيها معنى السبق أيضا، فتكون القوة في قوله سابقة المادة، ولو بالمعنى، وإذا صح ذلك فكيف يصح أن تكون المادة أزلية كالقوة؟!
أما الماديون فليس عندهم فرق بين القوة والمادة؛ إذ ليس بينهما عندهم فاضل ومفضول، وسابق ومسبوق، أو فاعل ومفعول؛ فهما بالحقيقة واحد لا ينفصلان، فهو من هذه الحيثية غير متفق مع أصحاب ما وراء الطبيعة وعلماء الأديان؛ لأنه جعل القوة الفاعلة والعاقلة محصورة في المادة، ولا مع العلماء الماديين؛ لأنه مع حصره القوة في المادة ضمنها معنى السبق عليها، ولا مع علماء الكلام؛ لما في كل ذلك من التناقض.
وأما كون القوة المذكورة ذات إدراك كلي في المادة الأولى البسيطة كإدراك الإنسان الجزئي في المادة المركبة، فهذا يوجب على مبدئه أن تكون المادة البسيطة مدركة أيضا؛ إذ لا يجب أن يكون فرق بين المادة والقوة على ما سلم به من ملازمة الواحدة للأخرى؛ بل يوجب أيضا أن تكون المادة الأولى ذات خصائص أكمل منها في المواد المركبة، ولا شيء مما نعلمه عن مواد الطبيعة يجوز لنا هذا الوهم.
ونحن في بحثنا لا نحب أن نتخطى الطبيعة، ولا ما ترشدنا إليه ظواهرها، فقبول المادة الأولى البسيطة للتركب على أحوال مختلفة، وللظهور بمظاهر مختلفة لأسباب ربما كانت اختلاف وضع في جواهرها الفردة لا يلزم منه أن تكون فيها صفات سائر الكائنات المتولدة عنها بالفعل، وإن كانت فيها بالقوة، فالقابلية لا يلزم منها الفاعلية، والقوة التي ترجع إليها سائر القوى ، وهي الحركة على ما اتفق عليه عموم علماء الطبيعة من كل المذاهب، وإن يكن في إمكانها أن تتحول إلى جميع القوى الطبيعية كالحرارة والكهربائية والنور وغيرها.
إلا أنه لا يسعنا القول: إنها نيرة بالفعل كالنور، وإن كان لها ذلك بالقوة، كما أنه لا يسعنا أن نقول: إن الحرارة كالكهربائية والكهربائية كالنور لإمكان كل منهما أن يتحول إلى غيره؛ ولذلك فلا يسوغ لنا أن نقول: إن القوة التي ترجع إليها جميع القوى تدرك كالإنسان؛ لأنه في إمكانها التحول إلى ما فيه من الصفات، فجعل المادة والقوة لا القوة وحدها - خلافا لما يستفاد من كلام حضرة المعترض - كلا عاقلا يتصرف في الأشياء كما يريد. لا نجد في الطبيعة ما يسوغ لنا القول به، ولا ينطبق على القياس؛ فإن كان مراده بقوته المدبرة المتصرفة في الكون السنن التي تجري عليها الطبيعة، فلا يكون بيننا خلاف في ذلك، إلا أنها لا تكون عاقلة ومريدة كما يريد هو.
وماذا تفيدها إرادتها وهي حينئذ لا تفعل مختارة؛ أي إنها لا تقدر أن تنشئ وتخرب، وتبني وتهدم وتخرق نظام الكائنات كيف شاءت ومتى شاءت؟ بل تفعل مضطرة على حكم الضرورة، وحينئذ لا يبقى له ما يخالف به الماديين سوى الاسم. وهذا لا ينازعه أحد منهم فيه، فليسمها ما شاء، وهو لم يتكلف هذه المشقة إلا لكي يتذرع بها لإلقاء أساس - كما يقول - يوافق أهل الأديان وعلماء الكلام. ولقد أحسن السير «وليم طمسن» حيث قال: إن الضلال الذي نشأ عن علم الكلام غرق أناسا أكثر من جهل رباني السفن على أن حضرة المعترض منفرد فيما ذهب إليه، ولا يجد بينهم من يوافقه عليه، وهو مع ذلك لو سلم له لا يكسبه شيئا فيما نرى؛ لأنه يبقى عليه أن يفصل نفس الإنسان عن نفس الحيوان. وكيف يتأتى له ذلك وقد جعلهما من مصدر واحد روحانيا وجسمانيا؟ بل يبقى عليه أن يفصل في الإنسان كل نفس عن نفس في هذا الوجود الكلي، حتى يجوز له أن يخبرنا على مذهب الأديان بمعاد وجزاء في نعيم وعقاب، في جحيم في هذا الوجود المشهود أو في غيره.
وعلى ما أرى أن هذا المذهب الذي ذهب إليه حضرة المعترض لا يدانيه مذهب في الغرابة، على أن الباحث في العلم لغاية غير معرفة الحقيقة لا يؤمن شططه، فنحن ليس غرضنا أن نبحث في العلم لنجد فيه ما نؤيد به أفكارا وأوهاما نشأت في الإنسان؛ إذ كان في مهد الطفولية، وصارت بطمعه من جهة، وجهله من جهة أخرى حقائق أدخلت في رأسه رغبة أو رهبة، تارة بالوعد وتارة بالوعيد، وإنما غرضنا الوحيد البحث عن الحقيقة نقبلها كما تنجلي لنا على صفحات كتاب الطبيعة، لا نصعد إلى فوق ولا نهبط إلى أسفل؛ لنبحث عن أشياء موجودة أمامنا وواقعة تحت حواسنا.
صفحة غير معروفة