ديباجة الطبعة الأولى
الباب الأول: في مذهب دارون وعلماء النظر
الديباجة
1 - في المادة والقوة
2 - في الوجود المعنوي والوجود المادي
3 - صد ورد
4 - في أصل معرفة الإنسان
ملحق بالباب الأول
الباب الثاني: في ثبوت مذهب دارون وفساد نقيضه
الديباجة
1 - في تغير الأنواع
2 - في تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي
3 - مسائل على الخصم مشاكل
4 - في الإنسان وسائر الحيوان
5 - في الارتقاء
6 - في الأدلة على الارتقاء والتسلسل
7 - في دفع اعتراضات على مذهب الارتقاء والتسلسل
خاتمة
الباب الثالث: في آراء علماء الطبيعة في أصل العوالم
1 - في الجوهر الفرد
2 - في رأي طمسن في الجوهر الفرد
3 - في وحدة العناصر والقوى
4 - في اختلاف الطبع باختلاف الوضع
5 - في أن القوة والجوهر سيان
6 - في كشف الخلط وإظهار الغلط
7 - مناظرة أصحاب الخلق وأصحاب القدم
8 - فصل الخطاب بين أصحاب الخلق وأصحاب القدم
الباب الرابع: في الحياة وأصلها
1 - في الحياة
2 - في التولد الذاتي
3 - في المادة الحية أو البروتوبلاسما
الخاتمة
ملحق في مباحث في الحياة لتأييد الرأي المادي فيها من سنة 1878
استفهام1
الحيرة علة البحث1
الحس وأنواعه المختلفة1
كل السر في المادة1
الحياة1
الحياة والجاذبية1
بعض ملاحظات في الحياة
الحياة في أعماق المياه1
الحياة وأصل الأجسام الحية1
حياة الجماد1
أصل الحياة1
خاتمة الكتاب أو خلاصة ما تقدم
ديباجة الطبعة الأولى
الباب الأول: في مذهب دارون وعلماء النظر
الديباجة
1 - في المادة والقوة
2 - في الوجود المعنوي والوجود المادي
3 - صد ورد
4 - في أصل معرفة الإنسان
ملحق بالباب الأول
الباب الثاني: في ثبوت مذهب دارون وفساد نقيضه
الديباجة
1 - في تغير الأنواع
2 - في تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي
3 - مسائل على الخصم مشاكل
4 - في الإنسان وسائر الحيوان
5 - في الارتقاء
6 - في الأدلة على الارتقاء والتسلسل
7 - في دفع اعتراضات على مذهب الارتقاء والتسلسل
خاتمة
الباب الثالث: في آراء علماء الطبيعة في أصل العوالم
1 - في الجوهر الفرد
2 - في رأي طمسن في الجوهر الفرد
3 - في وحدة العناصر والقوى
4 - في اختلاف الطبع باختلاف الوضع
5 - في أن القوة والجوهر سيان
6 - في كشف الخلط وإظهار الغلط
7 - مناظرة أصحاب الخلق وأصحاب القدم
8 - فصل الخطاب بين أصحاب الخلق وأصحاب القدم
الباب الرابع: في الحياة وأصلها
1 - في الحياة
2 - في التولد الذاتي
3 - في المادة الحية أو البروتوبلاسما
الخاتمة
ملحق في مباحث في الحياة لتأييد الرأي المادي فيها من سنة 1878
استفهام1
الحيرة علة البحث1
الحس وأنواعه المختلفة1
كل السر في المادة1
الحياة1
الحياة والجاذبية1
بعض ملاحظات في الحياة
الحياة في أعماق المياه1
الحياة وأصل الأجسام الحية1
حياة الجماد1
أصل الحياة1
خاتمة الكتاب أو خلاصة ما تقدم
الحقيقة
الحقيقة
وهي رسالة تتضمن ردودا لإثبات مذهب دارون في النشوء والارتقاء
تأليف
شبلي شميل
ديباجة الطبعة الأولى
ما لبث كتاب بخنر في مذهب دارون أن نشر حتى بادر بعضهم للاعتراض عليه في مقالة، نشرت في العدد 1175 من جريدة المحروسة، قال فيها: إن هذا المذهب ناقص في الكليات، وطلب إلينا أن نتجاول معه في ميدان الجدال؛ علنا نصل وإياه إلى نقطة وفاق يكون فيها التوفيق بين أصحاب هذا المذهب وأهل النظر، فاضطرنا ذلك إلى إجابة سؤله بمقالة مختصرة، نشرت في العدد 1177 من الجريدة المذكورة، وألحقناها بالباب الأول من هذه الرسالة تحت عنوان «رد على رد».
ولما كانت هذه المقالة بعيدة جدا عن الوفاق الذي ابتغاه، نشر مقالة ثانية في العدد 1179 من الجريدة المذكورة، شدد فيها النكير على أصول هذا المذهب وعلى كليات الماديين، ثم نشرت بعض الجرائد مقالات نضرب عن ذكرها؛ لأنها لم تنهج فيها منهاج البحث، ولم تتعمد سوى القذف والطعن، ثم نشر بعضهم رسالة سماها مناهج الحكماء في نفي النشوء والارتقاء، وقد زعم فيها أنه مقو لأركان هذا المذهب، ناقض لدعائم الفلسفة المادية في أصل العوالم.
وقد كنا شرعنا في الرد على كل ما تقدم في الجريدة المذكورة في مقالات نشرت تباعا حتى طرأ على صديقنا الأبر المأسوف عليه، صاحب هذه الجريدة، من صروف الحدثان ونوائب الأيام التي لا يسلم منها إنسان، ما اضطرها إلى الاحتجاب حينا من الدهر، واضطرنا إلى تأجيل تتمة الرد كذلك:
إنما نحن مثل خامة زرع
فمتى يأن يأت محتصدوه
وما زال هذا الرد تام التأليف غير تام النشر حتى تيسر لنا طبعه أخيرا في هذه الرسالة التي سميناها «الحقيقة»،
1
وضمناها من البراهين القاطعة ما عددناه كافلا للبيان، وافيا بالمرام في هذا المقام.
شبلي شميل
مصر 1885
الباب الأول
في مذهب دارون وعلماء النظر
وفيه ديباجة وأربعة فصول
الديباجة
بربك أيها الفلك المدار
أقصد ذا المسير أم اضطرار؟
مسيرك قل لنا: في أي شيء
ففي أفهامنا منك انبهار؟
لقد خاض الكتاب على اختلاف طبقاتهم في الكلام على مذهب دارون، وما يترتب عليه من النتائج كما في شرح بخنر، فمن حاطب ليل تخبط فيه تخبط من ضل السبيل وخانه الدليل، فأكثر من القول الهراء، وبالغ في التسخط والإغراء، ومن أديب متقد ذكاء نظر إليه نظر الفيلسوف المسترشد بعقله، المتمسك بنقله، ومن عالم لا يسبر غور علمه، بحث فيه البحث الدقيق، وعمق كل التعميق، فنفاه بعض، وشك فيه بعض.
فمهلا أيها الكاتب الحاطب، فلقد طالما أصغيت إلى بيانك لعلي أستضيء بضوء برهانك، فإذا أنت كرجل متقلد هراوة مقطوعة من غابات الغباوة، تهش بها على الأنام كراعي الأغنام. ولا غرو؛ فقد تعودت أن ترى الناس كالأنعام، ولو أنك جئت بقضية علمية أو فلسفية لأنصفتك بذكرها، وعرفت قدرك بقدرها، لكنك جعلت ردودك جعبة طعن وقذف، وكنانة سب وشتم، فوطنت نفسي على عدم الإجابة، وقلت: الصمت في مقام مثلك إصابة، فما أنا ممن ينازل هذا النزال، ولا قبل لي بمثل هذا الجدال:
لقد أظلف النفس عن مطعم
إذا ما تهافت ذبانه
فتبا لدهر رجاله صبيان كبار
الفصل الأول
في المادة والقوة
إن العالم الطبيعي والحاسب الرياضي والعامل الميكانيكي أقصر كلاما، وأفصح بيانا، وأبسط أسلوبا، وأثبت حجة، وأصدق كذلك من الأديب اللغوي، والعالم اللاهوتي، والفيلسوف المنطقي، وسائر علماء الجدل الكلاميين؛ لأنه ألف البرهان الطبيعي الرياضي الذي لا يقبل المغالطة والتمويه.
أما أنت أيها الفيلسوف الداخل ميدان النزال من أبوابه، الطالب الجدال بأسبابه، فأهلا وسهلا بك ومرحبا؛ لقد سقطت على من يجل قدرك، ولا يبخسك فضلك، ولكن ما لي أراك لا تثبت على حال، ولا يقر لك قرار، شأن من يزعم أن المعقول يقوم بدون المحسوس. وافقتنا على مبدأ لم تلبث أن نقضته بما بنيت عليه من النتائج، جعلت المادة قديمة ثم خلقتها، ولما تبين لك فساد ذلك عدلت عنه، وحاولت التستر بقولك: إن موافقتك لنا افتراضية لا حقيقية، وإن مذهبك هو غير ما ذكرت، فصرح لنا على أي مبدأ تعتمد، ألعلك لا تعلم أن التردد في المبادئ يوجب الاضطراب في القياس، والفساد في الأحكام، فإنك لا تقر هنيهة على المحسوس حتى تطير على جناح الأفكار في سماء الخيال، ولا تلبث لحظة على الفلسفة العملية حتى تتيه في مضايق الفلسفة النظرية، فتستنتج على غير مبدأ، وتحكم على غير قياس، إلا ما صورته لك حدة الذهن وقوة الخيال.
ولا يخفى أن البحث على هذه الصورة خبط عشواء في ليل بهيم، ولا يمكني متابعتك في هذا التيه الذي لا يمكن السلوك فيه إلا بطريق الهداية، وهي نعمة وإن خص بها البعض، لكنها لا تعم، وإنما يمكنني متابعتك إذا سلكت معي سبيل العلم، إلا ما رجعت معي من سماء غيبك إلى أرض المحسوس، ومن فضاء فلسفتك النظرية إلى دائرة الفلسفة العملية. ولا يخدعنك عقلك المجرد، وإرادتك الحرة، وأفكارك الغريزية، فدقق النظر طويلا، وتساهل قليلا؛ تر أن ما تظنه كذلك خاضع لأحوال المادة، ومكتسب كسائر الأعضاء والوظائف، فبحثك في الطبيعة بدون الاستناد إلى المحسوس اعتقادا منك أن العقل وحده قادر أن يتوصل إلى حل هذه المسائل حلا يقرب من الصحة وهم وأي وهم.
لقد جئتنا هذه المرة بمذهب غير مذهبك الأول، وقلت لنا: إن الوجود في عرفك نوعان، معنوي سابق ومادي مسبوق، وبعبارة أخرى: معنوي خالق، ومادي مخلوق، وضربت لذلك مثل المعاني والألفاظ الموضوعة لها. وقبل أن نتعرض لنفي هذا القياس، وتبيين وجه فساده، لا بد لنا - وقد عدلت الآن عن قدم المادة - من بسط شيء عما يعلم عن المادة والقوة نجعله تمهيدا للكلام على الوجود المعنوي والوجود المادي كما تقول:
1
لا حاجة بنا إلى أن نعرفك أن العلم قد توصل في الأمور الطبيعية إلى هذه النتيجة الكبرى، وهي أن القوة والمادة لا تنفصلان البتة، ولا أظنك تستطيع أن تعرفنا بمادة مجردة عن كل قوة أو حركة، أو تطمع أن تبين لنا قوة أو حركة مجردة عن كل مادة؛ فالقوة لا تعرف إلا بالمادة، والمادة لا تعرف إلا بالقوة، فلا تدرك الواحدة بدون الأخرى.
لنتصور أدق الدقائق المركب الجسم منها خالية من كل قوة؛ أي من رباط قوتي الجذب والدفع الذي يتكفل بحفظها، ويؤلف صور الأجسام، ولنفترض أن قوى الألفة قد زالت، فماذا ينبغي أن تكون النتيجة، ألا يلزم أن تدخل المادة في عدم لا صورة له ولا يدرك، على أنا لا نعرف في عالم الطبيعة جوهرا فردا بلا قوة، فهو إنما يظهر بفعل القوة فيه تارة على صورة، وطورا على صورة أخرى، وآونة مركبا من أجزاء متشابهة، وأخرى من أجزاء متباينة. ولا يستطيع العقل أن يتصور المادة بلا قوة، فإنا إذا تصورنا مادة أولية مهما كانت، فلا بد أن تكون دقائقها تحت فعل الجذب والدفع، وإلا فإنها تتلاشى من ذهننا.
كذلك القول بقوة بلا مادة فارغ ولا أساس له، وإذا كان من المقرر أن القوة لا تقدر أن تظهر إلا بالمادة، فلا تكون القوة إذن سوى الصفة المتصلة بالمادة، وكل صفات المادة كائنة فيها جوهريا، إلا أنها قد لا تظهر فتكون هاجعة فيها؛ أي في حالة السكون، فالقوة في المادة تنبه تنبيها، لا أنها تحل فيها حلولا جديدا، فالمغناطيسية مثلا لا تنتقل من جسم إلى آخر كما ربما يتوهم، وإنما تهيج فتظهر بتغيير حالة دقائق الجسم المتهيجة فيه، فهي متصلة بأجزاء الحديد، وهي في قضيب ممغنط مثلا متجمعة، خاصة في المكان الذي لا تظهر فيه، أو تظهر فيه قليلا.
لنتصور إذا أمكن كهربائية أو مغناطيسية بلا الحديد ولا الأجسام التي رأينا ظواهرهما فيها، ولنفرض أيضا الأجزاء التي نسبها المتبادلة وأوضاعها الجوهرية هي بالحقيقة أسباب الظواهر الكهربائية والمغناطيسية، فلا يبقى والحالة هذه سوى تجرد لا صورة له، وعلم لا معنى له بحد نفسه، وإنما نتذكر به جملة ظواهر خصوصية معلومة؛ لأنه لو لم تكن أجزاء قابلة لأن تتكهرب لم يكن كهربائية، ولما استطعنا بواسطة التجرد وحده أن نعلم عنها شيئا أو أن نتصورها، ولم يكن لها وجود لولا هذه الأجزاء، فكل الأجسام المسماة عديمة الوزن كالحرارة والكهربائية والنور والمغناطيسية وغيرها، ليست شيئا آخر سوى تغيرات مادية؛ أي تغيرات في وضع الدقائق المؤلفة المادة منها.
فالحرارة والنور والصوت إنما هي اهتزازات ارتجاجية في الأولين، وتموجية في الأخير، والظواهر الكهربائية والمغناطيسية تتم بتغيرات نسبية في أجزاء المادة وجواهرها الفردة، ولأجل ذلك عرف العلماء القوة بأنها خاصة من خصائص المادة، أو هي الحركة، أو هي حالة من حالات المادة، وأنه يستحيل إدراك القوة بلا مادة، كما أنه يستحيل البصر بلا عين، أو الفكر بلا دماغ، أو القول بقوة مفرزة بلا غدة، أو بقوة انقباضية بلا ليفة عضلية، فلا شيء أمكنه في زمان من الأزمنة أن يدلنا على وجود قوة سوى التغيرات التي ندركها في الأجسام بواسطة حواسنا، وعلى هذه التغيرات المرتبة حسب نسبها، والمسماة بأسماء مختلفة، يطلق اسم الجنس «القوة»، وليس سوى هذه الواسطة لفهم المعنى المراد بهذه اللفظة، فما هي إذن النتيجة الكبرى الفلسفية لهذه المعرفة البسيطة الطبيعية.
لا شك أن الذين يقولون بوجود قوة أبدعت العالم من لا شيء لا يستندون في قولهم هذا إلى شيء من العلوم الطبيعية والفلسفة العملية، التي تتبع العلم في سيره، وتتغير مع تغير الأفكار بتغيره، وإنما يفعلون ذلك انقيادا لفلسفة موهومة نشأت عن نقصان الاختبار في سالف الأزمان، ورسخت في العقل حتى كادت تكون ثابتة فاعتبرت غريزية، وحجتهم الكبرى هي أنه لا بد لكل معلول من علة.
وقد فاتهم أنه في هذا الدور المتسلسل لا بد لهم من الوقوف عند نقطة يثبتون فيها حصول الوجود بالمعجزة، إلا أنهم عوضا عن أن يقفوا فيه عند حد الأبحاث الطبيعية المؤيدة بالاختبار، ويثبتوه للمحسوس يطفرون به إلى ما وراء الطبيعة، ولو فاتهم الدليل ونقصهم البرهان، فمن أين عرفوا أن القوة قد توجد مجردة عن المادة، والحال أن المادة لا تنفصل عن قواها، أم كيف جاز لهم التصديق بوجود شيء من لا شيء، وهل ضلال أشد من هذا الضلال على العقل؟ فتكون العالم من العدم أمر مستحيل لا يقبله العقل، ولا يثبته الاختبار.
والعدم لفظة لا معنى لها، ومن المقرر أن المادة دائمة الوجود لا تتغير، وهذا يقتضي كونها قديمة، ولو فرضنا وجود قوة مبدعة لما أمكن وجودها باعتبار الزمان لا قبل الخلق ولا بعده. لا قبل الخلق؛ لأن ذلك يقتضي بقاءها مدة من الزمان بلا عمل، وفي حالة السكون أمام المادة اللاصورة لها والساكنة أيضا. وهذا غير سديد. ولا بعده؛ لأن هذا ظاهر البطلان، فإذا كانت القوة المبدعة لا تقدر أن توجد قبل الأشياء ولا بعدها، وإذا كانت المادة لا تدثر، وإذا لم تكن مادة بلا قوة، ولا قوة بلا مادة، فلا شك أن العالم قديم، فما لا ينفصل لم يكن منفصلا، وما لم يدثر لم يبدع.
الفصل الثاني
في الوجود المعنوي والوجود المادي
وأما مثل المعاني والألفاظ الذي ضربته للوجود المعنوي السابق والوجود المادي المسبوق، فقول غير سديد، وفيه من السفسطة ما كان يغنيك تدبره عن إسهاب الشرح عليه؛ لأن أسبقية المعنى على اللفظ نسبية كما لا يخفى عليك، وأنت تريد بتقديم الوجود المعنوي على الوجود المادي أسبقية مطلقة، وإلا فأي مثل غير هذا المثل يقوم مقامه؟
وهو لا يفيد شيئا في تأييد ما تذهب إليه كمثل الأسباب والمسببات عموما، فإن ما كان منها علة لشيء، فهو نفسه معلول لشيء آخر، فالسبق هنا نسبي لا مطلق، وأنت لم تنكر علينا ذلك، حيث استدركت على نفسك بما معناه: «وربما اعترض علينا أن المعاني حاصلة من تأثير المادة في الدماغ.» وإنما نحن ننكر عليك اعتمادك عليه بعد عرفانك ذلك، فأنت هنا تسلم معنا بأن المعاني في العقل ليست غريزية، بل مكتسبة وصادرة عن المادة بواسطة الحواس، وإن كان عندك أدنى شك في ذلك فنحن نقول لك: إن المعنى العقلي ليس إلا تأثيرا ماديا، أو هو صورة المادة المرتسمة في الدماغ - كما ترسم الصورة في المرآة - فالنور لولا العين لم يكن له في عقل الإنسان معنى ، ولم يفتكر الإنسان أن يضع له علامة أو لفظة تدل عليه.
ولو صح هذا القياس على الوجود المطلق لكان الأولى أن تعتبر المادة قبل معناها في العقل؛ لأنها أسبق منه من حيث هذا الوجود النسبي، فأسبقية المعنى على اللفظ كأسبقية المادة على المعنى نسبيا. وأما إذا اعتبرت الحقيقة، فالمادة لا تنفصل عن معناها، ولا يقصد بالمعنى ما ندركه فقط، فالأعمى لا يبصر النور، فهو لا يتصوره ولا يعرف له معنى في عقله، ومع ذلك فمادة النور متصلة بمعناها، وعدم إدراك الأعمى لها لا يسلخ عنها وجود المعنى فيها، وعدم وجود المعنى في أركان لفظه؛ أي الحروف عوضا عن أن يكون حجة علينا، فهو حجة لنا، فالألفاظ تدل على معان لا تدل عليها حروفها دلالة صريحة.
كما أن المواد المركبة تكون ذات خصائص لا تدل عليها عناصرها دلالة واضحة، فقياسك هذا إذن فاسد. واعلم أن الدلالة على المعاني لا تقتصر على الألفاظ فقط، بل تتناول كل حركات الجسد، وربما اقتصرت عليها في الحيوانات الدنيا التي لا يسمع لها صوت، وبهذا الاعتبار تكون الحركات من قبيل اللغات، فاللغات أعم من إبداء المعاني بالألفاظ، التي هي حركات خصوصية صوتية يشترك في تقطيعها أعضاء الحلق واللسان والشفتين، وترافقها حركات موافقة لها في سائر أعضاء الجسد، تظهر لك في البعض، وتخفى عنك في البعض الآخر.
أقول: وإذا توسعت في حقيقة هذه المعاني رأيت فيها من البساطة ما يدلك على تقارب الأشياء في الطبيعة ووحدة أصلها؛ فإن صفات المادة إذا حللت إلى بسيطها دلت على صفتين، أو خاصتين، أو قوتين، وهما: الجاذبة والدافعة، وهكذا المعاني الذاتية إذا حللت إلى بسيطها دلت على أحد معنيين: جاذب أو دافع، ومحبوب أو مبغض، ومرغوب أو مرهوب، ومقبول أو مكروه، وترتسم صورة ذلك على جميع حركات الجسد.
ألا ترى كيف أن حركات الإنسان أو الحيوان المتكره من شيء تدل كلها على محاولته إبعاد ذلك الشيء عنه، وإذا أحب شيئا دلت حركاته على محاولته ضمه إليه، وكما يكون ذلك في الحركات يكون كذلك أيضا في اللغات، فإن اللغات كالحركات في الدلالة على المعاني، واللغات كالحركات موجودة في الحيوان والإنسان كوجود المعاني فيهما، إلا أن اللغات أوسع في الإنسان لاتساع المعاني واكتمال الآلات فيه أكثر منها في الحيوان.
ومن دقق النظر رأى المعاني مرسومة على الألفاظ ومبانيها كما ترتسم على سائر الحركات، فإن إباءتك للشيء جعلتك تعبر عنها في اللغة العربية مثلا بلفظة «لا»، وقبولك له بلفظة «أي ونعم». ولا يخفى ما في لفظ هاتين اللفظتين من الحركات الدالة على معنى كل منهما، فإنك بلفظك «لا» تحاول بحركات الفم كل علامات التبعيد، وبلفظك «أي ونعم» كل علامات التقريب. وقس على ذلك سائر الألفاظ في سائر اللغات، إلا أن هذه الدلالة لا تكون دائما بسيطة وواضحة كما في هاتين اللفظتين البسيطتين، بل تتنوع وتتركب كثيرا بقدر تنوع المعاني وتركبها، وربما فعلت فيها أسباب مختلطة جدا، بحيث لا تظهر لك هذه النسبة إلا عند التدقيق الكلي، أقول: وربما كان في الموضوع مبحث دقيق جدا ولذيذ للغاية عند من يحب الخوض فيه.
الفصل الثالث
صد ورد
ولا نعلم كيف جاز لك الاعتراض على قولنا: «إن الصفات الموجودة في الأجسام المركبة موجودة بالقوة في المادة البسيطة، ووجودها فيها بالقوة لا يستلزم وجودها بالفعل.» بقولك: «إن ذلك غير مشبع ومناقض لرأي الطبيعيين أنفسهم.» إلا أن تكون قد فهمت القوة في قولنا «بالقوة» كما تتصورها أنت، وإلا فليس في كلامنا ما يوجب ذلك، ولا سيما بعد أن عرفناك أن القوة والمادة في عرف الماديين شيء واحد، والظواهر أو الصفات أو القوى ليست سوى تغيرات مادية - كما قد تبين فيما تقدم، وكما يتضح أيضا مما يأتي - فإنه في فحص جميع الظواهر الكهربائية المعروفة لسنا نعرف ظاهرة واحدة لا تدل على تغير في أدق أجزاء المواد المتهيجة كهربائيتها، فإنا إذا أطلقنا محمول قنينة ليدن في سلك من البلاتين؛ نرى هذا السلك يقصر حتى يتجعد لحصول تغير في أدق أجزائه.
وكذلك يحصل في سلك من الرصاص، فتتكون فيه عقد يضغط بعضها بعضا، وسائر الأسلاك المعدنية المستعملة في الأعمال الكهربائية إذا طال استعمالها في ذلك يحصل تغير جوهري في أجزائها، فقد تتصلب، وقد تصير سهلة القصم، وكذلك مجرى المغناطيس يؤثر في مرونة الحديد والفولاذ، فإن قضيبا من الحديد ملتويا من ثقله يتقوم إذا تمغنط، وهكذا تفعل أيضا سائر القوى في الأجسام كما يسهل تبيينه، فإن القوى الميكانيكية - كالتموجات التي يحدثها الصوت في الهواء مثلا - قد تحدث تحليلا كيماويا في المواد المركبة تركيبا ضعيفا.
وأما قولك ردا علينا: «إن وجود الزوائد في بعض الحيوان - والصحيح في عالم الحيوان والنبات - التي لا لزوم لها لا يلزم منه عدم الانتظام «ولعلك تريد القصد والغاية؛ لأننا لا نذكر أنا جئنا بهذه اللفظة، واللانظام عندنا أمر نسبي لا حقيقي، كما تقدم في مقالتنا السابقة» أولا: لعدم إمكان الإنسان أن يحيط علما بكل شيء، وربما أدرك الخلف ما لم ندركه نحن.» فعلى ذلك نجيب أن علماء طبائع الحيوان والنبات لا يدعون أنهم بلغوا علم كل شيء، بل هم لا يزالون يبحثون، وكل سنة بل كل يوم يكتشفون حقائق كانت غير معروفة عندهم، وما لا يثبتونه يطرحونه بين المسائل الخلافية، وهي ليست بالعدد القليل عندهم، إلا أن ما لا يعلم سببه الطبيعي لا يزالون يعالجونه حتى تنجلي لهم الحقيقة فيه بجهد التنقيب والتنفير، فلا يطفرون فيه حالا إلى ما وراء الطبيعة، كما يفعل جزافا سادتنا الفلاسفة النظريون، الذين لا يصعب عليهم وجود سبب لكل شيء، وهم في سماء خيالهم تائهون.
على أن عدم الإحاطة علما ببعض مفردات الأشياء لا يقتضي منه نفي ما تحقق عن أكثرها، وما يترتب عليه من الكليات، ولو جاز ذلك لكان الأولى أن تسقط كليات النظريين بأسرها، فإنها لا تكاد تتفق مع شيء من قضايا العلم الذي لا تزال تعترضه في سيره، وكم رأيناها مشتبكة معه في نزاع شديد، ولم نر العلم دان لها ولا مرة واحدة، فتلتزم أخيرا أن تذل له متصرفة في المعاني والألفاظ؛ لأن دائرتها كما لا يخفى عليك واسعة فلا يضيق بها مجال، وإذا كنا نعرف من المسائل تسعين مسألة مثلا، ولكل مسألة سببا طبيعيا، وكنا نجهل أسباب عشر مسائل، أفمن العقل أن يحملنا جهلنا على أن ننتحل لهذا المجهول قوى ما فوق الطبيعة، أم من الحكمة أن نقيسه على أخواته ونلحقه بها أملا بأن ينكشف لنا سره الطبيعي يوما ما؟ على أن الأعضاء الأثرية التي نحن بصددها ليست في شيء من ذلك، فقد تقرر وجودها، وعرفت الأسباب الطبيعية لكثير منها، ووضح أمرها، وقل غامضها، وهي تنقض الغاية وتنفي القصد، وتثبت القربى بين الإنسان وسائر الحيوان. وربما بعدت هذه النسبة بين الإنسان والحيوان بالعلم، وقربت بالجهل، فكان أقربهم إليه أجهلهم بمعرفة أصله، وأبعدهم عنه أعلمهم به.
ومن العجب أنك أثبت مذهب دارون وأنت تحاول نقضه بقولك: «وقد تكون هذه الأمور فلتات طبيعية مستفادة من الظروف والحوادث والأهوية والأقاليم ونحوها.» إذ لا يخفى عليك أن الخلق على مذهبك ومذهب أنصارك كائن بالأنواع، وهذا يقتضي أولا ثبوت الأنواع، وثانيا اشتمال كل نوع على الأعضاء اللازمة له لا أكثر ولا أقل؛ لأن كل نوع خلق خصوصي مختصر في جرثومة قابلة للنمو، ومتضمنة كل صفاته الجوهرية، وإلا فلا يكون في الخلق معنى لحدوث نقصان أو زيادة فيه تأباهما الحكمة، وقد تنزه الصانع الحكيم عن كل عمل لا حكمة فيه.
على أن معاني هذه الأعضاء الأثرية ظاهرة بنسبة التكوين المتسلسل كما يظهر لمن يدقق النظر في طبائع الحيوان والنبات، أو ينظر فقط إلى كلياتها نظرا عاما دقيقا، فلا يسعه والحالة هذه أن ينكر ما بين الأنواع والتباينات من النسبة الشديدة والقرابة والتسلسل، وسائر ما هو مقرر في مذهب دارون، إلا أن يكون سابق اقتناعه حاجبا بينه وبين ما يرى.
وقولك: «وهي بجملتها أمور عرضية» غير سديد؛ لأنه يلزمك أن تعلم أن الأشياء العارضة في الجسم من المعيشة والإقليم، والحاصلة عن أسباب أخرى أكثر اختلاطا تنتقل بالوراثة والانتخاب الطبيعي، وتصير جوهرية كما في الألوان وتشقق الجلد، وازدياد عدد الأصابع، والأمراض والأميال العقلية، وغير ذلك مما لا يسعك إنكاره.
وأغرب ما في ذلك قولك: «لأنه يوجد في الطبيعة قوة مهذبة مربية، وفي بعض الأحوال مولدة بادعة.» فأنت تعترف هنا بأن الطبيعة فيها قوة التوليد والإبداع، إلا أنك تجعل هذه القوة مودعة فيها من بادع الوجود، فيا للعجب كيف جاز لك هذا القول؟! أما رأيت ما فيه من التناقض؛ فإنك زعمت أولا أن المادة البسيطة يجب أن يكون فيها من الإدراك الكلي ما في الإنسان من الإدراك الجزئي، وبعبارة أخرى: إن الحجر يجب أن يكون فيه قوة تدرك كالإنسان، وإن لم يظهر لنا ذلك فيه، ولا يجب الاعتماد على المحسوس؛ فإنه قد يضل.
ولما بينا لك أن البسائط لا يلزم أن تكون متضمنة نفس الخصائص والقوى التي في المركبات، وإن كانت قابلة للظهور فيها عند بلوغها مبلغها، قلت: فإذن القوى الفاعلة في البسائط ليست القوى الفاعلة في المركبات. ولا يخفى ما في هذا القول من الاضطراب، ثم جئت لنا بتعليل آخر - أي الوجود المعنوي والوجود المادي - وقلت لنا: إنه المذهب الذي تذهب إليه هذه المرة، وقد رأيت ما له من القيمة، ثم ما لبثت أن هدمت كل ما بنيته بقولك: «إن في الطبيعة قوة مولدة مهذبة.» فكأنك قد أثبت لها ما يثبته لها الماديون؛ أي أثبت لها التوليد الذاتي، والفرق بينك وبينهم أن هذه القوة عندك ليست أصلية فيها، بل مودعة فيها من بادع الوجود. وهذه العبارة الأخيرة لم أقدر أن أفهمها؛ لأنه كما لا يخفى عليك بعد إثباتك قوة التوليد للطبيعة لم تذكر ما دليلك على أنها مودعة، ولعل ذلك من المسائل التي تعلو فوق طور العقل، والتي لم يعط حلها إلا للراسخين في العلم بطريق الإلهام والوحي، فأنا معذور إذا كنت لا أفهمها، فإنه لم يعط لي حل الرموز والاقتناع بالألفاظ المجوفة والكلام المقعر.
ومن العجب العجاب أنك لم تشترط حينئذ على طبيعتك ما اشترطته على طبيعة الماديين من ضرورة وجود صفات المركبات في بسائطها كما هي فيها، مع أنه لا فرق بينهما إلا من حيث الحركة الأولى أو بادع الوجود، وأما بعد ذلك فكل واحدة منها تعمل أعمالا من نفسها على نظام معلوم، وسنن واحدة، فيا للغرابة! كيف يقع كل هذا التناقض في كلامك وأنت به مرتض قانع.
على أن الذكاء وحدة الذهن لا يقتضيان أن يكون صاحبهما في مأمن من ضلال الأفكار، بل العقل يتصرف في المعاني بحسب قوته - سواء كانت المبادئ المؤسس عليها صحيحة أو فاسدة - فالمبادئ لا تؤثر في قوة العقل، بل في مجرى أفكاره، ولا في قوة استنباطه الأدلة العقلية، بل في صحة أحكامه وعدمها؛ ففي كل عصر وفي كل مذهب نبغ رجال معدودون من أفراد الزمان لما لهم من الذكاء وحدة الذهن وسعة الصدر، ولا يصح أن يكون جميعهم على هدى لتباينهم في الآراء والمذاهب، فالعقل يسير في الطريق التي يألفها، وينمو على المبادئ التي ينشأ فيها - صحيحة كانت أو فاسدة - وينبغ فيها بحسب ما له من الذكاء؛ فلا غرو إذا كان ضلال الأفكار في العالم نشأ عن أناس متوقدي الذهن، كثيري التفنن في أساليب الكلام، شديدي قوة التصرف في المعاني، وإن كانوا كثيري الخطأ في الأحكام يسحرون العقول التي لا تقوى على مناضلتهم بما يظهر لها من ساحر بيانهم، ويفتنون الألباب التي لا قبل لها بمجادلتهم بما تراه من فاتن برهانهم، ولا يغير مجرى الأفكار إلا تغير المبادئ، وأقرب المبادئ إلى الحقيقة ما وافق الاختيار.
قال أحد الحكماء: لا ينبغي قبول آراء آبائنا كما يفعل الأولاد بحجة أن آباءنا قبلوها، ونقول: إن جهل الإنسان لحوادث الكون كان سببا لانخداع عقله، واستحكام الخطأ من أفكاره، واستفحال الأوهام فيه، فإن من كان قليل الخبرة في شيء كان شديد التوهم فيه، كالطفل الذي يحاول أن يتناول بيديه ما يراه بعينه، فيمد يده إلى القمر كما يمدها إلى فيه، ولا يعلم أن القمر بعيد المنال، ولا يتيسر له معرفة الأبعاد إلا بتكرار التجربة، فهذه المعرفة في العقل ليست أصلية، بل مكتسبة بالاختبار، وقس عليها سائر معارف الإنسان الصادرة عن سائر الحواس.
وإذا علمت أن جميع معارف الإنسان مكتسبة حكمت معنا بأن أفكاره مكتسبة أيضا، وعقله مكتسب كذلك، وإذا كان العقل مكتسبا كان عرضة للانخداع؛ لعدم تبينه الأشياء كما هي في كل الأحوال، ولأول وهلة؛ فلا قيمة إذن للحجة التي يستند إليها النظريون بقولهم: إن ذلك مطابق للعقل أو غير مطابق له، إلا إذا اتفقت هذه الحجة مع سواها من البراهين الحسية، قلنا: وإذا تكرر هذا الانخداع على العقل شب عليه ونما، حتى يغدو فيه من الغرائز، فيصير عنده كل أمر مخالف لما تربى عليه خطأ وإن كان صحيحا، وكل خطأ استحكم أمره صعب استئصاله؛ لأنه لا يقتصر على نفسه، ولا يقف عند حده، بل يتناول كل شيء دونه، فيتطلب في استئصاله استئصال كل ما نتج عنه، وربما اقتضى نقض بنيان الهيئة الاجتماعية نقضا تاما، ولا يخفى ما دون ذلك من الموانع.
على أن كل عصر لا يعدم أناسا متقدين ذكاء تطاول هممهم الأفلاك وإن بعدت، ويسبرون بثاقب عقلهم الأسرار وإن خفيت. ولو أردنا تعداد مثل هؤلاء الرجال الذين قاموا في كل عصر، وكان لهم في تاريخ الإنسانية يد بيضاء؛ لضاق بنا المقام، فنقتصر على أسماهم عقلا، وأوسعهم فضلا، وأعلاهم همة، الذين قلبوا بتعاليمهم وجه الهيئة الاجتماعية؛ إذ زجروا الإنسان من سماء الخيال، وردوه إلى أرض الحقيقة غير محترمين تقليدا، ولا راهبين وعيدا، لا ملاذ لهم إلا العلم، ولا دين لهم إلا الحق، ولا غاية لهم إلا تخفيف مصائب الإنسان، وتقليل ويلاته بإنهاضهم إياه من حضيض الجهل إلى سماء العلم.
الفصل الرابع
في أصل معرفة الإنسان
إن من الأوهام التي تقاضت الإنسان حياته زمانا طويلا، وكانت أعظم أسباب شقائه، ودواعي عنائه اثنين عظيمين؛ وهما: أولا: اعتقاده القديم في الأرض أنها مركز تدور حوله الأفلاك، وثانيا: اعتقاده في نفسه أنه من أصل سماوي، فأهبطه الخالق من فسيح جنانه - ولماذا؟ - وأسكنه ضيق أرضه، وإنما خلق له كل شيء من منظور وغير منظور، وعلى هذين الاعتقادين نشأ الإنسان في الأخلاق والعادات والسياسة؛ فتقوض هذين الركنين يلزم منه انتقاض البنيان العظيم الذي شاده الإنسان عليهما، ولذلك كان انتشار الحقائق المخالفة لمألوف الناس صعبا جدا.
فكوبرنيكوس وكبلر وغليلي سحقوا بتعاليمهم الأفلاك البلورية التي اختلقتها أوهام الأقدمين، وأصلحوا علم الهيئة من هذا الخطأ المبين، وقرروا أن السماوات ليست قبة زرقاء مرفوعة فوق الأرض ومرصعة بمسامير من ذهب، وأن الجلد ليس فاصلا يفصل المياه التي فوق الجلد عن المياه التي تحت الجلد - كما توهم أسلافنا - وإنما هي فضاء فسيح تسبح فيه الأجرام السماوية، ومنها أرضنا هذه المتحركة حول الشمس خلافا لما كان يظن من أن الأرض ثابتة، والشمس تدور حولها خدمة لها، وأن العوالم خاضعة في مجراها لسنن ثابتة لا معلقة تمسكها يد خفية وتديرها كما تشاء، وبحسب ما لها من الأهواء.
ولا يخفى عنك ما اقتضى نشر هذا التعليم من العناء، وما اعترض في سبيله من الموانع، وما أوجب على ذويه من الاضطهاد حتى بلغ ما بلغ إليه من الانتشار، وقبل أن سكن كل ثائر ضده، وقعد كل قائم عليه، ولا يخفى عنك ما أوجب أيضا من الثورة في تاريخ الإنسان، فشمر الإنسان عن ساعد الجد، وأرسل طرفه إلى الأفلاك يستجليها نواميسها، ويستقصيها مادتها، ومد يده إلى جوف الأرض يستلبها كنوزها، ويستكشفها أسرارها، فانجلت له غوامض الطبيعة، وانكشفت له أسرار الكيمياء، وعرف المواد والعناصر وما لها من الشرائع، وما حوته من الخصائص، ودان له النبات، وذل له الحيوان، وانكشفت أسرار البيولوجيا، وبرزت دفائن البلينتولوجيا، فسأل عن أصل الحياة في آثارها.
وما الفضل في معرفة أصل الإنسان بأقل من ذلك، ومرجع هذا الفضل إلى لامرك ودارون، اللذين ردا الإنسان «الهابط من السماء والذي لا يزال يصبو إليها» إلى مقامه الحقيقي في الطبيعة. ولما انتشر هذا المذهب قامت عليه قيامة أصحاب التقليد، المحافظين على المقرر وإن كان خطأ، الكارهين لكل مستجد وإن كان صوابا. على أن سرعة انتشار هذا المذهب مع ما هو عليه من الحداثة يتبين منها ما له من القيمة الصحيحة، والحركة التي أثارها في الخواطر ليس لها مثيل في تاريخ الإنسانية، وقد ظهرت مفاعيلها وينتظر منها شيء كثير في المستقبل، فإنها لا تقتصر على تقرير هذه الحقيقة، بل لا بد لها من تغيير الإنسان تغييرا جوهريا، بحيث يتجدد كليا كأنه وجد وجودا جديدا، فتتغير أخلاقه وفلسفته وسياسته وشرائعه وحكوماته، وغير ذلك مما يتعلق بهيئته الاجتماعية.
ولا يسبق إلى فهمك على سبيل الجد أو المزاح أن هذا التغيير تكون نتيجته رجوع الإنسان إلى الأخلاق الوحشية، أو كما قالت إحدى السيدات الإنكليزيات لدارون: «إن الساعة التي يتأيد فيها هذا المذهب ينتقض بنيان الفضيلة في البشر.» كلا، بل بالضد من ذلك يقوى بنيان الفضيلة، ويستقيم أمرها عما هي اليوم عليه؛ إذ هي اليوم غائية لا يعملها الإنسان إلا خوفا من عقاب أو طمعا بالثواب.
وأما تلك فتكون اضطرارية قياسية؛ لاستقامة أحكام العقل بميزان العلم الصحيح - ولا يوهمنك ما جاء في إحدى المجلات، وقد قسمت الصدق إلى أربعة أقسام، منها اثنان صدق بالفطرة، وصدق بالخوف من الدين، مفضلة هذا الأخير على الأول، تفضيل الشرير المغلول الذي لا يقدر على عمل الشر؛ لتقيده على الصالح المطلق الحرية الذي إنما يصنع الصلاح؛ لأنه تعوده، ولا أعلم كيف صح في قياسها هذا التفضيل، ولعل السبب ما نحن في صدده.
ولا يخفى عليك أن مصائب الإنسان الكثيرة الألوان منشؤها الجهل، ولولا الجهل لما رأينا الزارع الذي هو أهم أركان الهيئة الاجتماعية يتضور جوعا حال كون الملك يكاد ينشق من تخم، ولولا الجهل لما سن الناس الشرائع التي يهضم بها الكبير حقوق الصغير - ولما رأيت بعضهم يعربد علينا كالبعير - ولما كثر تحامل الناس بعضهم على بعض، ولما فشا الكذب في نوع الإنسان، وطال لسان الرياء، وقصر لسان الحرية، وزاد الشر في بني البشر.
فالإنسان كالشجرة لا تستقيم إذا نمت عوجاء، ولا تعوج إذا نمت مقومة؛ لأن صفات الإنسان تنمو فيه قويمة إذا استقامت بالعلوم الحقيقية، والمبادئ الصحيحة، ومعوجة إذا تعوجت بالمبادئ الكاذبة، فإذا كانت مبادئ الإنسان صحيحة كان صحيح القياس، صحيح الحكم، وإلا فإن كانت فاسدة كان فاسد القياس ، فاسد الحكم، قضية مسلمة لا يصح فيها خلاف، وكأني بك وقد تأملت صحة هذا القول تنقبض نفسك يأسا؛ إذ تقنط من صلاح الهيئة الاجتماعية لعلمك أن الحقائق سلطانها قليل، وأن السائد إنما هو سلطان الأوهام.
نعم، إن صلاح الهيئة الاجتماعية صلاحا تاما عاما لا يكون إلا إذا كان العلم الصحيح تاما عاما، ولا بد منه يوما ما إلا أن ذلك الزمان بعيد جدا، وربما لزم له مئات من الأجيال؛ لأن إزالة ما رسخ في العقل من المبادئ في ألوف من الأجيال ليست بالأمر السهل، على أن ما لا ينال كله لا يترك كله، والطفرة في كل شيء محال، فانتقال الإنسان من الجهل التام إلى العلم التام يستحيل في نظام هذا الكون دفعة واحدة، إلا على سبيل المعجزات. ولا أظنك تجهل مبلغ المعجزات من الحقيقة، فلا بد إذن من السير البطيء في ارتقاء درج الكمال. فحال الإنسان من ذلك أدبيا كحاله طبيعيا، فهو لم يوجد كما هو الآن دفعة واحدة، بل اقتضى له ملايين من السنين حتى خرج من الحيوانية إلى الإنسانية، وهكذا لا بد له في قطع المسافات البعيدة التي تفصل بين أحواله الأدبية من السير البطيء المتمهل.
ملحق بالباب الأول
كان حضرة المعترض المشار إليه، وقد ستر اسمه، قد نشر قبل رسالته الثانية التي ظهرت في العدد 1179 من جريدة المحروسة، والمردود عليها هنا رسالة أولى في العدد 1175 منها، يعترض بها على المذهب المذكور، وقد رددنا عليها في العدد 1178 من الجريدة المذكورة بمقالة مختصرة، وهي هذه: (1) رد على رد
محصل ما في الرد المنشور في العدد 1175 من جريدة المحروسة على ما جاء في كتاب بخنر على مذهب دارون، أن حضرة صاحبه يوافقنا في أمور، ويخالفنا في أمور، يوافقنا في كون المادة أزلية أبدية، وأن الموجودات متكونة منها، ومتحولة عنها بقوة فيها ملازمة غير مفارقة. وهذا ما نذهب إليه ويذهب إليه جمهور الماديين، فلا خلاف بيننا من هذا القبيل؛ ولذلك فلا حاجة لنا إلى إعادة الكلام عليه، ويخالفنا في أن القوة اللابسة المادة والمتحولة فيها تحولها في الأجسام كافة من جماد ونبات وحيوان، هي على زعمه عاقلة مدركة تعمل في المادة إعمالا، مغياة على نظام مقصود.
وهذا ما لا نوافقه عليه، ولا يتحصل من مبدئه؛ فإنه جعل القوة والمادة أولا أزليتين، ثم جعل القوة متسلطة على المادة، وكيف يصح التوفيق بين القولين؛ لأنه في القول الأول جعلهما موجودتين معا، وفي القول الثاني فضل القوة على المادة، وسلطها عليها تتصرف فيها كما تشاء. ولا يخفى ما في هذا القول من معنى الفاعلية التي فيها معنى السبق أيضا، فتكون القوة في قوله سابقة المادة، ولو بالمعنى، وإذا صح ذلك فكيف يصح أن تكون المادة أزلية كالقوة؟!
أما الماديون فليس عندهم فرق بين القوة والمادة؛ إذ ليس بينهما عندهم فاضل ومفضول، وسابق ومسبوق، أو فاعل ومفعول؛ فهما بالحقيقة واحد لا ينفصلان، فهو من هذه الحيثية غير متفق مع أصحاب ما وراء الطبيعة وعلماء الأديان؛ لأنه جعل القوة الفاعلة والعاقلة محصورة في المادة، ولا مع العلماء الماديين؛ لأنه مع حصره القوة في المادة ضمنها معنى السبق عليها، ولا مع علماء الكلام؛ لما في كل ذلك من التناقض.
وأما كون القوة المذكورة ذات إدراك كلي في المادة الأولى البسيطة كإدراك الإنسان الجزئي في المادة المركبة، فهذا يوجب على مبدئه أن تكون المادة البسيطة مدركة أيضا؛ إذ لا يجب أن يكون فرق بين المادة والقوة على ما سلم به من ملازمة الواحدة للأخرى؛ بل يوجب أيضا أن تكون المادة الأولى ذات خصائص أكمل منها في المواد المركبة، ولا شيء مما نعلمه عن مواد الطبيعة يجوز لنا هذا الوهم.
ونحن في بحثنا لا نحب أن نتخطى الطبيعة، ولا ما ترشدنا إليه ظواهرها، فقبول المادة الأولى البسيطة للتركب على أحوال مختلفة، وللظهور بمظاهر مختلفة لأسباب ربما كانت اختلاف وضع في جواهرها الفردة لا يلزم منه أن تكون فيها صفات سائر الكائنات المتولدة عنها بالفعل، وإن كانت فيها بالقوة، فالقابلية لا يلزم منها الفاعلية، والقوة التي ترجع إليها سائر القوى ، وهي الحركة على ما اتفق عليه عموم علماء الطبيعة من كل المذاهب، وإن يكن في إمكانها أن تتحول إلى جميع القوى الطبيعية كالحرارة والكهربائية والنور وغيرها.
إلا أنه لا يسعنا القول: إنها نيرة بالفعل كالنور، وإن كان لها ذلك بالقوة، كما أنه لا يسعنا أن نقول: إن الحرارة كالكهربائية والكهربائية كالنور لإمكان كل منهما أن يتحول إلى غيره؛ ولذلك فلا يسوغ لنا أن نقول: إن القوة التي ترجع إليها جميع القوى تدرك كالإنسان؛ لأنه في إمكانها التحول إلى ما فيه من الصفات، فجعل المادة والقوة لا القوة وحدها - خلافا لما يستفاد من كلام حضرة المعترض - كلا عاقلا يتصرف في الأشياء كما يريد. لا نجد في الطبيعة ما يسوغ لنا القول به، ولا ينطبق على القياس؛ فإن كان مراده بقوته المدبرة المتصرفة في الكون السنن التي تجري عليها الطبيعة، فلا يكون بيننا خلاف في ذلك، إلا أنها لا تكون عاقلة ومريدة كما يريد هو.
وماذا تفيدها إرادتها وهي حينئذ لا تفعل مختارة؛ أي إنها لا تقدر أن تنشئ وتخرب، وتبني وتهدم وتخرق نظام الكائنات كيف شاءت ومتى شاءت؟ بل تفعل مضطرة على حكم الضرورة، وحينئذ لا يبقى له ما يخالف به الماديين سوى الاسم. وهذا لا ينازعه أحد منهم فيه، فليسمها ما شاء، وهو لم يتكلف هذه المشقة إلا لكي يتذرع بها لإلقاء أساس - كما يقول - يوافق أهل الأديان وعلماء الكلام. ولقد أحسن السير «وليم طمسن» حيث قال: إن الضلال الذي نشأ عن علم الكلام غرق أناسا أكثر من جهل رباني السفن على أن حضرة المعترض منفرد فيما ذهب إليه، ولا يجد بينهم من يوافقه عليه، وهو مع ذلك لو سلم له لا يكسبه شيئا فيما نرى؛ لأنه يبقى عليه أن يفصل نفس الإنسان عن نفس الحيوان. وكيف يتأتى له ذلك وقد جعلهما من مصدر واحد روحانيا وجسمانيا؟ بل يبقى عليه أن يفصل في الإنسان كل نفس عن نفس في هذا الوجود الكلي، حتى يجوز له أن يخبرنا على مذهب الأديان بمعاد وجزاء في نعيم وعقاب، في جحيم في هذا الوجود المشهود أو في غيره.
وعلى ما أرى أن هذا المذهب الذي ذهب إليه حضرة المعترض لا يدانيه مذهب في الغرابة، على أن الباحث في العلم لغاية غير معرفة الحقيقة لا يؤمن شططه، فنحن ليس غرضنا أن نبحث في العلم لنجد فيه ما نؤيد به أفكارا وأوهاما نشأت في الإنسان؛ إذ كان في مهد الطفولية، وصارت بطمعه من جهة، وجهله من جهة أخرى حقائق أدخلت في رأسه رغبة أو رهبة، تارة بالوعد وتارة بالوعيد، وإنما غرضنا الوحيد البحث عن الحقيقة نقبلها كما تنجلي لنا على صفحات كتاب الطبيعة، لا نصعد إلى فوق ولا نهبط إلى أسفل؛ لنبحث عن أشياء موجودة أمامنا وواقعة تحت حواسنا.
وقال أيضا: إنا ذكرنا الحياة ولم نعرفه ما هي، والحال أن موافقته لنا في ملازمة القوة للمادة والمادة للقوة لا تجوز له هذا السؤال، وهل يا ترى في إمكانه أن يعرفنا ما هي الحياة على مذهبه، أو مذاهب أصحاب ما وراء الطبيعة، ببيان مشبع أقرب إلى العقل من بيان الطبيعيين؛ فإن علماء الطبيعة لما كان غرضهم في البحث عن أشياء هذا الكون تقرير خصائصها، ومعرفة أحوالها، لم يكن يهمهم من ذلك كله إلا الوقوف على أسباب ظاهرة كافية للتعليل عن كل ما يحصل فيها.
وقد عرف بالاختبار أن المواد كلها ذات خصائص أو قوى تتحول فيها، وتكون بسيطة في البسيط، ومركبة في المركب، سموها تارة طبيعية، وتارة كيماوية، وتارة حيوية، بحسب ظواهرها في المواد المختلفة، لا أنها قوى مختلفة بعضها عن بعض بالطبع، فكلها بالحقيقة طبيعية، فكما أنه في إمكان المادة الأولى التحول إلى مواد كثيرة مختلفة جدا في الصورة، كذلك في إمكان القوة الأولى المتصلة بهذه المادة التحول إلى قوى كثيرة مختلفة في الخصائص.
أما إلماعه إلى الغاية والنظام المقصود، فمنقوض بما في الحيوانات والنباتات من الأعضاء الزائدة التي يسمونها أثرية، والتي لا فائدة لها، وفيما يسمونه حكم الضرورة، فمثال الأعضاء التي لا فائدة لها: الأسنان القواطع في أجنة كثير من الحيوانات المجترة، فهذه تكون في سمك عظم ما بين الفكين ولا تبرز أبدا؛ ولذلك لا فائدة لها، فما الغاية من وجودها؟ والإنسان في غنى عن تحريك أذنيه، فما الفائدة من العضلات المرتبطة بهما؟ وربما اكتسب الإنسان بالمزاولة والتمرين القدرة على تحريكهما، وأما فائدتها فظاهرة في بعض الحيوان.
ومن هذا القبيل أيضا العيون الأثرية التي لا تبصر في بعض الحيوانات، التي تقطن الكهوف أو تقيم تحت الأرض، وفي أكثر ذوات الفقار يوجد زوجان من الأطراف: زوج أمامي وزوج خلفي، ويكون أحد هذين الزوجين ضامرا غالبا. وفي النادر يكون الاثنان ضامرين كما في الحيات، على أن بعض الأفاعي - كالبوابيتون - له زائدتان عظميتان في القسم الخلفي لا فائدة لهما، وإنما هما أثران لطرفين كانا موجودين في أجداده. وأمثلة ذلك كثيرة جدا في الحيوان والنبات كما لا يخفي على علماء هذين الفنين، وفي هذا القدر كفاية لغرضنا.
فلو كانت الغاية موجودة لما وجب أن يكون في هذه الكائنات شيء لا فائدة له، وربما كان مضرا أيضا. وكم حار علماء طبائع الحيوان والنبات بهذه الأعضاء الأثرية قبل دارون، وذهبوا فيها مذاهب شتى حتى ظهر مذهب دارون، فقطعت جهيزة قول كل خطيب؛ لأن كل عضو لازم نما بالاستعمال، وكل عضو لا لزوم له ضمر لعدم الاستعمال، فعرف أن الأعضاء الأثرية كانت أعضاء نامية في أجداد كانت لازمة فيها، وضمرت حيث لم يبق لها لزوم، وفي البعض زالت بالكلية، فلا دخل للغاية هنا، وإنما الدخل للضرورة.
وما نراه من النظام فهو كذلك ضروري لا مقصود؛ لأن التغير الحاصل في جزء من أجزاء هذا العالم يتبعه تغير في سائر الأجزاء على حكم الضرورة كنتيجة لسبب، فإذا كانت العوالم موجودة على النظام الذي نراها فيه؛ فلأنها هي من الارتباط بعضها مع بعض؛ بحيث لا يمكن أن تكون على خلاف ذلك، فلو تغير نظام أحدها لوجب أن يكون التغير شاملا لعموم النظام؛ ولذلك لم يكن الكون بعضه بالنسبة إلى بعض، ولا هو كائن ولن يكون إلا منتظما وإن اختلف في الأزمنة الثلاثة؛ لارتباطه بعضه ببعض، وجريه على سنن شاملة لجميعه، وكذلك يقال في الارتقاء؛ فإن العالم لا يسير إلا متقدما لضرورة تغلب الأنسب في منازعة هذا الوجود، كما هو مقرر في مذهب دارون.
الباب الثاني
في ثبوت مذهب دارون وفساد نقيضه
وفيه ديباجة وسبعة فصول
الديباجة
ألا قل لمن عد مذهب دارون وساوس، واجتهاد أصحابه دسائس، فحمل عليه يريد طعنه بأسنة أيمانه، وذبحه بقواطع برهانه: رويدك؛ إنك قد استسهلت الصعب وما الصعب بهين، ألا راعك بعد الشقة، أم لم تدر ما أوجبت على نفسك من المشقة، أم كيف ساغ لك طعن تعليم دارون، وقد بحث فيه السنين الطوال، ونقض ما شيد عليه وهو أرسى من الجبال، أم بأي قوة نسفته نسفا، وتركته قاعا صفصفا لا ترى فيه عوجا ولا أمتا، بل كيف ساغ لك هدم أبحاث علماء الأرض بالطول والعرض؟ ألعلك ظننتها شذرات أفكار فدفعتها بشذرات أفكار، لم تكلفك البحث إلا سواد الليل وبياض النهار، ثم قلت: إنك مشبعنا، ولم تطعمنا إلا ضاهسا، ومروينا ولم تسقنا إلا قارسا. دع عنك هذه الوساوس؛ فما كانت الحقائق لتطرس بترهات البسابس.
ذكر بعض أدباء اللغة مذهب دارون في النشوء والارتقاء، وقفى عليه بما معناه أنه مذهب باطل بالأدلة العقلية والطبيعية، قال بعد تعريفه له ما نصه:
إن ركن النشوء والارتقاء عند دارون: الانتخاب الطبيعي، وهو فرض بلا إثبات، ورأي من صور الوهم. ا.ه.
ثم حصر اعتراضاته عليه في ثلاثة؛ أولا: أنكر الارتقاء بدليل أن كثيرا من الأحياء لم يظهر فيه شيء من علامات التدرج، ثانيا: أنكر الصور المتوسطة اللازمة في مذهب التسلسل، ثالثا: طول الزمان اللازم للانتقال من أدنى صور الحياة إلى أرفعها بالنشوء والارتقاء المنقوض بالأبحاث الجيولوجية - كما قال. وهي أهم اعتراضات خصوم هذا المذهب.
وفي كل ذلك من النظر ما يحتمل بحثا طويلا، ربما ضاق عنه الكلام إن لم يضق صدر المقام، فنجتزي بذكر شيء من كليات هذا المذهب دفعا للاعتراضات المذكورة، ومن تبقى عنده أدنى ريب نرده إلى مطولات القوم، ونحن الآن لا نطمع بالفوز في طريق كهذا كثير العقبات، وإنما نقول كما قال الإمام الغزالي: «ولو لم يكن في ذلك إلا ما يشككك في اعتقادك الموروث لكفى به نفعا؛ فإن من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والحيرة.» ا.ه.
الفصل الأول
في تغير الأنواع
نقول: لقد كان الاعتقاد سابقا أن الأنواع خلق خصوصي كل نوع مخلوق وحده، إلا إن الطبيعيين رأوا في الأحياء أشياء كثيرة لا تتفق مع هذا القول. أولا: قابلية كل فرد، بل كل نوع للتغير تبعا لنواميس حيوية حقيقية لا فرضية؛ كتغير الجماد تبعا لنواميس طبيعية، ثانيا: وجود أعضاء كثيرة لا فائدة لها في الحال، ولا تفهم غايتها إلا أنها كانت في الماضي، أو ربما صارت في المستقبل ذات فائدة في أحوال أخرى، ثالثا وحدة الناموس الرابط للأحياء بعضها ببعض، وهذا كله يجب ألا يكون في مذهب الأنواع الذي يقتضي أن تكون ثابتة، وأن كل نوع منها يتضمن فيه وفي جرثومته كل الأعضاء اللازمة له، لا أكثر ولا أقل، فقام في ذهن بعض المحققين أنه ربما كانت الأحياء كلها من مصدر واحد متكونا بعضها من بعض، متحولا بعضها عن بعض كما تتكون أصناف الحجارة في عالم الجماد.
وأول من قال هذا القول وأسنده إلى بعض مستندات علمية «لامرك الفرنسوي»، إلا أن قوله هذا صادف وقتئذ من التقاليد ونقصان الأبحاث العلمية موانع جمة حالت دونه ودون انتشاره، فقوبل بالإعراض شأن كل أمر لم تستعد له العقول، ولبث مطويا في زوايا الإهمال حتى قام دارون في هذا العصر وأخرجه إلى عالم البحث والنظر، وقد عززه بأن بسطه بسطا كافيا، وشرحه شرحا وافيا مستندا فيه إلى اكتشافات العلماء المتفرقة، وكانت قد كثرت فصادف هذه المرة أرضا معدة وعقولا مستعدة، فنبت ونما وتعالى وطما حتى كادت أبحاث العلماء تقتصر عليه ولا تنظر إلا إليه.
ولا نقول: إنه لم يقم له خصوم؛ فخصومه كثيرون، فبعضهم خاف منه على اعتقاد موروث، وهم أصحاب التقاليد، فشرعوا الأسنة، وأطلقوا الأعنة، ونادوا الجهاد الجهاد في سبيل الحقيقة والسداد؛ لأنه كما لا يخفى عليك كل واحد يدعى الحقيقة له، وهي واحدة، والناس منقسمون، فصاروا يقومون ويقعدون، ويجأرون ويزأرون، ويكفرون ويعطلون، وهم يخطئون مرة، ويصوبون أخرى، حتى وهنت منهم القوى، فتحصن عقلاؤهم وراء حصن الحياة، وأعقلهم وراء حصن الخلق الكلي تحت نظام كلي، وسنن كلية، وتركوا الطبيعة تدبر أمرها بإذن باريها.
وقد أثبتوا بذلك حكمة الخلق أكثر من سواهم من فرقتهم؛ إذ أثبتوا وحدة الخلق في الطبيعة أو كادوا، واتفقوا مع الواقع أو كادوا، وبعضهم - وهم فرقة من العلماء - رأوا ما رأوا، وعلموا ما علموا، ولكنهم حاروا بين المنقول المتأصل والمنقول المتحصل، وبعضهم - وهم فرقة من العلماء أيضا - رأوا ذلك وعلموه جيدا، إلا أنهم تصعبوا فيه، فطلبوا أن يروا بالعيان إنسانا منشقا من حيوان، وربما كان السبب الأكبر لعدم انضمامهم إليه رفعة مقامهم في عالم العلم، والعين قالوا: لا تحب نظيرها، فكان ذلك فيهم مصداقا لما في مذهب دارون، ألا وهو تنازع البقاء.
الفصل الثاني
في تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي
إن مذهب دارون بسيط جدا، ويقدر كل إنسان أن يدركه إذا نظر إلى الأشياء كما تعرض له، وتأملها بعين العقل التي لا يشوبها كدورة سبق الاقتناع، وإنا نعجب من أولئك الذين يشقون حجب الغيب بقوة عقلهم، ويدركون ما وراءها من الأسرار كيف أنهم لا يقدرون على إدراك ما هو أمامهم، وواقع تحت حواسهم كما هو حقيقة. والغريب أنهم يوميا في زرع النبات وتربية المواشي يجرون على قواعد هذا المذهب عمليا، وإذا سألتهم عنها نظريا أنكروها، وذلك دليل من أقوى الأدلة على ما لسبق الاقتناع من السطوة، وما للعقل من القابليات المختلفة الخاضعة لأحكام الحياة من مثل التغذية والوراثة.
فمن يجهل يا ترى اختلاف أفراد النبات والحيوان؟ وهل يستطيع أحد زارعا بسيطا كان أم عالما أن ينكر أن من هذا الاختلاف ما هو صالح لبعض الأحوال وغير صالح للبعض الآخر؟ أو ينكر ما للغذاء والأحوال الأخرى الطبيعية من اليد القوية في إحداث هذا الاختلاف تبعا لناموس المطابقة؟ وما للوراثة من القوة في نقل صفات هذا الاختلاف في النسل، وكيف أن هذه الصفات تقوى إذا ناسبتها الأحوال، وتضعف إذا لم تناسبها؟
لا لعمري، فالزارع كالعالم يعرف أن البذار الجيدة؛ أي المتميزة ببعض الصفات لمناسبتها لبعض الأحوال، أحسن من البذار الرديئة التي ليس لها ذلك؛ فيفضلها عليها، ويعرف كذلك أن الأرض الجيدة أنسب من الأرض الرديئة فيفضلها عليها أو يعتني بها، فيقدم لها المواد اللازمة لإصلاحها، ويقتلع منها كل الأعشاب؛ لعلمه بما يحصل بينها وبين مزروعه من التنازع على الغذاء والمكان، وما يلحق بمزروعه من الضعف بسبب هذا التنازع؛ فيمهد له الأرض حتى تنصرف كل قواه إلى التغذية والنمو.
ويعرف كذلك أن المواشي الحسنة المنظر، والصحيحة البدن، والشديدة، أنسب من سواها مما ليس فيه هذه الامتيازات، فيعتني بتربيتها وتوليدها، فهل رأيت امرءا يريد شراء دابة ولا يقلبها ظهرا وبطنا، وما غايته بذلك سوى قنية ما يعتبره أنسب له، ثم إذا اقتناها ألا يعتني بغذائها ومسكنها وما شاكل مفضلا مبدلا؟ ولماذا هذا التفضيل والتبديل لولا معرفته بما لذلك من التأثير في تغيير صفاتها في الشكل والقد والحسن والقوة ... إلخ؟
وإذا أراد استيلادها، ألا ينتخب لها الأحسن من نوعها، ولم ذلك لولا يقينه بما لعمل التوليد من القوة على نقل الصفات المختلفة، حسنة كانت أم قبيحة؛ فالزارع البسيط لا يجهل مثل هذه الأمور، بل هو من أشد الناس اعتبارا لها، وكل طبيعي عارف بالفسيولوجية يعلم أن التغذية كالوراثة من قوى الحياة الحقيقية المثبتة لا الفرضية.
وإذ تقرر ذلك، فاسمح لنا أن ننظر إلى نتيجته، فالاختلاف الذي ينشأ عن المطابقة؛ أي عن انفعال القوة الغاذية بالأحوال الخارجية الطبيعية، وإن كان قليلا، يجعل في الأحياء قابليات وجودية مختلفة، فيطلب الضعيف القوت، فينازعه القوي عليه، وإذا كان القوت قليلا يهلك الضعيف، أو إذا اشتد البرد أو قل الماء فلا يثبت إلا ما كان أقوى على تحمل البرد، وأصلح لتناول الرطوبات من الهواء.
ولا يخفى عليك أن عدد البيوض أو الجراثيم التي تولدها الأحياء، والتي يقدر كل منها أن يولد حيا إذا وافقته الظروف هو أكثر كثيرا من عدد الأحياء المتولدة حقيقة، فالعدد الأكبر من هذه الجراثيم يهلك في أوائل حياته، ولا يسلم إلا القليل المتميز ببعض صفات تسهل له قطع هذا الطور من الحياة الكثير الأخطار، كما يتضح لك من مقابلة عدد بيوض كل نوع بعدد الأحياء فيه، أو من مقابلة عدد الأحياء الكثيرة الجراثيم أو البيض بغيرها من القليل الجراثيم، فلا تجد نسبة بينهما، فإن عددا كبيرا من الحيوانات الفقرية القليلة الوجود يبيض بيوضا كثيرة حال كون غيرها من الفقرية أكثر منها وجودا، مع أنه لا يبيض إلا بيوضا قليلة.
وكما في الحيوان كذلك في النبات أيضا؛ فإن كثيرا من الطائفة الثعلبية يلد ألوفا من الجراثيم، وهو مع ذلك قليل جدا حال كون بعض المشععة من الطائفة المركبة كثيرا جدا، مع أن بذوره قليلة، فعدد الأشخاص التي تحيا لا يتوقف ضرورة على عدد الجراثيم، بل على أحوال مختلفة غالبا على نسبة متبادلة بين الحي والأشياء التي من خارج، فما كان من الأحياء أنسب من غيره سلم وبالعكس، وقس على ذلك سائر الأحياء مع سائر الأحوال الطبيعية الحيوية، فهذا ما يسمى في مذهب التحول «تنازع البقاء»، فهل يشك الآن في أن تنازع البقاء حقيقة وجودية كحقيقة الاختلاف؟
ثم إذا سلمت بهذا التنازع بين الأحياء، وجب عليك ضرورة أن تسلم ببقاء البعض وفناء البعض للأسباب المار ذكرها، وهذا ما يراد «بالانتخاب»، ويسمى «طبيعيا» إذا كان بين الأشياء التي من خارج وبين الأحياء، أو بينها بعضها مع بعض، و«صناعيا» إذا كان بواسطة الإنسان، كما في الزراعة وتربية المواشي كما مر، فالانتخاب الطبيعي ليس فرضا بدون إثبات، أو رأيا من صور الوهم كما قدمت، وكما يدعي خصوم دارون؛ لأن دارون - كما رأيت - لا يقول في تحول الأحياء بأسباب طبيعية مجهولة حتى يكون الانتخاب فرضا؛ بل يجعله نتيجة لازمة لأعمال حيوية معروفة كالمطابقة التي هي نتيجة التغذية، والاختلاف الذي هو نتيجة المطابقة، والتنازع الذي هو نتيجة الاختلاف. فالانتخاب الطبيعي نتيجة لازمة للتنازع، ولا يصح في قياس عاقل أن يجعل الانتخاب الطبيعي بعد ذلك فرضا، ولا سيما إذا كان عنده أقل إلمام بمبادئ الفسيولوجية.
وربما سلم خصوم دارون بالاختلافات المذكورة، ولكنهم لم يسلموا بصيرورتها جوهرية بحيث تتكون عنها الأنواع، فقالوا: إن الاختلافات لا تتناول إلا الأعراض فقط، فنقول لهم: إنه لا يلزم لإثبات مذهب الانتقال غير التسليم بحصول الاختلاف لاختلاف الأحوال، فالاختلاف الذي يكون بين الأحياء يجعل الأولاد تختلف فيما بينها، وتختلف عن الأصل المتولدة منه، وبتنازع البقاء والانتخاب الطبيعي يهلك بعض الأولاد، ويبقى البعض الآخر، فهذا الباقي مختلف عن أصله - كما رأيت - ومختلف فيما بينه.
ولا يخفى أن في البيولوجية ناموسا معلوما كثير الاعتبار جدا هو ناموس «الوراثة»، فهذا الباقي المختلف والمتميز ببعض صفات مناسبة لأحوال المكان والزمان تنتقل صفاته المتميز بها في بذارته أو نسله، وتتوضح أكثر وتتكيف بكيفيات أخر تختلف عنها في الأصل، وقل مثل ذلك أيضا عن بذارة هذا الباقي، وهكذا عن بذارة بذارته. وانظر إلى ذلك بتلسكوب الزمان في ألوف الأجيال، بل ربواتها، ثم قل لي إذا كان يمكن بعد ذلك أن تبقى الأبناء كالآباء، وإن لم تستطع فاهمس لي في أذني، فإني أقبل عذرك؛ فليس جميع الناس سواء في التصريح عن آرائهم، وأكثرهم على ما وصف الإمام الغزالي في بعض كتبه حيث قال: «إن الآراء ثلاثة أقسام، رأي يشارك فيه جمهور فيما هم عليه، ورأي يكون بحسب ما يخاطب به كل سائل ومسترشد، ورأي يكون بين الإنسان وبين نفسه لا يطلع عليه إلا من هو شريكه في اعتقاده.» ا.ه.
قال ابن خلدون متكلما في التاريخ: «وأهل الملك والسلطان إذا استولوا على الدولة فلا بد وأن يفزعوا إلى عوائد من قبلهم، ويأخذوا الكثير منها، ولا يغفلوا عوائد جيلهم مع ذلك، فيقع في عوائد الدولة بعض المخالفة لعوائد الجيل الأول، فإذا جاءت دولة أخرى من بعدهم، ومزجت من عوائدهم وعوائدها خالفت أيضا بعض الشيء، وكانت للأولى أشد مخالفة، ثم لا يزال التدريج في المخالفة حتى ينتهي إلى المباينة بالجملة.» ا.ه.
وهذا القول إذا أطلق على أثر الطبيعة وأطوارها في الأحياء لم يلزم أن يضاف إليه شيء لتعليل المباينة في مذهب دارون.
قلنا: وإذا لم يكن بعد قطع هذه المسافات الطويلة أن تبقى الأبناء كالآباء، أفلا يصير الاختلاف بعيدا جدا، وإذا بعد أفلا يصير جوهريا - لا تنس ربوات الأجيال - أولا تكون نتيجته تكون التباينات والأنواع وما شاكل. مثال ذلك: لو نمت نباتات مختلفة في أرض يابسة لاقتضى أن تتنازع أولا مع اليبوسة، وثانيا بعضها مع بعض، ولما كان الوبر الدقيق الذي يكسو الورق يفيد لامتصاص الرطوبة من الهواء، كان من الضروري أن يفوز في هذا التنازع ما كان هذا الوبر في ورقه كثيرا، ويهلك ما سواه.
ثم يقوى هذا الوبر في الجيل الثاني بالوراثة والانتخاب والتنازع، ويتميز جيلا عن جيل حتى يتكون منه نوع جديد، ثم إن نتائج الاختلاف لا تقتصر على عضو واحد، بل تمتد إلى سائر الأعضاء، فيحصل عن زيادة نمو وبر الورق نقصان في نمو أعضاء أخرى، كالزهر مثلا؛ لانصراف جزء من غذائه في نمو الأوراق، فيكون لتنازع البقاء نتيجة أخرى غير الانتخاب الطبيعي، وهي «التحويل» أيضا.
وهذا كل ما يلزم لتحول الأحياء، وتكون الأنواع، فكان الأولى بهؤلاء الخصوم الحريصين على الموروث أن يقصروا تشبثهم على مبدأ الحياة لا على فعلها في تحويل الأنواع؛ لأن الاتفاق على الحياة - أقوة طبيعية هي أم قوة فائقة الطبيعة؟ - ربما كان أبعد من الاتفاق على تحول الأحياء، ولا يخفى أنه كلما بعد الاتفاق كان ذلك أنسب لهم.
الفصل الثالث
مسائل على الخصم مشاكل
وإن بقي عندك ريب فقل لي:
أولا:
لماذا هذا الاختلاف في الأحياء باختلاف جنس المعيشة والإقليم وما شاكل إن لم يكن فيها ميل إلى التغير بحسب الأحوال الخارجية؟ ولماذا نفس هذا الميل إلى التغير إن لم يكن هو أصله ناشئا عن مثل هذه الأحوال؟
ثانيا:
لماذا هذا التنازع بين الأحياء إن لم يكن هذا الاختلاف يكسبها قابليات وجودية مختلفة، بعضها أصلح من بعض في بعض الأحوال، وغير صالح في البعض الآخر؟
ثالثا:
إن لم يكن الانتخاب الطبيعي نتيجة لازمة للتنازع، فلماذا كان هذا النوع مثلا لا يقوى على الثبات في مكان، ويقوى عليه في مكان آخر؟ أو لماذا كان بعض الأنواع يضعف - وربما تلاشى - أمام البعض الآخر؟
رابعا:
إن لم يكن للوراثة الطبيعية يد قوية في نقل الصفات، فلماذا كانت الصفات الطبيعية والأدبية العارضة كالعيوب والألوان والأمراض والأميال العقلية، وسائر الصفات المسماة أدبية تنتقل في النسل؟ وإذا توفرت لها الأسباب الطبيعية كجنس المعيشة والإقليم والتوليد، فلماذا كانت تنحصر في النسل، وتصير لازمة ضرورية؛ أي جوهرية؟
قال أبقراط في كتاب الأهوية والمياه والبلدان: «إني أغض النظر عن الأمم التي تختلف قليلا فيما بينها، وأقتصر على ذكر الاختلافات العظيمة الناشئة: إما من الطبيعة، وإما من العادة، وأذكر أولا جيل الميكروسفال «ذا الرأس المتطاول»؛ فإن هذا الجيل لا يوجد جيل يشبهه في تكوين الرأس ... وفي الأصل كانت العادة سببا لطوله، وأما الآن فقد صار للطبيعة يد في ذلك.
وأصل هذه العادة أنهم يعتبرون طول الرأس من علامات النبالة ... وأول ما يولد الطفل - إذ تكون أعضاؤه مسترخية ورأسه لينا - يضغطون الرأس بين اليدين حتى يتطاول، ويشدونه بربط وآلات مناسبة يفقد بها شكله الكروي، وتزيد في طوله ... وهذا التكوين نشأ في الأصل عن العادة، ثم صار مع الزمان طبيعيا لا حاجة فيه إلى العادة، فإن المني يأتي من كل أجزاء البدن صحيحا من الأجزاء الصحيحة، وغير صحيح من الأجزاء غير الصحيحة.
فإذا كان الآباء الصلع يلدون أولادا صلعا، وذوو العيون الزرق يلدون أولادا بعيون زرق مثلهم، والحول حولا نظيرهم إلخ، فما المانع أن أناسا طوال الرءوس يلدون أولادا طوال الرءوس نظيرهم ... وأما اليوم فانقرض هذا الجيل؛ لأن العادة قد ضاعت بمخالطة الشعوب الأخر له.» ا.ه.
خامسا:
لماذا كانت الأعضاء والصفات تضعف، وربما تلاشت بالإهمال والترك، وتنمو وتقوى بالاستعمال والتمرين إن لم يكن للعادة تأثير ظاهر، ولو لم يكن للعادة مفعول لما اقتضى أن يكون شيء من ذلك كله. أذكر أني من ثلاث سنوات شاهدت رجلا ألمانيا أقطع الذراعين خلقة من عند قرب مفصل الكتف، وسائر جسده نام جدا، وكان طويلا ضخما، فكان يستعمل رجليه لقضاء جميع حاجاته كاستعمال أمهر الناس ليديه، ويأكل بالسكين والشوكة برجليه، وهو جالس على مائدة ورافعهما عليها، حتى كان يتعذر على من يجهله أن يعرف أنهما رجلاه.
ورأيته يلعب بهما على «المندولينا»، وهي آلة كالقانون عندنا وأصغر منه بما يطرب القلوب ويذهل العقول، وفتح بهما زجاجة بيرا بالآلة المعروفة، ولعب بالورق مع أحد الحضور باللعبة المعروفة ب «الأكرتة»، فكان يخلط الورق برجليه وهو رافعهما على مائدة اللعب خلطا يعجز عنه مهرة اللاعبين، وزد على ذلك أنه كان يجمعه بصناعة غريبة، حتى إنه غلب خصمه مع كونه من الماهرين بهذا الفن، وقد أطلق برجله رفولفرا وأصاب الهدف بالرصاص.
وعند تأملي أصابع رجليه وجدت أن الإبهام اكتسب بالعادة قوة الانضمام إلى سائر الأصابع كإبهام اليد، والأصبع الثاني بعد الإبهام اكتسب طولا يكاد يبلغ طول السبابة. ولا ريب أن هذا الرجل إذا ولد أولادا بلا يدين مثله، وولد أولاده مثلهم بضعة أجيال تتحول الرجل فيهم بالوراثة والمطابقة يدا بكل صفاتها؛ لأن التغير الذي حصل في رجليه - كما رأينا - مهم جدا، والزمان الذي تم فيه ذلك ليس شيئا بالنسبة إلى الأجيال الطويلة لتاريخ الحياة، فإنه لا يكاد يحسب معها طرفة عين.
سادسا:
كم هي الأنواع؟ وهل جمهور الطبيعيين متفق على عددها؟ وإذا كان غير متفق فلماذا هذا الخلاف؟ وهل من فاصل يفصل النوع عن التباين فصلا تاما؟ وإذا كان هذا الفاصل لا يوجد، فما سبب هذا الارتباط إن لم يكن تكون الأنواع من التباينات، والتباينات من الأفراد؟
سابعا:
وأخيرا لو كانت الأنواع نتيجة خلق خصوصي لما اقتضى أن يكون فيها شيء من الأعضاء المسماة أثرية، أو لم يكن من الواجب أن كل نوع يتضمن فيه وفي جرثومته كل الأعضاء اللازمة له لا أكثر ولا أقل، وإلا فما «معنى الخلق على هذه الصورة؟ وأين الحكمة؟ وما هي الغاية؟ وهل يمكن تعليل هذه الأعضاء تعليلا يرضي العالم، ويقنع العاقل بغير مذهب دارون؟» أليست رابطا يربط الصور بعضها ببعض، وبما تقدمها من الأجداد البالية التي تقادمت عليه العصور، وتقلبت عليها الدهور؟
أيحتاج بعد ذلك إلى دليل على كون الحي متصلا بعضه ببعض بسلسلة انتقالات، وإن خفيت في البعض لأسباب طبيعية معلومة، إلا أنها ظاهرة في البعض الآخر بما يصح معه القياس ويتأيد به البرهان، أو يا ترى لا يجوز للطبيعيين القياس على الاختبار، ويجب لسواهم بدون ذلك، أم هل يعد مثل هذه المعلومات افتراضات وأباطيل وأضاليل، وغيرها مما لا يستند إلى شيء من العلوم الطبيعية يحسب حقائق، أم لعل أعظم الحقائق ما بني على الأوهام، كما يقول الفارياق في كتاب «الساق على الساق».
الفصل الرابع
في الإنسان وسائر الحيوان
إن الإنسان كالحيوان متكون على نفس النواميس التي تكون بموجبها عالم الأحياء، والأونثروبولوجيون بعد تشريح أعضائه ومراقبة قواه العاقلة ومقابلتها بالحيوانات الأخر الأقرب إليه لم يروا بدا من إثبات حيوانيته، أي إثبات الأصل الحيواني له، وقد اجتهد خصوم التسلسل كثيرا لكي يقيموا بينه وبين الحيوان فاصلا تشريحيا يجعله نوعا قائما بنفسه لا صلة بينه وبين القرد فلم ينجحوا، وأقوى حججهم أن الإنسان له عضلة طويلة خصوصية قابضة للإبهام، متميزة عن سائر القوابض، والقرد ليس له ذلك، فقالوا: إن بناء الإبهام العضلي كاف وحده لجعل الإنسان منفصلا عن الحيوان.
إلا أن هذه الدعوى باطلة، فقد جاء في جريدة العلم الفرنسوية بتاريخ 20 أيلول سنة 1884 ما نصه:
لقد بالغوا كثيرا بالقيمة التي يعدونها لهذه الصفة، ويصح لنا أن نرد على ذلك كما رد عليه كارل فوخت ودلي بقولنا: إن هذه الصفة وإن صحت لا تفيد سوى وصف يصح على التباين فقط، لولا أن لنا أدلة تشريحية تكفينا مئونة هذا القول.
ثم بسطت ذلك بكلام نؤثره عنها، قالت: «إن أصابع الإنسان تنقبض بواسطة عضلتين منفصلتين الواحدة عن الأخرى : إحداهما قابضة مشتركة تنشأ من الوجه المقدم للزند ومن النصف الأنسي للرباط بين العضمتين، وتنتهي في سلاميات الأصابع الأربع الأخيرة، والثانية قابضة خصوصية للإبهام تنشأ من النصف الوحشي للرباط بين العظمين، ومن السطح المقدم للكعبرة، وتندغم بسلامي الإبهام الظفرية، فهذا الوضع يجعل حركات الإبهام مستقلة، فلا يشترك بحركة الأصابع كما في بعض القرود، ولا ينقبض اضطرارا لانقباض السبابة، كما في بعض القرود الشبيهة بالإنسان كالكوريلا والشمبانزي.
فخصوم مذهب النشوء يسألونك دائما أن تريهم في القرود أوضاعا تشريحية خاصة بالإنسان، على أن احتجاجهم هذا فاسد كاحتجاج من ينكر أن الفرس آت من الهيبوريون، فيطلب إليك أن تريه هيباريونا ذا ظلف واحد كحافر الفرس، على أن الهيباريون الوحيد الظلف لا يكون حقيقة الهيباريون نفسه، وإنما يكون الفرس أو الأصل المشتق منه، وهكذا القرد ذو القابضة الإبهامية المستقلة لا يكون القرد، بل الأصل المرتقي عنه الإنسان، ولكن لو رأوا فرسا ذا ثلاثة أظلف «وهذه الحالة التقهقرية كثيرة»، لما أمكن فهم ذلك فيه إلا بناموس الأتافيسم - أي الرجعة كما اصطلحنا عليه في كتاب بخنر، ويراد بها ظهور صفات في النسل غير موجودة في آبائه القريبة، ولا توجد إلا في أجداده البعيدة، ولا حاجة إلى القول بأن هذا الناموس يثبت القربى - فلنر إذا كان مثل ذلك يوجد في الإنسان.»
قالت: «وفي القرود الشبيهة بالإنسان ترى الحزمة العضلية للإبهام تنفصل عن جسم العضلة القابضة الغائرة للأصابع أكثر فأكثر كلما ارتفعت في سلم هذه القرود، كما أنك ترى في الإنسان في حالات شاذة العضلة القابضة الخاصة بالإبهام تختلط بسائر القوابض. وهذا الاختلاط يكون على درجات مختلفة، وقد ذكره كثير من المؤلفين فلا سبيل للريب فيه، وقد ذكر تتو أنه رأه في عشرين حالة، وفي ثلاث منها كان تاما، وقد ذكر ولشم حالة من هذا القبيل، وكذلك رأى كل من جروبر وجستاف وججنبور وشدزنسكي مرة واحدة امتزاج العضلتين القابضتين الغائرتين امتزاجا تاما، مع فقد وتر الإبهام كما في الأوران أوتان.»
أفلا تكفي هذه الشواهد لأن تقنعنا بأن استقلال العضلة القابضة للإبهام في الإنسان نتيجة الارتقاء والاستعمال؟ ولنا دليل آخر على صحة هذا الرأي في الفروع البشرية السفلى كالسود؛ حيث هذه العضلة ليست مستقلة كما في الفروع المرتقية، وعليه فالهاوية التي أرادوا أن يقيموها بين الإنسان وسائر البريمات لا حقيقة لها.
ولا يخفى ما بين أيدي الحيوانات اللبونة من اختلاف الشكل في الظاهر، وأما في الباطن فهي متكونة على قياس واحد، ومتفقة في عدد العظام التي تكونها، وفي وضعها كذلك، كما يظهر لك من النظر إلى الأشكال التسعة والسابقة هي صور الهيكل العظمي لأيدي الحيوانات اللبونة التسعة. وليس العجب أنك ترى هذه المشابهة بين يد الإنسان «شكل 1» والكوريلا «شكل 2» والأوران «شكل 3»، لكن العجب أنك تراها كذلك بين يد الإنسان والكلب «شكل 4»، وزعنفة الفقم «شكل5» والدلفين الصدرية «شكل 6»، حتى جناح الخفاش «شكل 7»، ويد الخلد الشبيهة بالمعول «شكل 8»، والطرف المقدم لأول هذه الحيوانات وهو الأرنيثورنكوس «شكل 9» أيضا، فبم يعلل هذا الاتفاق في عدد العظام ووضعها وارتباطها العضلي مع هذا الاختلاف في شكلها الظاهر، إلا باشتراك أصلها وأثر الوراثة والمطابقة فيها؟
وأعجب من ذلك كله أن هذا الاتفاق محفوظ أيضا في سائر ذوات الفقر، التي هي أدنى من الحيوانات اللبونة، كما في أجنحة الطيور والأطراف المقدمة للحشرات وللنصف مائية، مما يدل على أن أصل الجميع واحد أيضا.
فهل مثل هذا القول «هلج يضحك الأذكياء، ويبكي العقلاء، بل البلداء»؟ لا لعمري، ولكن هي غايات معدودة في النفس، وأميال موروثة في العقل، إن لان الواحد لم يلن الآخر؛ فليضحك خصوم مذهب دارون أو فليبكوا ما استطاعوا، وليسخروا به ما شاءوا. إنه ليبلغ به البحث مبلغا ينقلب له وقته سكينة، فيصير المخطوف مألوفا، والوميض شهابا ساطعا، ويعلم أنه هو الحق الذي لا جمجمة فيه، وهل يسخر بالعلم وأفراد رجاله احتراما لأمور لم تؤيدها إلا الأكثرية المؤلفة - غالبا - من عامة الناس؟
وإن كانوا يضحكون الآن من دارون ومن حذا حذوه، فقد ضحكوا من قبله على كبلر وغليلي ونيوتون وغيرهم من أكابر العلماء، وإن كان لا يزال بعض العلماء الأعلام الذين يصعب عليهم في شيخوختهم تغيير ما نشئوا عليه وشابوا فيه غير موافقين لدارون في مذهبه، فقد خطأ نيوتون وغليلي وكبلر علماء كثيرون من معاصريهم ومناظريهم، وثبوتهم في مبادئهم من أقوى الأدلة على صحة مذهب دارون، بل تغييرهم لمبادئهم ربما انتقض به ركن عظيم من أركانه؛ إذ يضعف مفعول العادة والوراثة وتنازع البقاء، وكلها ذات شأن عظيم فيه.
الفصل الخامس
في الارتقاء
نقول والارتقاء في مذهب دارون أمر مقرر أخذا بشهادة البالينتولوجيين والطبيعيين المعول عليهم، وهو نتيجة لازمة للانتخاب الطبيعي، والخصم لم ينكره إلا بناء «على أن من الأحياء ما لم يظهر فيه شيء من علامات التدرج في سلم الارتقاء، فبقاياها منذ ألوف وربوات من السنين لا تختلف عنها اليوم.» وهو إنكار أصم لا يصح لاعتبار الجزء في مقام الكل، ونحن نزيده على قوله ذلك أن من الأحياء ما يتقهقر أيضا، لكن نقول له: إن إنكاره الارتقاء عموما لعدم ارتقاء البعض كإنكارنا الأسماء الممتنعة من الصرف لانصراف البعض في بعض الأحيان، فهل يمنع صرف البعض امتناع صرف الكل؟ كذلك وقوف بعض الأحياء أو تقهقرها لا يمنع الارتقاء عموما.
وإن قال لنا: إن صرف ما لا ينصرف جائز للضرورة، قلنا له: إن تقهقر ما يرتقي إنما يكون للضرورة أيضا، وإلا لما كان للفظة الانتخاب الطبيعي معنى في تنازع البقاء، فإن المناسبة في التنازع ليست واحدة في كل الأحوال؛ لأن التكوين الموافق في بعض الأحيان قد لا يوافق في البعض الآخر فيفقد، مثال ذلك: لو تعودت أحياء حياتها مستقلة أن تعيش على غيرها كالحلميات، لما عاد بها لزوم لحواسها الحادة، وأعصابها الشديدة، وحركاتها القوية فتفقدها، بل قد يكون الكمال نقصانا، فإن مثل هذه الأحياء تكون فيها أعضاؤها المذكورة في حياتها الحلمية سببا لضعفها؛ لاقتضائها غذاء لا حاجة بها إليه بدونها.
وفقد هذه الأعضاء يحسب فيها والحالة هذه امتيازا في تنازع البقاء مع الحلميات المختلفة؛ إذ يتوفر لها هذا الغذاء فتستخدمه لأعضائها الأخرى؛ لأن الاحتياجات في مثل هذه الحال كلما قلت زاد امتياز أصحابها فتقوى وترتقي، وغيرهما مما هو دونها يضعف ويتأخر، وما يقال على الجسم يقال أيضا على كل عضو من أعضائه، ولئلا يبادرنا بما ربما يحصل له عن ذلك من الارتباك، ويزيد في الطنبور نغمة، نقول له: إن الارتقاء نوعان: خاص وعام، ولا يجب الخلط بينهما، فالخاص قد يكون نقصا للزوم مناسبته لأحوال خصوصية، كما في مثال الحلميات المار ذكره.
وأما العام فارتقاء مطرد للزوم مناسبته لسائر الأحوال، ونتيجة ذلك كله الارتقاء عموما، ولا ينكره إلا من يجهل مبادئ التاريخ الطبيعي، ولا يدري حقيقة مذهب دارون، أو يعلم ولا يريد أن يعلم، أو يدري ولا يريد أن يدري، فقول أصحاب مذهب دارون: إن الارتقاء غالب لا مطرد إنما يعني به ارتقاء الأفراد، وإلا فالارتقاء مطرد. وما استشهد به من كلام بخنر توهم منه أو تصرف في المعاني، وإلا فهذا كلام بخنر في ذلك، قال: «فالنمو إلى الكمال يصاحب الفرد غالبا لا دائما.» فآراء القوم ليست كما ادعى مجموع فروض وتصورات وأوهام - ويا ليت شعري بماذا يجيب لو وقف موقف المطالب بالبينة عن حقيقة دعواه.
والطبيعة بذلك لا تفعل لغاية كما توهم، حيث قال في بعض كلامه ما معناه: إن الماديين يثبتون القصد للطبيعة وينفونه عن سواها، فما هذا الخبط؟ وهل يبلغ التواء الفهم هذا المبلغ فيمن نصب نفسه في مقام المعترض؛ فالماديون بل الطبيعيون أجمع لا يثبتون للطبيعة قصدا ولا غاية، وإنما يثبتون لها أعمالا لازمة ضرورية لنواميس معلومة، والارتقاء لا يخرج عن هذا الحكم، فإنه لما كان التنازع يحصل لوجود الاختلاف في قابليات الأحياء المتنوعة، والأحوال الخارجية، كان لا بد من الانتخاب الطبيعي، أي بقاء البعض وزوال البعض، ونتيجة ذلك في كل الأفهام بقاء الأنسب، ونتيجة النتيجة الارتقاء عموما.
ولو كانت الطبيعة تفعل لقصد، أو لو كان القصد موجودا في أعمالها لما اقتضى أن يحصل فيها شيء من الوقوف أو التقهقر، ولوجب أن يشمل الارتقاء كل متولداتها، فسيرها المعرج من أقوى الأدلة على نفي القصد فيها من كل نوع، وإثبات الضرورة، أيحتاج بعد ذلك إلى دليل على كون الارتقاء أمرا طبيعيا واجبا ضروريا لا قصد فيه ولا غاية؟
وهنا ملاحظة لا يحسن الإغضاء عنها، وهي متحصلة من إقراره في إنكاره الارتقاء بأن الأحياء قديمة جدا، أي منذ آلاف وربوات من السنين عملا بشهادة الجيولوجيين والبالينتولوجيين الذين استند إليهم، فإنكاره الارتقاء لم يثبت، وإنما ثبت عليه التسليم بأن الأحياء أقدم جدا مما يعتقد هو والمذهب المنتصر هو له، اللهم إلا أن يعود يكر ثانية على هؤلاء العلماء كرته على أصحاب مذهب دارون، ويطعن تعاليمهم وتعاليم سائر علماء الأرض بأشعة إيمانه، ويذبحها بقواطع برهانه، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
الفصل السادس
في الأدلة على الارتقاء والتسلسل
أدلة الارتقاء كثيرة جدا، نذكر منها تقسيم الأعمال في الأحياء، فكلما ارتقى الحي تقسمت الأعمال، وتميزت الأعضاء القائمة بها، وهو واضح، فتقليل عدد الأعضاء المتماثلة يعد ارتقاء. قابل الحيوانات المفصلة الدنيئة ذات الأرجل الكثيرة بأنواع الرتيلاء التي لها ثماني أرجل، وبأنواع الذباب التي لها ست، وقلة عدد الأرجل في الحلقية ارتقاء، وكثرة عدد الفقرات المتماثلة في الأسماك والنصف مائية تأخر؛ ولذلك فهي دون الطيور وذوات الثدي، وعلى هذا الناموس الأزهار الكثيرة العسب أنقص من الأزهار الشبيهة بها والتي عسبها قليلة، وبالجملة كلما نقصت الأعضاء المتماثلة في الحي عد ذلك فيه ارتقاء.
ومن الأدلة أيضا الحالة الخنثوية، فإن هذه الحالة تكثر كلما هبطت في دركات سلم الأحياء، وتقل كلما ارتفعت في درجاته حتى يستقل الذكر والأنثى كل منهما في فرد وحده، قال مكس وبر في جريدة العلم الفرنسوية بتاريخ 20 أيلول سنة 1884 ما نصه:
ومما ينبغي اعتباره أن الحالة الخنثوية الكثيرة في الأسماك تقل كلما ارتفعت في سلم ذوات الفقر؛ إذ يتضح تمييز الجنس أكثر فأكثر، على أن بعض النصف مائية كالعلجوم الذي هو بالحقيقة خنثى، فإن فيه غدة غير صغيرة أمام الخصية هي - بالحقيقة - مبيض، وبيوضه صحيحة التكوين، لكنها لا تلقح ولا تبلغ درجة النضج.
قلنا: وهذا دليل من ألوف على سبب الأعضاء الأثرية ، وعلى الانتقال والارتقاء.
ولعل من يتوهم أن الارتقاء سلسلة متصلة الحلقات منتقلة من الجماد إلى النبات، ومنه إلى الحيوان على خط مستقيم - كما يريد خصوم مذهب دارون أن يفهموه - يعترض علينا فيقول: إن الحالة الخنثوية لو كانت دليلا على الارتقاء لما اقتضي أن تكون في الحيوان، أو لوجب ألا يكون سواها في النبات، فنقول له: إن ذلك دليل على عدم فهمه لمذهب دارون؛ فمذهب دارون لا يعلم هذا التعليم، وإنما يعلم أن الأحياء كلها من أصل واحد، ومن أصول واحدة كالأغصان للشجرة - كما شبهها دارون نفسه - فكل منها يسير في جهة، ولا تتصل الأغصان بعضها ببعض إلا بالأصل فقط، فلا ينشأ بعضها من بعض رأسا، فنمو البعض غير متوقف على نمو البعض الآخر التزاما باعتبار كونه ناشئا منه رأسا.
ولذلك قد يكون في البعض المرتقي كله حالات تكوينية ناقصة عن البعض الأدنى منه كليا وبالعكس، كما أن بعض الحالات الكمالية في البعض لا توافق الآخر، فتقل ويكثر ما سواها، وأما من حيث النوعية والجنسية والكلية، فالأكمل - دائما - أرفع. وفي النظر إلى مذهب دارون، يجب اعتبار أحوال كثيرة مهمة مختلطة جدا تفوق حد الحصر تكيف كل شيء بحسب الزمان والمكان وما شاكل، فالقضية الواحدة التي توجب شيئا تحت أحوال معلومة ينشأ عنها شيء آخر تحت أحوال أخرى، وهكذا تتنوع الأشياء إلى ما لا حد له، خلافا لما يتوهمه البعض من أن الطبيعة تفعل ببساطة كلية، ولا يخفى نتيجة كل ذلك في البعض. وأما في الكل فالنتيجة واحدة، وفي بقاء الأنسب، وارتقاء الكل.
والارتقاء تؤيده الأبحاث البالنتولوجية خلافا لما قال من أنها تنقضه،
1
ومن العجيب أن تدرج رتب الحيوان في طبقات الأرض قد أثبته «أغاسيز» نفسه، مع أنه من ألد أعداء مذهب التسلسل، وهو من أكابر علماء الطبيعة الذين يقولون بخلق الأنواع، فمن المقرر أن أقدم أحافير ذوات الفقر المعروفة هي من أدنى رتبة الأسماك، وبعدها النصف مائية، وهي أكمل، ثم الطيور وذوات الثدي، وهي أكمل الجميع. وأول أحافير ذوات الثدي من رتبة ذوات الثدي العديمة المشيمة، وما كان من هذه الرتبة أنقص جاء أولا، ثم تبعه ما كان أكمل، وهلم جرا، ولم ينشأ الأصل الذي خرج منه الإنسان إلا في أواخر الطور الثلاثي للأرض.
وهكذا في النبات فقد تكون منه أولا أنواع الفطر، ثم السراخس، ثم ذوات الزهور أو البادية أعضاء التناسل، وأولا المتعرية البذور منها، ثم البادية أعضاء التناسل المغطاة البذور، وأولا العديمة التويجات منها ذات الغلاف الواحد، ثم التويجية ذات الغلافين، وأولا الكثيرة البتلات منها، ثم الملتصقة البتلات. وهذا الترتيب دليل قاطع على الارتقاء.
وهكذا يقال أيضا عن تاريخ الإنسان المتقدم دائما في سبيل تقسيم الأعمال، والتدرج في سلم الارتقاء. ومن ينكر ارتقاء الإنسان في التاريخ يلزمه أن يقيم البينة على أن العصور الماضية كان فيها ما يعادل عصرنا، فإنه لا يستطيع أحد أن يقول: إن التاريخ في طاقته أن يذكر عصرا من العصور الحالية بلغ فيه الإنسان درجة تعادل درجته اليوم من الارتقاء في العلوم والمعارف، ولا يتوهم أنه بلغ الغاية في الكمال والنهاية في الحسن، ولكن كل شيء نسبي، فالقرن التاسع عشر لا يفاخره قرن ما بعد المسيح، ولا قبله من التاريخ المعروف، على أنه لا يقتضي أن يكون الفرق كبيرا؛ إذ لا يخفى عليك أن المدة التي تفصل بين أطوار تاريخه تكاد لا تحسب لحظة بالنسبة لتاريخ العالم العضوي، وتقهقر بعض الأمم، ووقوف البعض لا يتخذ حجة لإنكار الارتقاء، فهما مردود عليهما بما قيل من تقهقر بعض الأحياء ووقوفها؛ إذ لا يكون ذلك إلا مع ارتقاء المرتقي عنه. وهذا باعتبار الكل يحسب ارتقاء.
الفصل السابع
في دفع اعتراضات على مذهب الارتقاء والتسلسل
أما اعتراض فقدان الصور المتوسطة التي يقتضيها مذهب التسلسل، فإما أن يراد به الصور الحية أو أحافيرها، فإن كان الأول قلنا له: إن الصور المذكورة موجودة بكثرة، والذين يعترضون هذا الاعتراض - وهم أصحاب الأنواع - كثيرا ما يقفون محتارين بين نوع ونوع، ولا ينكرون الصعوبات التي تعترضهم في ترتيب الأنواع؛ ولذلك هم غير متفقين على عددها؛ فقد عد بعضهم لجنس الهيراسيوم الكثير جدا في أوروبا 300 نوع في ألمانيا وحدها، وأما فريبسس فجعلها 106، ولوك 52 نوعا صحيحا فقط.
والاختلاف بينهم كثير كذلك على عدد أنواع عليق الجبل، فقد عدها بعضهم 100 نوع، وغيره نصف ذلك، وغيره أقل، وجعل بخستين طيور ألمانيا 367 نوعا، وريخنباخ 379، ومايرولف 406، وبرهم رفع عددها إلى 900، فلماذا هذا الاختلاف بين الطبيعيين على عدد الأنواع، إن لم يكن لكثرة الصور المتوسطة التي تجعل الفصل بينها صعبا.
وإذا خفيت الصور المتوسطة بين كثير من الأنواع، فلا تخفى أسباب ذلك على الناقد البصير، فمن المعلوم أن تنازع البقاء يكون أشد كلما زاد تقارب الصور بعضها إلى بعض، ونتيجة شدة هذا التنازع سرعة انقراض الصور المتوسطة، فإن نوعا واحدا إذا ولد تباينات مختلفة فالتنازع بينه وبين تبايناته يكون أشد في الأقرب إليه منها، وأضعف في الأبعد عنه، ونتيجة ذلك بقاء الصور المتباعدة وفقدان الصور المتوسطة.
ولذلك لم يكن صور متوسطة بين الصفوف التي هي في حالة الانقراض، أو الوقوف كالنعام والفيل والزرافة وعديمات القواطع والأرنيثورنكوس؛ فإنها لا تولد تباينات جديدة، ولذلك تؤلف أنواعا مستقلة بخلاف طوائف الحيوان التي في حالة النمو؛ فإنها تنحل إلى عدة أنواع جديدة بالتباينات التي تنشأ منها، ولذلك يوجد صور متوسطة كثيرة يحار فيها المرتبون، ككثير من المجترات والقرود الصحيحة وقرود أميركا ذات الأذناب الماسكة وأكثر القواضم وغيرها، بحيث إن الحد بين الأنواع فيها وهمي لا حقيقي.
وإن كان الثاني - أي إن كان المراد به فقدان الصور المتوسطة الأحفورية - فهو أيضا غير صحيح؛ لأنه يوجد صور أحفورية متوسطة كثيرة، وكل يوم تكشف صور جديدة كالأركيوبتركس الذي يصل بين الزحافات والطيور، كما بين ذلك هكسلي، والهيباريون الذي يصل بين الفرس والأنخيثريوم المشتق هو نفسه من الباليوثريوم، كما بين ذلك جودري «ألبرت» في كتابه تسلسل عالم الحيوان في الأطوار الجيولوجية، وكذلك بين ولدمار كوالسكي وحدة أصل الخنزير والمجترات.
وقد عرف كوفيه أن الباليوثيريوم يشبه الطابير - حيوان أميركاني شبيه بالخنزير - بأطرافه، ويختلف عنه بأضراسه، ويقترب من الكركدن بأضراسه، ويختلف عنه بقواطعه، والأنوبلوثيريوم لا يشبه شيئا مما يوجد اليوم، وكتين مرتين الذي اكتشفه حديثا الموسيو كريفي في طبقات البليوسن لجافا، والذي ذكرته جريدة العلم الفرنسوية بتاريخ 16 آب من هذه السنة، فإنه يصل بين التين الملوي لطبقة الميوسان، والتين الخشن الموجود اليوم في تلك البلاد وغير ذلك.
نعم إن المكتشف من الصور الأحفورية المتوسطة ليس شيئا بالنسبة إلى كثرة الأحياء، على أن المكتشف وقلته لا تفيدان سوى كثرة الأدلة أو قلتها، وإنما المفيد وجود مثل ذلك - ولو مرة - حتى يعلم أنه موجود، وإذا اعتبرنا الموانع الكثيرة التي تحول دون الأبحاث البالينتولوجية - كبعد الزمان وصعوبة المكان وعوامل الدمار وقلة المعلوم لنا من الأرض - نجد أن هذا القليل المعروف من الأحافير - مع ما نعلمه من الصور المتوسطة في الأحياء اليوم كما تقدم - كاف لأن يقنع كل عاقل بصحة مذهب الانتقال، ومن يرى ذلك كله ولا يقنع؛ فذلك لأنه لا يريد أن يقتنع، لا لسبب آخر، فقل الآن من المكابر: أأنصار هذا المذهب أو خصومه؟
ومن أدلة اتصال الأحياء وارتقائها تكوين الجنين، فلا يخفى أن كل جنين صادر أولا من بيضة أو بذرة لا يختلف بناؤها الجوهري، ولا يختلف بعضها عن بعض إلا في الحجم والشكل فقط، وهذه البيضة أشبه بالخلية في تكوينها، وتنمو نظيرتها بالانقسام، ثم إن أجنة الحيوانات إذ تنشأ من هذه البيضة تكون متشابهة، وفي الأطوار الأول يصعب تمييز أجنة ذوات الثدي من أجنة الطيور وسائر أجنة الحيوانات الفقرية، قال «فون باير»: «حفظت جنينين صغيرين في الكحول، ونسيت أن أكتب اسم كل واحد عليه. واليوم يتعذر علي أن أعرف من أي صف هما، أمن صف القواضم أم الطيور أم ذوات الثدي؟ نعم إن أطرافهما لم تكن قد تكونت، وهب أنها كانت، فوجودها في أول تكوينها لا يفيد شيئا؛ لأن أطراف القواضم وذوات الثدي وأجنحة الطيور وأرجلها متشابهة حينئذ.»
ولا تختلف إلا بعد ذلك كما ترى من مقابلة صور الأشكال السابقة، وهي صور جنين الإنسان والكلب والدجاجة والسلحفاة في أطوار مختلفة، ومعلوم أيضا أن الأجنة تمر في زمن تكونها قبل أن تبلغ كمال نوعها على أطوار تحاكي الصفوف التي مرت بها أنواعها في سلم ارتقائها، فجنين الإنسان قبل أن يكمل يمر بأطوار موافقة لصفوف كوفيه الأربعة، وبين انتقال كل جنين والصفوف التي مر بها نوعه نسبة شديدة، بحيث تطول إقامته على مشابهة صف كلما كان نوعه أقرب إلى ذلك الصف. وهذا من أقوى الأدلة على صحة مذهب التسلسل كما لا يخفى.
وأسخف الاعتراضات ما تعلق منها بالزمان، فمن المقرر في مذهب دارون كما في مذهب ليل أن الزمان المقتضي للارتقاء ولتكوين طبقات الأرض طويل جدا، إلا أنه غير متفق على تحديده، وربما كان تحديده ممتنعا بالوسائط التي لنا؛ لأن أقل خطأ يقع في اعتبار أقل شيء تكون نتيجته مع الزمان الطويل كبيرة جدا ربما بلغت الملايين من السنين، فقوله: «إن بلوغ الأنواع الحية إلى طورها حسب مبادئ الارتقاء الدرويني يقتضي أن الأحياء كانت على الأرض قبل أن تصلح الأرض للحياة» غير سديد؛ لأن تحديد السير وليم طمسن لعمر الأرض، وتحديد المستر ميفار لعمر الحياة لا يفيدان سوى قضية واحدة؛ وهي طول الزمان، ولا يفيدان سواها، وهو كل ما يلزم في مذهب النشوء.
وأما كون تحديد ميفار يلزم منه أن تتقدم الحياة على تكوين الأرض حسب تحديد طمسن؛ ففيه نظر، قال دارون: «إن صح مذهبي فلا بد أن الزمان الذي مضى قبل تكون الطبقات الكمبرية السفلى - والذي نجهله - كان طويلا جدا، وربما أطول منه بينها وبين اليوم، ولا بد أن كانت الأحياء في هذا العهد كثيرة كذلك، إلا أنه يعترضنا هنا اعتراض صعب؛ فإن السير وليم طمسن يزعم أن يبس قشرة الأرض لا يمكن أن يكون قد تم في أقل من عشرين مليون سنة، ولا أكثر من أربعمائة مليون سنة، وأنه يقتضي أن يكون بين ثمانية وتسعين مليون سنة ومائتي مليون سنة . وهذا الزمان كما ترى غير كاف لبلوغ الحياة إلى أطوارها اليوم بالنشوء والارتقاء.»
وهذا ما دعا السير «وليم طمسن» إلى القول بأن الحياة إنما نشأت على الأرض من جراثيم أتتها محمولة على رجم الأجرام السماوية لما فرضه من عمر الأرض - كما تقدم - ولما علم من وجود مثل هذه الجراثيم الحية في هذه الحجارة المنقضة، فقول طمسن بها - كما ترى - ليس تخيلا حتى يرمى بقولك: «إنه طار في مركبة الخيال.» وهو تعليل طبيعي في الفرع والأصل، إلا أن دارون في ملاحظته على تحديد طمسن يقول أيضا: «على أن الفرق العظيم بين هذه الحدود يدلنا كم هي الأدلة ضعيفة» إلى أن يقول أيضا: «وقد يمكن - كما أشار إليه السير «طمسن» قصدا - أن الأرض كانت في أطوارها الأول معرضة في أحوال الطبيعة لتغيرات أسرع وأشد مما هي الآن، فحصلت تغيرات أسرع كذلك في الأحياء التي كانت تقطن سطحها في هذه الأزمان البعيدة.» ا.ه.
والحق يقال: إن مذهب الانتقال وإن كان يعلل به أشياء كثيرة لا تفهم بدونه، لكن لا ينكر أنه ناقص كما بسطه دارون، قال بربر في كتابه «طوائف الحيوان» - المطبوع بباريز سنة 1881: «إن الأسباب الأولى التي أحدثت الاختلافات الشخصية، والتي لا بد من أن كانت كثيرة جدا، لا تزال مجهولة، ويلزم تعيينها وتعيين سبب العقر في الناتج من تصالب الأنواع، وكذلك المسافات التي يلزم قطعها من النقاعيات حتى الإنسان شاسعة جدا.» لكنه يقول أيضا: «إن تلك مسائل يلزم اكتشافها، ولا يصح أن تكون اعتراضات على مذهب التسلسل، وأي مذهب كيماوي أو طبيعي لا اعتراض عليه.»
ولا يخفى أن المشهور عن الناتج من تصالب الأنواع كالبغل أنه عقيم، لكن يظهر أن هذا العقم ليس مطلقا، وإذا اعتبر ذلك تضعف القيمة التي تبنى عليه من حيث فصل الأنواع. ذكر «ماتياس دوفال» - في جريدة العلم الفرنسوية بتاريخ 26 ك2 سنة 1884 - أن «سنسون ذكر حوادث كثيرة ثابتة فيها حملت البغلة من الحصان، وقال أيضا: إنه من بضع سنين كان في بستان الداجنات بباريس بغلة مع أولادها الثلاثة؛ اثنان مولدان منها، ومن حصان جزيري، والثالث من حمار مصري، قال: وكذلك ذكر بوفون أن كلبا وطئ في 28 آذار سنة 1773 ذئبة لأحد الأمراء المسمى سيونتين بوفور، فوضعت الذئبة في 6 حزيران من السنة عينها أربعة أجراء: أنثى واحدة، وثلاثة ذكور، وقد حملت الأنثى المذكورة من أحد الذكور في كانون أول سنة 1775، ووضعت في آذار سنة 1776 أربعة أجرية: ذكرين وانثيين، واعتنى بوفون بتربية زوج منها، فحملت الأنثى من الذكر في كانون الأول سنة 1778، ووضعت في آذار سنة 1779 سبعة أجرية.» ا.ه.
وأمثلة ذلك كثيرة، وهذا يقوينا على تصديق ما ذكره الدميري في حياة الحيوان الكبرى، قال في وصف البغل: «وهو لا يولد له، لكن في تاريخ ابن البطريق في حوادث سنة أربع وأربعين وأربعمائة، أن بغلة بنابلس ولدت في بطن حجرة سوداء وبغلا أبيض، قال: وهذا أعجب ما سمع.» ا.ه. ولعل الأحياء الأولى كان عقيمها أكثر من منتجها لأسباب لا نعلمها، ثم انفصلت المنتجة بالانتخاب الطبيعي، وغلب فيها ذلك بالوراثة فتكاثرت الأنواع، وهو ظاهر.
خاتمة
في أن مذهب دارون لا ينقض إيمان المؤمنين
لقد ضيق خصوم هذا المذهب المذاهب على أنفسهم بتحاملهم عليه من أجل الإيمان، وهذا ليس من الحكمة في شيء، ولا سيما أن هذا المذهب آخذ بالامتداد يوما فيوما، وربما لا يمر ربع جيل حتى يخلو له الجو من كل معارض، على أن مجال الإيمان أوسع من أن يضيق بمذهب النشوء - كما أشرت إلى ذلك في رسالة وضعتها في الأخلاق - بحسب مذهب دارون - وأرسلتها إلى المقتطف في 12 مارس سنة 1883 لتنشر فيه ولما تنشر - وكان ذلك على أثر الخلاف الذي حصل في المدرسة الكلية، وانتهى بفصل بعض أساتذتها بسبب مذهب دارون في الظاهر.
وأما في الباطن فقل: إن السبب كان غير ذلك، أو كان كما قال لي بعضهم: «ليست رمانة، ولكن قلوب ملآنة.» وقد قصدت فيها وقتئذ التوفيق بين هذا المذهب والدين حسما لهذا الخلاف الذي لم تكن نتيجته لتحمد، وقلت من كلام في ختامها ما نصه:
وهذا المذهب قد هاج الخواطر ضده في نفس إنكلترا وطن دارون، وقد أورد دارون كلام امرأة ساءها مذهبه في مقابلة أخلاق الإنسان بأخلاق النحل، قالت: «إن الساعة التي يتأيد فيها هذا المذهب ينتقض بنيان الفضيلة في البشر.» فأجابها دارون بقوله: «من الواجب أن نرجو ألا يكون دوام الفضيلة على هذه الأرض قائما على قواعد واهنة بهذا المقدار.» على أن الخوف في غير محله، ولا يشف كلام دارون عنه، لأنه إن صح أن أصلنا يعود إلى ذوات الأيدي الأربع التي كانت تقطن غابات العالم القديم، فلا خوف علينا أن نرجع نتعرش على الأشجار، ولا ينقص قدرنا عما نحن الآن أناس بين الملائكة والحيوان، أقرب إلى الملائكة تارة، وأقرب إلى الحيوان أخرى، كذلك أيضا إذا صح أن الضمير تولد في الإنسان - كما يقول دارون - فلا خوف علينا أن نرجع إلى الضحايا البشرية، وإلى أكل بعضنا بعضا، وقتل أولادنا.
على أن مذهب دارون قد جعل في ضمائر كثيرين خوفا آخر حقيقيا، وهو نفسه قلق منه قبل غيره، ألا هو الخوف على خلود النفس، وعلى كل الأفكار الروحانية التي هي رجاء الإنسان وعزاؤه، لكنهم في خطأ من شدة خوفهم؛ فإنهم كانوا سابقا يقولون بخلق خصوصي لكل نوع، وللإنسان خاصة، وهو قول لا يمكن تأييده فيما يمس جانب الله، إذا بين العلم الذي لا ينطبق هذا القول عليه أن الأنواع، ومنها الإنسان، قد تكونت بفعل النواميس الطبيعية الواحدة، أليس في التعليل عن العالم بنواميسه الخاصة زيادة عظمة للقوة التي سنت هذه النواميس؟ ماذا يذيع مجد الله أكثر: أفلك الأقدمين الدوار الذي هو سقف مرصع بمسامير من ذهب، أم العوالم التي لا تحصى الخاضعة لناموس الجاذبية العام؟
إلا أننا قد تعودنا أن نتصور الله يصنع الإنسان كما يصنع الناحت التمثال، بحيث أن كل شيء يفقد إذا ناقض العلم هذا الفكر الحقير. وإنها لدعوى غريبة أن نعارض العلم بفكر تصورناه في حال جهلنا، فكان يلزم ألا نذهل عن أن الله إذا كان قريبا من قلبنا، فهو بعيد جدا عن عقلنا.
وإذا كان في الإمكان أن ينتقل من الحيوان إلى الإنسان بسلسلة انتقالات غير محسوسة، فهل يلزم من ذلك أن تكون حالتنا حالة الذباب والنمل، وإذا لم يلزم ذلك، ففي أي زمن من هذه السلسلة تظهر النفس، فدارون يقول: لا أعلم، لكن هل سألت نفسك في أي زمن تدخل النفس الإنسان: أفي زمن الحمل، أم بعد ثمانية أيام، أم بعد شهرين؟ وإذا كان هذا السر لا يزعزع إيمانك فيما خص الفرد، فلماذا تخاف منه في النوع؟ ا.ه.
فمثل هذا القول خير وأبقى.
وقد شعر بعض المذاهب بذلك فاستدركه واستعد له، فقد جاء في كتاب «اللاهوت» للدكتور «جمس أنس» الأميركاني، في فصل النشوء بواسطة عناية الله، ما نصه:
ولا يخفى أن جمهورا من أفاضل العلماء المسيحيين مستعدون لقبول مذهب النشوء على هذه الصورة متى أثبت بأدلة أقطع وأوضح مما لنا، إلى أن يقول: وعلماء الطبيعة الذين يأبون الكفر يرومون النظر إلى الطبيعة بموجب مذهب النشوء على هذه الصورة، لما فيه من تسهيل فهم أمور كثيرة لإيضاح أسرار الخليقة.
وهذا يدلك على مبلغ هذا المذهب من عقول أهل العصر حتى أعدائه، والفضل ما شهدت به الأعداء، ولعله يقول: إنه استدرك ذلك في آخر ما كتب اقتداء بمثل هؤلاء الأفاضل، فنقول له: إن استدراكه ذلك لا يوازي ضحكه وبكاءه وهزءه به في أولها - كما في صفحة 6 - حيث قال: «وما ذلك إلا هلج تبكي أوائله العقلاء، وتضحك أواخره الأذكياء والبلداء، بل تكاد القرود تهزأ به، والنقاعيات والكييسات الهلامية تسخر منه.» وهو نقض لبدء، ولعله من معجزات الاستنتاج، أو هو ارتقاء في المذهب، وتقهقر في اليقين، ولا نعلم أن الضدين اجتمعا في غير ذلك، فعلى الدين ألا يقف معترضا في سبيل العلم، وألا يشتبك معه في خصام مضر للاثنين، ولا يستطيع الدين أن يثبت فيه.
الباب الثالث
في آراء علماء الطبيعة في أصل العوالم
وفيه ثمانية فصول
الفصل الأول
في الجوهر الفرد
وبعد أن نفى مذهب دارون بسط الكلام على آراء الفلاسفة «الماديين » في أصل العوالم، قال: «إن مذهب أولئك الفلاسفة أن الجواهر الفردية؛ أي أصغر أجزاء المادة التي تنتهي إليها قسمة الأجسام أصل كل ما في السماء وعلى الأرض، وأنها أزلية أنشأت كل ما يرى بالتفاعل.» ثم ذكر مذهب ديموقريطس في الجوهر الفرد، وقال: إنه لا فرق بينه وبين مذهب هؤلاء «المتفلسفين» اليوم، واستطرد إلى ذكر تعريف سبنسر للارتقاء: إنه تغير المتماثلات وتحولها إلى مختلفات، واستغاث على غرابة هذا القول بجمهور الكيماويين؛ إذ صرخ: «فليتأمل الكيماويون ويعجبوا ما شاءوا.» ثم ذكر مذهب دلتون المعول عليه في الكمياء، وقال: «إن كلا من مذهب ماديي هذا العصر ومذهب الكيماويين في الجواهر الفردة ينفي الآخر.» وذكر أن الجوهر الفرد عندهم متحرك الباطن، وأن شكله متغير، قال: «ويستحيل الحركة الداخلية «كذا» وتغير الشكل بلا تبدل أوضاع الأجزاء، وهو القسمة بالفعل، فلزم من أقوالهم أن ما لا يتجزأ فعلا يتجزأ فعلا، وهو محال؛ لأنه اجتماع النقيضين.» وتذرع بذلك كله إلى نفي الجوهر الفرد لينفي ما يترتب عليه؛ حيث قال: «إن الجواهر الفردة لم يثبت وجودها؛ فلا يثبت لها علية ولا قدم ولا حدوث» إلى أن قال متظاهرا بالظفر: «وهنا نلتمس من سادتنا الماديين أن يأذنوا لنا بأن نقول: إن الفلسفة المادية كلها خبط، وأن مبدأهم الأول، وأس فلسفتهم، وأصل عالمهم وهم ما لهم من حجة لإثباته، وهو منفي من مبادئهم عينها، فكل ما شادوه عليه من فلسفتهم صروح أوهام على أساس موهوم.»
وربما وهم البعض من هذا القول أن مذهب الماديين في أصل العوالم والجوهر الفرد هو غير مذهب سائر علماء الطبيعة والكيمياء المعول عليهم اليوم، فنحن لا نتعرض في هذا الفصل إلا لذكر لمع من هذا المبحث، منبهين إلى الأغلاط التي ارتكبها، مقتصرين إلى الإشارة فقط إلى أوجه الاتفاق والاختلاف بين الماديين وسواهم، فنقول:
ذهب علماء الطبيعة إلى أن العوالم مؤلفة من أجزاء في غاية الصغر لا تقبل القسمة سموها جواهر فردة، وهم وإن كانوا لم يروها إلا أنهم لم يروا بدا من التسليم بها لموافقتها للعلوم الطبيعية وللكيمياء خاصة، فلا يخفى أن التركيب الكيمي هو دائما على نسب معينة، فالهيدروجين يتحد بالأكسجين على نسبة 2 إلى 1 فيركب ماء ، ولا يتركب الماء على غير هذه النسبة البتة، وإذا اختلف التركيب بين العناصر الواحدة، فنسبه إنما تكون على نسبة عددية، فالنيتروجين يتحد بالأكسجين على نسب مختلفة، فيركب مركبات مختلفة.
وهذه النسب هي دائما كنسبة 1 إلى 1 مثلا، أو 2، أو 3، أو 4، أو 5، وإذا اتحد عنصران يتحد أحدهما بالآخر على نسب معينة بعنصر آخر، فنسب اتحادهما بهذا العنصر هي نفس نسب اتحادهما بعضهما ببعض. وهذا كله لا يجب أن يكون إن لم يكن في المادة أجزاء لا تقبل القسمة، قالوا: وهذا ليس وهما، بل حقيقة، وهو «حجتنا لإثبات الجوهر الفرد.» ثم إن لم تكن الأجسام مؤلفة من أجزاء منفصلة غير متلاصقة لها خاصة التدافع والتجاذب، فلا بد أن تكون مؤلفة من مادة متصلة متلاصقة، ولا يمكن غير ذلك، فإن لم تكن أجزاؤها منفصلة، فلا يبقى وجه لتعليل الحالات الطبيعية كالمسامية والانضغاط والانقسام والتمدد، والمرونة والجمودة، والسيولة والغازية، ولا يعرف ما التركيب الكيماوي، فإن قيل: إنه تداخل شديد بين المواد المختلفة، قلنا: ما حقيقة هذا التداخل، ولم يكون دائما على نسب معينة ثابتة؟ ولماذا كانت النسب العددية والمكافآت أو المعادلات الكيماوية، فتعليل التركيب الكيماوي على هذا الفرض لا ينطبق على الحوادث التي لا بد من الاعتراف بها، وإنما ينطبق عليها على الفرد الأول، فلا بد إذن للطبيعي ولطالب علم الكيمياء من التسليم بالجوهر الفرد، ولو صعب عليه تعيينه، كما أنه لا بد لطالب علم الهندسة من التسليم بالنقطة ولو صعب عليه تعيينها.
والجوهر الفرد اليوم ليس الجوهر الفرد الذي قال به ديموقريطس لاختلاف أسباب القول به، فقول ديموقريطس به من قبيل الحدس، وأما اليوم فالقول به ليس من قبيل الحدس، بل نتيجة لازمة لحقائق علمية كما مر. وهذا سبب الاختلاف بين مذهب الكيماويين اليوم - لا الماديين وحدهم - ومذهب ديموقريطس وأبيقورس،
1
فمذهب ديموقريطس ليس «عين مذهب بخنر ومن وافقه من الماديين»، والماديون أو كما يقول صاحبنا «هؤلاء المتفلسفون» لم يجروا في مضايق فلسفة بعض الأقدمين الوهمية، وإنما جروا على مبادئ علم الكيمياء، ولعله لم يرمهم بالوهم إلا ليجوز له «دفع الأوهام بأوهام أدنى منها» - كما يقول أيضا - وإلا فأين الوهم في التعليل عن العالم بمادته وعن الطبيعة بسننها.
الفصل الثاني
في رأي طمسن في الجوهر الفرد
ذهب السير «وليم طمسن» الإنكليزي إلى أن الجواهر الفردة إنما هي زوابع حلقية في الأثير أو الهيولي، قال ورتز: «وقد شاع في هذه الأيام مذهب يبين فيه بالبرهان كيف أن الجوهر الفرد لا يقبل القسمة، بل كيف أنه ذو وجود مستقل أزلي أبدي، وهو مذهب السير وليم طمسن في الجواهر الزوبعية، قال: فالعالم على رأي طمسن مؤلف من سائل تام الاتصال، مالئ للخلاء، ومن هذه الحلقات الزوبعية المنتشرة فيه، وهي ليست سوى أجزاء هذا السائل المتحركة فيه حركة زوبعية، وكل حلقة منها محدودة ومتميزة عن نفس السائل وعن الحلقات الأخرى أيضا، لا بجوهر مادتها، بل بجرمها وحركتها. وهذه الخصائص تبقى إلى الأبد، والحلقات المذكورة هي الجواهر الفردة.»
فالجواهر الفردة كما ترى وإن تكن متماثلة في الذات، لكنها مختلفة في الصفات، وهي كذلك لا أنها لا تقبل القسمة، الأمر الذي لا يعقل، كلا وإنما لو انقسمت لزالت خصائصها الجوهرية، فهي كالهيولي تقبل القسمة فرضا لا فعلا؛ لأن الهيولي لا تقسم فعلا مع أنها ذات امتداد، وإلا لزم أن يقسم جسم متصل مالئ للخلاء لا فراغ حوله ولا مسامية فيه، وذلك مستحيل فعلا. والجواهر من حيث إنها ذات خصائص معينة لا تنقسم مع بقاء هذه الخصائص فيها، كما أن الكريات الحية لا تقبل القسمة طبيعيا لا حيويا مع بقاء خصائصها كما هي، وبهذا الاعتبار تكون الجواهر الفردة للعوالم كالكريات الحية للحي.
فهذه المعلومات ليست من أوهام الماديين، بل نتيجة اجتهاد فحول الفلاسفة الطبيعيين والكيماويين، فمن أي الكيماويين يطلب صاحبنا أن يعجبوا: من قول سبنسر، أم من أيهم يطلب أن يطالبوا بخنر بما أفسد من عباراتهم؟ أيلزم من تماثل الذات تماثل الصفات، أم هل تزول نسب التركيب المعينة، أم لا تبقى أعداد التركيب كاملة، فمذهب الجواهر المتماثلة في الذات لا ينقض المذهب الجوهري لدلتون ولا يفسده، وإنما يعتبر تأييدا له وتوسيعا، قال ورتز: «إن مذهب الجواهر الزوبعية تتضح به بعض خصائص المادة وكل الأقوال في طبيعة الجواهر الفردة، ويظهر أنه أقرب المذاهب إلى الحقيقة.» نقول: وإن كان للعلم قيمة صحيحة؛ فلا يسعنا أن نترك آراء مثل هؤلاء العلماء، التي هي نتيجة اجتهاد العلم، ونتمسك بآراء سواهم التي هي نتيجة الحرص، فاقتداؤنا بهم كاقتداء غيرنا بسواهم، ولا فرق بيننا إلا فرق المنتقل عن الواقف.
الفصل الثالث
في وحدة العناصر والقوى
ذهبوا إلى أن الجواهر الفردة متماثلة في الذات، مختلفة في الصفات، وأنها متحركة وشكلها متغير، ولا يخفى أن العناصر التي وصفها الكيماويون تبلغ نحوا من ستين عنصرا، وإذا تأيدت اكتشافات السبكترسكوب فربما بلغت 73 عنصرا، وقد اعتبروها بسيطة، ومن اتحاداتها المختلفة تتألف الأجسام المختلفة. واجتهدوا أولا في تعيين صفاتها التي تمتاز بها، ثم ما لبثوا أن تساءلوا عما إذا كانت هذه العناصر بسيطة حقيقة، أو كان لها صفات مشتركة تجمعها وتردها إلى أصل واحد، فربما كان الكيماويون الأقدمون مصيبين في بحثهم عن تحول المعادن.
فقام دوماس - وهو من أكابر علماء الكيمياء في هذا العصر - وقرر أولا أنه يمكن ترتيب هذه العناصر صفوفا تتفاعل كيماويا تفاعلا واحدا، وقد بين تبعا لرأي بروست أن أوزانها الجوهرية أعداد كاملة، كأن جواهر العناصر المزعومة بسيطة هي بالحقيقة مركبة من أعداد مختلفة من هذه الأجزاء المتماثلة، ولا تختلف فيما بينها إلا بعدد هذه الأجزاء فقط، ثم أشار مندلف ولوثار ماير إلى نسب شديدة بين الأوزان الجوهرية للعناصر وصفاتها الخاصة، وقالا بوجود خلل في جدول هذه العناصر، وقد تنبآ بأن هذا الخلل لا بد من أن يسد، ووصفا العناصر التي تنقص والتي يلزم اكتشافها.
وقد اتصل لكوك الكيماوي إلى نتائج شبيهة بتلك بعد درس الحل الطيفي لهذه الأجسام البسيطة؛ أي درس طبيعة النور المنبعث عنها وهي مشتعلة. وقد جاء اكتشاف الغاليوم له والسكنديوم لغلاف مصداقا على صحة هذا الإنباء العلمي، ثم إن لوكير لاحظ في طيف بعض البسائط كالكلسيوم والفسفور انقساما يدل على بداية انحلال، فترجح لهم أن الأجسام المزعومة بسيطة ليست أنيات مستقلة، بل إنها ربما كانت صورا مختلفة لمادة واحدة هي الهيولي الواحدة وغير المتلاشية كالأثير.
وقد تقوى هذا الترجيح بما كان قد علم من وحدة القوى؛ فلا يخفى أن القوى كانت عندهم في السابق متعددة؛ فالنور والحرارة والكهربائية والمغناطيس كانت تعتبر سوائل مادية مستقلة بعضها عن بعض تنفذ مادة الأجسام وتجتمع فيها على نسب مختلفة، والجاذبية والألفة الكيماوية والالتصاق كانت قوى تحرك دقائق هذه الأجسام، وبقي هذا القول معولا عليه في العلوم الطبيعية حتى قام رمفور وقال: ربما كانت الحرارة متحولة عن الحركة، ثم بين فرسنل أن النور حركة اهتزازية.
وكذلك بين ماير وجول وهرن وتندل أن الحرارة ليست سوى اهتزاز أجزاء المادة، وقد برهنوا أن الحرارة تتحول إلى حركة، والحركة إلى حرارة تبعا لقواعد معينة، ثم بين أمبر وحدة الكهربائية والمغناطيس، وبين سبك كذلك أنه يكفي إحماء نقطة ملتحم معدنين لتوليد مجرى كهربائي، ولا يخفى فعل الحرارة في توليد المغناطيس، والفرك في توليد الكهربائية، وتحولهما إلى نور وحرارة، ومن ثم إلى حركة. صار أمرا معروفا عاديا مستعملا في الصنائع وإنارة الطرق في المدن الشهيرة، فانتفى مذهب السوائل المادية من مدار العلم الطبيعي، وإذا ارتاب صاحبنا بصحة هذا القول فليراجع صفحة 11 و21 و65 و428، وخاصة 298 و299 من كتاب الدروس الأولية في الفلسفة الطبيعية، للفاضلة السيدة «ألن جكسن».
فلم يبق عند الطبيعيين بعد هذا سوى مادة لطيفة هي الأثير المالئ الخلاء، والنافذ في كل الأجسام، والمحرك لها، وانتفت القوة كذلك، وعوض عنها بالحركة، فليس للحركة سبب سوى الحركة نفسها، ولا واسطة لإيصالها إلى الأجسام سوى الاصطدام، ولا محول للحركة سوى الحركة المكتسبة، والحركة نفسها غير متلاشية كالمادة، ومقدارها في الكون واحد كمقدارها، إلا أنها قابلة التحول إلى ما لا نهاية له، بحيث يصعب معرفتها في استحالتها البعيدة، فأوجب ذلك نظرا جديدا في بناء الأجسام الجوهري، فالجوامد والسوائل والغازات التي كان يظن أنها مؤلفة من أجزاء صغيرة ساكنة، هي بالحقيقة متحركة حركة باطنة شديدة، وحرارتها كما نحس بها بحواسنا ليست سوى التأثير الواقع علينا من اهتزاز أجزائها.
وظهر لهم حسب الاكتشافات الحديثة أن شكل الجواهر الفردة متوقف على الاهتزازات التي تحركها، وأن الحركة هي التي كونت جواهر الأجسام الفردة ودقائقها في وسط الأثير، وأن الأثير ليس سوى الهيولي في أبسط ما يمكن تصوره، وأن الصور التي تلبسها الهيولي إنما هي ناشئة عن الحركة التي تحركها، وأن المادة والحركة غير منفصلتين؛ لأن وجود المادة يقتضي الحركة، كما أن الحركة تطلب المادة، وهكذا ردوا هاتين الأنيتين اللتين ترجع إليهما المواد والقوى إلى شيء واحد.
هذه هي خلاصة ما دلت عليه مباحث مشاهير الفلاسفة وعلماء الطبيعة والكيمياء في هذا العصر.
فيرى مما تقدم أن القول بالجواهر الفردة وتماثلها وحركتها، وتغير شكلها، وتحول القوى، هو من مقتضيات العلم لا من مختلقات الوهم؛ لانطباقه على قضايا طبيعية وكيماوية لا تعقل بدونه، على أن الكيماويين لم يتمكنوا من حل العناصر، وردها إلى الهيولي، كما تمكن الطبيعيون من رد القوى كلها إلى الحركة، وإنما حكموا بذلك من باب الترجيح لما رأوه أولا من الدلائل على أن العناصر ليست بسيطة كما تقدم، وثانيا لأن وحدة القوة تطلب وحدة المادة كذلك، وإذا صح تحول القوى بعضها إلى بعض، وصح أن أصلها الحركة - وهي واحدة - وصح أن الحركة اهتزاز أجزاء المادة، فكيف لا يصح أن تكون المادة واحدة، وأن تتحول وتظهر بمظاهر مختلفة؟
الفصل الرابع
في اختلاف الطبع باختلاف الوضع
وأما كون المتماثلات لا يحصل من تركبها سوى متماثلات، فهذا لا يصح إلا إذا تماثل الكم والكيف والذات والصفات وإلا فتعطي مختلفات، ولعل المعترض لا يعد الاختلاف اختلافا حتى يكون في الطبع، فيقول: إن اختلاف الكم والكيف لا يحصل عنه اختلاف الطبع. وهذا وهم؛ فإن أسماء العقود كالعشرة - بقطع النظر عن الشيء المدلول عليه بها - هي غير الواحد المؤلفة منه، والتي تنحل إليه، والمثلث بهذا الاعتبار نفسه هو غير النقطة المؤلف منها، والتي ينحل إليها.
ثم إن مزيج عنصرين كالنيتروجين والأكسجين مثلا هو غير مركبهما، ولا فرق بينهما إلا في نسب جواهرهما، وفي ترتيبها بعضها بالنسبة إلى بعض، لا بإدخال شيء جديد أو تغيير في طبائعها الخاصة، قال ورتز: «إن التركيب ليس ناشئا عن تداخل جواهر المادة بعضها ببعض، بل من ترتيبها بعضها حول بعض.» ولا يخفى كذلك أن العناصر الجوهرية التي تركب المواد الحية هي الأكسجين والنيتروجين والهيدروجين والكربون، ونسبها في المواد المذكورة لا تختلف إلا في الكم والوضع، ومع ذلك فما أكثرها، وما أعظم اختلافها!
ولا يرد علينا بأن الكيمياء الآلية هي غير الكيمياء غير الآلية؛ فالأحياء ليس لها كيمياء خاصة، ولا بقول المعترض: «إن هذه المركبات ليست من هذا الباب؛ لأنها مركبة من عناصر مختلفة.» لأن هذا القول غاية في الغرابة، وماذا عساه أن يقول في الخشب والصمغ والنشا مثلا، فإن تركيبها لا يختلف إلا في وضع هذه العناصر، أو ما هو قوله في الكحول وحامض الخليك كذلك، فإن تركيبهما لا يختلف إلا في الكم، فلو لم يكن اختلاف الوضع والكم يحدث اختلاف الطبع لما اقتضى أن تتغير طباع هذه المواد تغيرا جوهريا، فهما إذن كافيان وحدهما لإحداث الاختلاف، وهذا كل ما يلزم لتعليل سائر الاختلافات، ولا سيما إذا اعتبرنا في ذلك تغير شكل الجواهر الفردة.
أو ماذا يقول المعترض في المواد البوليمرفية، أي التي تختلف هيئاتها ولا تختلف ماهيتها ولا تركيبها، وفي المواد الألوتروبية؛ أي التي تختلف صفاتها ولا تختلف ذواتها، فلو لم يكن اختلاف الوضع كافيا لإحداث الاختلاف لما اقتضى أن تختلف خصائص البسائط كالكبريت والفسفور والأكسجين والكربون وتتفاعل تفاعلات مختلفة. ولا شك أن الفرق بين الماس والفحم هو أشد جدا من الفرق بين الحديد والنحاس، ومن ينكر هذا الفرق يلزمه أن ينكر الفرق أيضا بين الحرارة والنور، والكهربائية والمغناطيس، وبينها وبين الحركة، أليس لهذه صفات خاصة فارقة؟ ومع ذلك، أليست كلها مظاهر مختلفة لقوة واحدة؟
الفصل الخامس
في أن القوة والجوهر سيان
وأما كون الحركة الباطنة وتغير الشكل تقتضيان القسمة بالفعل - وهو اجتماع النقيضين - فهو صحيح إذا اعتبرت الحركة شيئا مستقلا بذاته غير الجوهر الفرد، وربما عنوا بالحركة الباطنة الذات أيضا، فكانت الحركة والجوهر الفرد شيئا واحدا، ويلزم أن يكون ذلك كذلك؛ لأن المادة في أدق أجزائها إذا فرضت ساكنة لم تعقل، وكذلك الحركة إذا فرضت بدون شيء متحرك لم تعقل، أو تلاشتا معا. وهذا لا يعقل أيضا، قال ورتز: «إن القوة لا تكون وحدها، بل يلزم أن تصدر من شيء، وأن تفعل على شيء، وأن تظهر بحركة، وكيف تكون حركة بدون شيء متحرك؟»
وإذا صح رأي طمسن في الجواهر الفردة، فربما زال هذا الإشكال، قال المقتطف في الكلام على الهيولي: «وأما خصائص الحلقات الزوبعية، فقد أثبتها هلمهلتز الجرماني بالبرهان على فرض كون الحلقات في جسم تام السيولة لا يقبل الانضغاط مطلقا متجانس الأجزاء؛ أي إن كثافته واحدة في كل جانب من جوانبه تام الاتصال، أي إنه غير مؤلف من جواهر منفصلة بعضها عن بعض لا يتغير قسم جرم منه ولا كثافته إذا تحرك «القسم»، وإنما يتغير شكله.» وقال ورتز: «وهذه الزوابع مرنة، وشكلها متغير، ولا يتوازن إلا في الدائرة، فإذا تغيرت عن هذا الشكل فلا تزال تتحرك حتى تعود عليه، وإذا أريد قطعها بمدية فإنها تهرب من أمام المدية أو تلتف عليها، فهي تمثل شيئا ماديا لا ينقسم، وإذا تحركت حلقتان في جهة واحدة بحيث يكون مركز كل منهما على خط واحد، وسطحه كذلك على موازاة هذا الخط؛ فالحلقة المتأخرة تنقبض على نفسها وسرعتها تزيد، والسابقة تتسع وسرعتها تقل حتى تسبقها المتأخرة، ثم يحصل ما حصل أولا، ولكن ذاتيتهما لا تفقد بتغير شكلهما وسرعتهما.»
الفصل السادس
في كشف الخلط وإظهار الغلط
وأما قول صاحبنا: «إنه يلزم من فرض الجوهر الفرد على كل مذاهبه عدة غرائب، منها أنه لو وضع جوهر من النيتروجين مثلا على جوهر من الحديد وضغط بأثقال العالمين ما نفذ أحدهما الآخر وما تجزأ.» فليس فيه من الغرائب سوى هذا القول نفسه، ولعله يذهب إلى أنهما يتنافذان. وإنا لنعجب منه كيف أن معدته لم تقو على هضم ما عده من هذا القبيل سفسطة، مع أن عقله قوي على هضم ما لا يهضم، وشرب ما لا يشرب، مما لو اجتمعت أثقال العالمين وضغطته ليدخل إلى الذهن لم يدخل.
وهل يرتاع من خوض السواقي
فتى قد خاض في البحر الكبير
وقوله: «ومنها أن كل دقيقة من دقائق المركبات لا تقسم إلا بالحل للكيمي، وإلا أوجب الضغط على دقيقة الماء قسمة جوهر الأكسجين الفرد إلخ.» فنسأله: وهل تقسم بدون ذلك؟ وإذا قسمت فهل تبقى ماء؟ ثم هو يعلم - فيما نظن - أن الفعل الطبيعي قد يصاحبه فعل كيمي لما في طبع القوى من إمكان التحول بعضها إلى بعض، حتى إن القوى الميكانيكية البحتة تجعل تحليلا في المواد المركبة تركيبا ضعيفا، وكذلك قوله: «ومنها أن الأتروبين وإن كان يذوب في الكحول فالدقيقة منه لا تذوب فيه.» فلا ندري ما مراده به؛ لأن التذويب إنما هو عبارة عن اجتماع دقائق سائل بدقائق جسم آخر، فإما أن يقع بين الدقائق فيكون مثل هذا القول لغوا، وإما أن يقع عليها فيكون التذويب فعلا كيميا، وحينئذ يحصل عنه تحليل وتركيب لا يوجب قسمة في الجواهر، بل تحليلا، فايم الحق إنا لم نكن نتوقع منه مثل هذا الخبط لما يعهد من علمه وذكائه.
ثم ما الغرض يا ترى من نفي الجوهر الفرد، فإن كان الغرض من ذلك نفي المادة أصلا، فكيف نصنع حينئذ بوجود العوالم؟ وهل ما نراه وهم من الحواس؟ وإن كان القصد نفي وحدتها وإثبات تعددها، فذلك لا ينفي وحدة ولا يثبت تعددا، وإذا كان لا بد من وجود المادة متعددة كانت أم واحدة، فما المراد من نفي الحركة عنها؛ أيثبت لها السكون؟ وما الدليل عليه - والسكون المطلق لا علم لنا بوجوده؟ وإذا كنا لا نعلم بوجود السكون، فكيف استطعنا أن نحكم به أو نتصوره؟ وإن كان الغرض من ذلك نفي النشوء وإثبات الخلق، فهذا لا ينفي نشوءا ولا يثبت خلقا، فنيوتن أثبت مذهب ديموقريطس ولم ينف خلق الجوهر الفرد، فنفي الجوهر الفرد لا ينفى به شيء يراد نفيه، ولا يثبت به شيء يراد إثباته من هذا القبيل، وما هو إلا وهم، أو هو ضرب من التمويه للإيهام.
الفصل السابع
مناظرة أصحاب الخلق وأصحاب القدم
وخالف الماديون سواهم في أصل المادة فقالوا: إنها أزلية؛ لأنهم رأوا أن المادة كالقوة لا يستطاع خلقها ولا ملاشاتها، فهي واحدة لا تنقص ولا تزيد ولا تتغير إلا في الصورة، قالوا: ونحن لا نعلم غير ذلك، فرد عليهم أن عدم العلم بالشيء لا يجعله غير ممكن، فالحدوث ممكن، قال الماديون: ولكن ذلك ليس من باب العلم، بل من باب الإيمان، وهذا لا ننازعكم لأجله، ولا يحق لكم أن تنازعونا كذلك، فرد عليهم: بل من باب العلم العقلي؛ أي الفلسفة، والفلسفة العقلية لا ترى بدا من الإقرار به.
قال الماديون: إن العقل لا يعلم شيئا غير ما أتى به الاختبار، ولا يحكم بشيء إلا بالقياس على هذا العلم، فإذا كنا لا نعلم خلق المادة ولا ملاشاتها، فكيف يمكن لنا أن نحكم بهما؟ وما الفلسفة إلا القياس العلمي بأوسع ما يقدر العقل أن يتصرف فيه - وقد تقدم أن العلم لا يدرك ذلك - فالفلسفة لا تقدر أن تدرك إلا ما يأذن العلم به، فرد عليهم: وكيف جاز لكم إذن الحكم بالجوهر الفرد وعلمكم لا يدركه؟ قالوا: إنا وإن كنا لا ندركه فإنما حمكنا به لانطباقه على الحوادث التي لا بد من الاعتراف بها، فحكمنا به من باب القياس العلمي.
فرد عليهم: «على أنا لو سلمنا بأن الأجسام مؤلفة من أجزاء لا تتجزأ، فلا نسلم بأزليتها بلا برهان ولا دليل على ذلك سوى الوهم، كما هو دأبكم في كل أصول مذهبكم المادي.» قالوا: أما دليلنا فعلمي؛ لأن المادة - كما تقدم - لا يستطاع خلقها ولا ملاشاتها، وعقلي؛ لأن العقل لا يسلم بوجود شيء من لا شيء ، ولا باستحالة شيء إلى لا شيء. فيا للعجب! كيف ترموننا بعد ذلك بالوهم؟! فما دليلكم يا ترى غير الإيمان؟! وأي أقرب إلى الوهم؟! فرد بأن الشيء لا يقدر أن يوجد نفسه، ولا بد له من موجد سواه؛ ولهذا يحكم بخلق المادة؛ لأنها موجودة ولا تقدر أن توجد نفسها.
قالوا: فمن أين علمتم أن الشيء لا يوجد نفسه؟ أولا ترون أنه يصح لنا أن ندفع قولكم بنفس اعتراضكم؟! ثم نحن لا نجعل للعالم بداية مطلقة، ولا نعلم له نهاية كذلك حتى يقال: إنه أوجد نفسه، فنحن نسلم به كما هو، كما أنكم تسلمون بالمبدع كما هو.
قال أصحاب الخلق: إن ما نراه في الوجود من النظام يدل على القصد، ولا بد من عقل مدرك يقصد هذا القصد، ومادتكم غير عاقلة، فهي لا تدرك حتى تقصد، فرد أصحاب القدم: إن ما تسمونه قصدا نسميه ضرورة، فالعوالم لما كان بعضها مرتبطا ببعض بنواميس معينة كان من الضرورة أنه إذا حصل تغير في شيء يحصل تغير مطابق له في سائر الأشياء، ولذلك لم يكن العالم، ولا هو كائن، ولن يكون بعضه بالنسبة إلى بعض إلا منتظما، واللانظام عندنا أمر نسبي.
ثم لو كانت علامات القصد موجودة لاقتضى أن تكون هذه العلامات تامة، والحال أننا نرى أشياء كثيرة لا ينطبق القصد عليها، ولا تنطبق إلا على الضرورة، قالوا: إنكم تجعلون الهيولي واحدة؛ أي متماثلة، وكيف يمكن للشيء المتماثل أن يترتب مع نفسه ويظهر بصور مختلفة؟ فردوا عليهم: إنكم نخالكم تسلمون بتحول القوة من حال إلى حال، وهي واحدة، أي متماثلة في أصلها، فكيف لا يكون للمادة ما للقوة المتصلة بها؟ ثم إن تماثل الذات لا يلزم منه تماثل الصفات، وإلا لكان العالم جمادا واحدا، أو نباتا واحدا، أو حيوانا واحدا، والواقع بخلاف ذلك، قالوا: وإن كنا نسلم بأن القوة واحدة، ولكنا لا نسلم بأنها تقدر على هذا التحول إلا بالعناصر وهي مختلفة، بخلاف هيوليكم فإنها متماثلة.
فرد الماديون: إنا لا نفهم معناكم، ولا نفهم كيف تفهمون أنفسكم؛ فإنكم قد ناقضتم وضع مذهبكم، ألا تعلمون أن وحدة القوة يلزم منها وحدة المادة، وإلا كانت القوة متعددة أيضا؟ فالقوة - أو كما تسمونها أيضا الحركة - ليست سوى اهتزاز أجزاء المادة، وكيف تكون متماثلة إن لم تكن هذه الأجزاء المادية المهتزة متماثلة كذلك؟ وكيف توفقون بين القولين؟
ثم إن المادة كيفما اعتبرت إما قديمة وإما حادثة، وهي ليست قديمة على قولكم، فلا بد لها من محدث، فإما أن تكون حادثة من شيء موجود أو من لا شيء موجود، ولا يصح أن تكون حادثة من شيء موجود؛ لأن هذا الشيء الموجود إما أن يكون نفس المحدث، أو شيئا آخر موجودا أيضا فينتفي الحدوث، ولا بد أن تكون فعلا من أفعال المحدث، وإلا لم يكن هو المحدث، فإما أن تكون نفس الفعل أو نتيجته، والفعل ونتيجته موجودان في الفاعل، والفاعل قديم فينتفي الحدوث كذلك، وإن لم يكن الفعل ونتيجته موجودين في نفس الفاعل، فيقتضي أن يكونا ليس منه وهما منه وهو خلف، وأن يكونا لا شيء وهما شيء، وهو خلف أيضا.
ثم يقتضي أن يكون الفعل واقعا على شيء هو لا شيء، ومنفصلا عن نفس الفعل، والفعل منفصلا عن نفس الفاعل، وإلا كان الشيء والفعل والفاعل واحدا، وكيف يكون الشيء منفصلا مع هذا الارتباط؟ وإن لم يكن منفصلا فكيف يكون الشيء الحادث غير المحدث؟ فالعقل لا يقدر أن يسلم بهذه المتضادات، وإن قلتم: إن وجودا من نفسه لا يعقل، قلنا لكم: إن وجود شيء موجود من لا شيء موجود لا يعقل كذلك، فضلا عن أن هذا القول - إن صح - يطلق عليكم كما يطلق علينا، فنحن يتعذر علينا معرفة أصل المادة كما يتعذر علينا معرفة ملاشاتها.
قيل: إن ديوجانس رأى غلاما معه سراج، فقال له: أتعلم من أين تجيء هذه النار؟ قال له الغلام: إن أخبرتني إلى أين تذهب أخبرتك من أين تجيء. وإن قلتم: إن قدم المادة يلزم منه قدم معلولاتها، وقدم المركبات من جماد ونبات وحيوان، قلنا لكم: إن قولكم لو صح لوجب أن يطلق على الخلق كما يطلق على النشوء، فالخالقية كالناشئية بالاضطرار، وإلا فتكون القوة الخالقة قد وجدت ساكنة قبل الخلق، والسكون كالعدم لا يعقل، وهو لا يليق بالمادة المنفعلة، فكيف يليق بالقوة الفاعلة؟
على أن الاضطرار للخالقية أو سواها لا يلزم منه استكمال الوجود دفعة واحدة؛ لارتباط العلل والمعلولات بعضها ببعض، وتحولها بعضها إلى بعض، فالحياة يستحيل أن تظهر قبل أن يكون ماء، والماء قبل تكون هيدروجين وأكسجين، وهما قبل اجتماع أجزاء المادة على كون يتألف منه ذلك، فوجود الحياة متوقف على وجود الماء ولو لحظة قبلها؛ ففي قياس أي عقل يصح وجودهما ووجود سائر المركبات معا، وهل تكون السفسطة إلا كذلك؟ وإن قلتم: ولا يرد علينا بقدم المبدع وأنه علة العلل؛ لأنه عندنا فاعل مختار يفعل ما شاء متى شاء، قلنا لكم: فبقى أن القضية ليست من باب العلم، بل من باب الإيمان، ولو وقفتم عند هذا الحد لاسترحتم أنتم وأرحتمونا من كل هذا النزاع، وكيف يعقل وجود ليس بجسم، ولا مادة جسم، ولا صورة جسم، ولا مادة معقولة في صورة معقولة، ولا له قسمة في الكم ولا في الكيف ولا في المبادئ، فعله منه وليس منه، متصل به ومنفصل عنه، فلا شك أن ذلك يقتضي إيمانا شديدا، وحيث يبتدئ الإيمان ينتهي العلم، والإنسان حر في إيمانه، إلا أن الإيمان ليس له حق بأن يعترض العلم في سيره، والعلم لا يستطيع شيئا ضده.
وعليه فالفرق بين أصحاب الخلق والقدم في المادة أنها مخلوقة من لا شيء عند الأولين، وقديمة عند الآخرين، ولا فرق بعد ذلك، فالمادة عند الفريقين لا تتلاشى، بل تنتقل من حال إلى حال بالتفاعل والتركيب والتحليل، والقوة عندهما كالمادة لا تتلاشى، وإنما تتحول في الأجسام تحول المادة فيها؛ فالقوة المبلورة للأملاح هي نفس القوة الموجودة في البسائط المركبة منها هذه الأملاح محولة، كما أن مادة الأملاح هي نفس مادة البسائط المركبة لها محولة، ولا فرق إلا في الأحياء؛ إذ يجعل الحيويون القوة الحيوية غير القوة الطبيعية محولة، مع أنهم يسلمون بأن مادة الأحياء هي نفس المادة الطبيعية محولة. وهنا نظر؛ فإنهم يجعلون القوة الطبيعية واحدة في أصلها، وهي الحركة ، وربما جعلوا المادة متعددة العناصر، ثم يجعلون المادة واحدة في بناء العوالم من جماد ونبات وحيوان، والقوة متعددة.
الفصل الثامن
فصل الخطاب بين أصحاب الخلق وأصحاب القدم
قال الروحانيون: وعليه فمذهب الماديين شر لا يماثله شر؛ لأنه يلزم عنه أن لا خير ولا شر ولا حلال ولا حرام ولا ولا، وبالجملة يمتنع معه العمران، فرد عليهم الماديون: لقد أخطأتم فيما زعمتم كأنكم تجهلون طبيعة العمران، فالعمران ضروري للبشر، وإلا لم تتم لهم الحياة، وهو من حيث إنه اجتماع طبيعي في الحيوان، وإنما بلغ الغاية القصوى في الإنسان؛ لأنه أعد له طبعا، وأقومه تكوينا، وأبعده فكرا، وأقواه رؤية، والعمران لا يكمل إلا بالتعاون على المعاش، والاعتمال في تحصيله من وجوهه واكتساب أسبابه.
وهذا التعاون لا يكمل البتة بما وصفتم، ولا يكمل إلا بالاصطلاح على عادات معلومة تحسن معها المعاملات. وهذا الاصطلاح لا يكمل إلا إذا عرف الإنسان ما له من الحقوق وما عليه من الواجبات. وهذه المعرفة لا تكتمل إلا بالعلم، والعلم هو العلم الصحيح، وذلك كله لا يكمل إلا بالحكم الوازع، والحكم الوازع إنما هو الشرع المفروض من البشر، والمتغير بحسب روح كل عصر، واحتياجات كل جيل، وإلا لما اقتضى أن يتغير الإنسان عما يفرضه له شرع معلوم، وعوائد معلومة؛ لأنها لا تخلو منه في أي الأحوال كان، ولا أن تحصل العمارة للبشر قبل الأنبياء، ولا لأمم غير تابعة لهم، ولما كان به - كذلك - حاجة لإقامة الوازع منه بعدهم.
قال ابن خلدون: «وتزيد الفلاسفة على هذا البرهان حيث يحاولون إثبات النبوة بالدليل العقلي، وأنها خاصة طبيعية للإنسان، فيقررون هذا البرهان إلى غايته، وأنه لا بد للبشر من الحكم الوازع، ثم يقولون: وذلك الحكم يكون بشرع مفروض من عند الله يأتي به واحد من البشر، وأنه لا بد أن يكون متميزا عنهم بما يودع الله فيه من خواص هدايته؛ ليقع التسليم له والقبول منه، حتى يتم الحكم فيهم وعليهم من غير إنكار ولا تزيف.
وهذه القضية للحكماء غير برهانية كما تراه ؛ إذ الوجود وحياة البشر قد تتم من دون ذلك بما يفرضه الحاكم لنفسه، أو بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم وحملهم على جادته، فأهل الكتاب المتبعون للأنبياء قليلون بالنسبة إلى المجوس الذين ليس لهم كتاب؛ فإنهم أكثر أهل العالم، ومع ذلك فقد كانت لهم الدول والآثار، فضلا عن الحياة، وكذلك هي لهم لهذا العهد في الأقاليم المنحرفة في الشمال والجنوب، بخلاف حياة البشر فوضى دون وازع لهم البتة فإنه يمتنع. وبهذا يتبين لك غلطهم في وجوب النبوات، وأنه ليس بعقلي، وإنما مدركه الشرع كما هو مذهب السلف من الأمة.» ا.ه.
ولا يخفى أن الإنسان في العمران اثنان: عاقل وجاهل، فالعاقل له بما يطلبه من المجد الصحيح، وبما اكتسبه كذلك من العلم الصحيح بأحوال العمران وازع من نفسه، وذلك لما في طبعه، بل وطبع كل حيوان من حب الذات، فهو يترفع عن ارتكاب شر بحق غيره؛ لئلا يعود هذا الشر بالوبال عليه، والجاهل كالعاقل يحب ذاته، وإنما لجهله قد يخطئ الوسائط، فلم يكن له رادع إلا من سيف حاكمه، وكلاهما إن لم يردعهما ذلك كله لا يردعهما سواه، وليجرب نزع الحكم الوازع من بين البشر مهما عظم إيمانهم، فإنهم يقعون في الفوضى، والإفاضة في هذا المبحث لا يحتملها المقام؛ لأنها تتناول البحث في الأخلاق والطبائع، وما للإقليم والتعليم والشرائع وسواها من الأثر فيها، وما تؤثره هي نفسها في ذلك كله كذلك، وما لاختلاف الناس من حيث اعتبارهم السعادة من الأثر في العمران بين أن تكون سعادة الفرد قائمة بسعادة الكل، أم بالضد، إلى غير ذلك من المسائل التي يطول شرحها.
قالوا: وأما غير ذلك من السعادة فمن مطامع المحال، ولا نرى في تعليم المحال جدوى، ولا نرى فيه إلا خلاف ذلك، قلنا: هذا هو فقط وجه الخلاف بينهم.
وأما ما جاء في رد المعترض من الأدلة على نفي التولد الذاتي، ونفي كون الحياة قوة طبيعية إلى آخر ما ذكر؛ فقد آوى منه إلى ركن ضعيف القواعد، متداعي الدعائم، ويدل على أنه لم يقرأ علم الحياة إلا في غير كتبه، ولم يسر فيه إلا في غير منهاجه، كما سنبين ذلك في فصل الحياة فيما يأتي، وهو أعم من أن يختص به وحده.
الباب الرابع
في الحياة وأصلها
وفيه أربعة فصول
الفصل الأول
في الحياة
ليس في طاقة الطبيعي أن يعلم الحقائق والماهيات، وكل علمه قاصر على معرفة الكميات والكيفيات، فهو لا يستطيع الكلام على الذوات مجردة عن صفاتها المقومة لها، فلا يعرف الحياة إلا من أفعالها، كما أنه لا يعرف الجاذبية أو الألفة أو سواها من القوى الطبيعية إلا من أفعالها، فنظره إلى الحياة مجردة ضرب من العبث كنظره إلى سائر القوى الطبيعية مجردة، فالحياة في ذاتها ليست أشد خفاء من الجاذبية أو سواها من القوى في ذاتها، وغاية ما يستطيعه في درس الطبيعة معرفة الأشياء بعضها بالنسبة إلى بعض، أي معرفة ما بينها من الارتباط. والعلم الصحيح يجب أن يوجه سعيه إلى هذه الغاية؛ فهي وحدها تتكفل له بالوقوف على ما في طاقته أن يقف عليه مما يكون به للإنسان فائدة عملية صحيحة.
وهذا ما يمتاز به العلم اليوم عما كان عليه في السابق، وهي الصفة التي تمتاز بها شعوب المغرب عن شعوب المشرق؛ فإن هؤلاء - كما يقول الشهرستاني - أكثر ميلهم إلى تقرير خواص الأشياء، والحكم بأحكام الماهيات والحقائق، وأولئك أكثر ميلهم إلى تقرير طبائع الأشياء، والحكم بأحكام الكيفيات والكميات. ولما كان النظر إلى الحقائق يقتضي النظر إلى الشيء مجردا عما يقوم به نشأ ما يسمونه التجريد، فاشتغل الناس بالبحث عن هذه الحقائق المجردة، فتاهوا فيها بحكم الضرورة، وضلوا في معرفتها حتى انتهوا فيها أحيانا إلى نوع من الإثبات في نوع من النفي؛ أي إنهم أثبتوا للشيء وجودا بنفي كل وجود عنه. وأي شيء أغرب من ذلك؟ بخلاف النظر إلى الكيفيات والكميات، فإنه يتقرر به أشياء كائنة حقيقة لا يستطاع إنكارها، وربما أطلقوا لفظة الحقائق على مثل هذا العلم، بل قصروها عليه لتعذر علم سواه.
ولا يخفى ما حصل للعلم من النهضة من أوائل هذا القرن في أيدي شعوب المغرب، وما حصل عنه من الفوائد كذلك، وإذا تحرينا حقيقة هذه النهضة نجد أنها كائنة في معرفة ما بين الأشياء من الارتباط، وإذا استقرينا سير الشعوب والأمم في الأفكار والعلوم منذ التاريخ، نجد أن تقرير هذا الارتباط لم يكن بدون مشقة كما يتوهم من ينظر إلى العلم اليوم، بل إنما صرف فيه الجهد الجهيد والزمن المديد، ففي عصور الميتولوجية كان عندهم لكل شيء قوة خاصة به تدبره؛ فإله الحرب - مثلا - كان غير إله البحر، كأن الإله الواحد لا يقدر على تدبير آخر غير ما اختص به، وإله الكرم غير إله القمح، كأن الواحد لا ينمو بما ينمو به الآخر.
وهكذا لم يكن يظن وجود ارتباط بين شيء وشيء من مواد الطبيعة وقواها، فنشأ مذهب تعدد المواد والقوى العام، ثم فصلوا القوى إلى علوية آمرة، وسفلية مأمورة، وفصلوا السفلية عن موادها، فكان مذهب التثنية، ولم يضموا القوى العلوية فلسفيا إلى واحدة إلا بعد ذلك كثيرا، فكان مذهب التوحيد العلوي، والتثنية في الخلق، والتثليث في الوجود، وبقي مذهب التعدد في الخليقة، ولا يمكن تتبع سير مرتب في ذلك، وما يمكن تحققه إنما هو نشوء لا ارتباط معه في الأفكار إلا فيما ندر وبجهد فلسفي.
أما العلم فلما كان مقيدا أكثر من الفلسفة، فلم يتهيأ له ضم القوى والمواد وربطها بعضها ببعض بالسرعة التي أمكنت لبعض الفلاسفة، فكانوا في أوائل هذا القرن يعتبرون القوى الطبيعية كالكهربائية والنور والحرارة سوائل مادية مستقلة بعضها عن بعض، ومستقلة عن المواد نفسها، وكذلك القوى الكيماوية والحيوية، ويعتبرون المواد أنيات منفصلة بعضها عن بعض انفصالا مطلقا، وعالم النبات منفصلا عن عالم الحيوان، وكل نوع منفصلا عن سواه، والأحياء كلها منفصلة عن عالم الجماد انفصالا تاما واضحا مطلقا، ولم يتيسر رد القوى الطبيعية كلها إلى واحدة، وترجيح كون المواد من أصل واحد ترجيحا علميا إلا من عهد قريب، ولم يجر ربط المواليد الثلاثة بعضها ببعض كذلك إلا في هذا العصر .
قال الطبيب من مقالة في الكلام على عالم الجماد ما نصه: «فإن التمييز بين النبات والحيوان يظهر في بادئ الرأي بدهيا سهلا، إلا أن ذلك إنما يكون في المراتب العليا منهما، على أنه بالنظر إلى الحقائق العلمية من أصعب ما وقف العلماء عليه جهدهم، ولا سيما من حيث اشتراك الحدود وتداخل الصفات المميزة في مراتبها السافلة، وكذلك التمييز بين عالم الجماد وعالمي النبات والحيوان، فإنه قد يكون من أكثر المسائل أشكالا في نظر المدققين.» وقد اتضح هذا الارتباط أكثر بمذهب دارون، وعظمت قيمته الفلسفية، كذلك والحاصل أن من تتبع سير العلم من أوائل هذا القرن يرى أنه مقسور على تقرير هذا الارتباط، والسير في سبيل إثبات الوحدة للكائنات.
على أن بعضهم مع اعترافه بارتباط العوالم الثلاثة، وارتباط القوى الطبيعية بعضها ببعض، ربما لم يسلم - ولا نعلم كيف - بارتباط هذه القوى بالحياة، ولم يسلم كذلك بارتباط قوى الحياة نفسها، فجعل الحياة أكثر من واحدة من حيث الأصل، ولو فصل بينها جميعا فصله بين المواد الحية والجماد لما جاز الاعتراض، ولكان هذا الفصل من الأمور اللازمة في العلم لسهولة البحث في المواضيع الكثيرة التي يتناولها: كفصل النور عن الحرارة، وفصلهما عن سائر القوى الطبيعية، مع اعتبار الرابط بينها، ولكنه لا يقول هذا القول، بل يفصل الحياة فصلا مطلقا، ويعتبرها جوهرا مجردا يتصل بالمادة اتصالا عارضا، وينفصل عنها انفصالا لازما عن مركباتها، بل عن المادة نفسها.
ومع أنه في فعله ذلك يرتكب خطأين عظيمين ضد العلم وضد الفلسفة، فهو لا يبالي ولو استمسك بالمحال. فأما خطؤه ضد الفلاسفة، فلأن توحيد القوى تارة، وتعديدها أخرى، وتجريدها عن المادة تارة، ووصلها بها أخرى، وتعديد المادة وتوحيدها أمور لا تتفق بعضها مع بعض، ولا تنطبق على العقل ولا على التصور الفلسفي لوحدة العالم.
وأما ضد العلم، فلأنه قد تبين اتصال مواليد الطبيعة بعضها ببعض، وأن القوى الطبيعية ليست سوى استحالات عن الحركة، وأن الحركة ليست سوى اهتزاز أجزاء المادة. وهذا يلزم منه أن تكون المادة وقواها أو الحركة شيئا واحدا، وقد تبين كذلك أن القوى المذكورة تفعل في الأحياء فعلها في الجماد، وأن المواد الداخلة في بناء الأحياء هي نفس المواد الموجودة في الجماد، وأن التفاعلات التي فيها من طبع التفاعلات التي تتم فيه.
والظاهر أن اعتبار الحياة جوهرا مجردا بقية موروثة من الاعتقاد القديم للقوى والمواد - على ما مر - وإلا فليس في العلم ما يسوغ ذلك، بل ذلك ينافي ما قد تقرر به من الارتباط على خط مستقيم، قالوا أولا: إن الحياة قوة مجردة تعرض على المادة فتبطل فعل القوى الطبيعية منها، وليس في أفعالها شيء من الارتباط السببي، ولما بين كلود برنار أن الحياة لا تبطل فعل القوى المذكورة ولا تضادها، وأن كل عمل في الأحياء له سبب معلوم لازم له كما في الجماد، قالوا: ولكن بناء الأحياء ليس فيه شيء من البساطة الهندسية للمعادن.
ولما بين شوان أن الأحياء من نبات وحيوان عبارة عن مجتمع خليات مؤلفة هي نفسها من غشاء مصمت كالبيضة يتضمن حويصلة ذات منظر مختلف في النواة، متضمنة هي نفسها كتلة صغيرة كروية هي النوية، وأن هذه الخليات ذات أشكال وحجوم لا ضابط لها فتتضام وتجتمع على ضروب شتى، كما تجتمع دقائق الجماد بدون أن تفقد استقلالها، وتؤلف وحدها كل الأحياء، قالوا: ولكن التفاعلات الحيوية غير التفاعلات الكيماوية.
ولما بين باستور أن الاختمار إنما هو تفاعل كيماوي بين المادة المختمرة والخمير، وأن الخمير ليس سوى أحياء صغيرة جدا شبيهة بالخليات المذكورة، فحياة نبات أو حيوان مرتق لا تفرق كيماويا عن ظواهر الاختمار إلا بكثرة اختلاف هذه الظواهر الناشئة عن اختلاف خصائص الكريات المختلفة الداخلة في بنائها، قالوا: ولكن القوى الطبيعية لا تستطيع أن تركب الهيدروجين مع الكربون كما تفعل قوى الحياة.
ولما بين برثلو إمكان تركيب الأستيلين رأسا من الجماد، وتركيب سائر المركبات الكربورية بواسطته؛ كأنواع السكر والكحول والأرواح والزيوت والحوامض الآلية، وبين كذلك إمكان تركيب كل المواد المتكونة في الأحياء من عناصرها رأسا؛ أي من الكربون والأكسجين والهيدروجين والأزوت ، بواسطة الكيمياء الآلية المؤسسة على النموذجات، قالوا: ولكن قد بين باستور - في مقالة نشرتها جريدة العلم الفرنسوية بتاريخ 5 ك2 من سنة 1844، ولخصها المقتطف - فرقا مهما بين المواد الآلية الطبيعية والمصطنعة.
فالأولى لها في حالتها الأمورفية العديمة الشكل قوة على تحويل سطح النور المستقطب، والثانية ليس لها ذلك، أو هي تفعل عكس فعلها خلافا للبلورات، فذلك متوقف فيها على شكلها البلوري، وعلى انتظام تغير نظامها المسمى بالهيدريا، أي تغير زواياها المتماثلة، وذلك ما تمتاز به قوى الحياة أو كما يقال أيضا: القوى غير المنتظمة عن القوى الكيماوية المنتظمة. قالوا: وهنا «العقدة». أما كون الحياة تفعل أفعالا تختلف عن أفعال القوى الطبيعية التي يستخدمها الكيماوي، فمما لا ريب فيه، كما أنه لا ريب في أن أفعال الكهربائية مختلفة عن أفعال النور والحرارة مثلا، وإلا لزم أن يكون العالم واحدا؛ جمادا واحدا، أو نباتا واحدا، أو حيوانا واحدا، وما نراه هو بخلاف ذلك.
وأما كون هذا الامتياز يلزم منه فصل الحياة عن قوى الطبيعة في المصدر، فمن أغرب ما يذهب إليه، وإلا وجب أيضا فصل القوى الطبيعية بعضها عن بعض كذلك، ولا سيما أن الفرق العظيم - الذي اتخذه الحيويون حجة قوية لإثبات مذهبهم في الحياة - قد زال معظمه.
وفي النظر إلى هذه المسألة يجب اعتبار النسبة بين ما كان يزعم سابقا وما يعلم اليوم، فأي فرق بين الأمرين؟ أو لعل هذا الفرق النسبي اليوم والجزئي بالنسبة لما كان يزعم قبلا كاف لتأييد هذا الفصل، بل لجعل الحياة جوهرا مجردا عن المادة، وما الدليل على ذلك سوى عدم تمكن الكيماويين من خلق الحياة رأسا من الجماد، وعدم تمكنهم من مجاراتها مجاراة تامة، وهل ذلك دليل يثبت به الضد؟! فإن كانت قوة تحويل سطح النور المستقطب - كما يظن - ناشئة عن عدم انتظام في تركيب جواهر الأجسام الفردة أو دقائقها ، فربما كان ذلك خاصا بالحياة وغير ممكن الحصول عليه بدونها، إلا أن امتناع ذلك على الكيماويين لا يوجب جعل الحياة من مصدر غير مصدر سائر القوى، كما أن ظواهر الحياة في الحيوان العالي، وإن كانت تختلف عنها كثيرا في النبات، لا توجب جعل الحياة فيهما من مصدرين مختلفين، أي إنه لا يعزز مذهب الحيويين، ولا ينقض ركنا من أركان الماديين؛ لأنه إن صح - كما قال باستور - أن سبب ذلك كيفية وقوع النور على النبات، المصدر الأول لكل المركبات الآلية، فيكون أصل هذه القوة طبيعيا.
على أن باستور قد تمكن من مجاراة الطبيعة على نوع ما، وأدخل عدم الانتظام في المركبات الكيماوية؛ إذ جمع بين السنكونين «مادة غير منتظمة» والحامض البراطرطريك، أي العنبيك، فرسب طرطرات السنكونين اليساري، وبقي الطرطرات اليميني ذائبا في السائل؛ أي إنه حل الحامض العنبيك الذي لا يحول النور إلى حامضين يحولانه: أحدهما إلى اليمين، والآخر إلى اليسار، نعم قال مع ذلك أنه لم يتمكن من إزالة الحاجز بين هذه المركبات، لكنه لم يعن به سوى أن الكيمياء لم تستطع حتى الآن أن تستخدم في صناعتها سوى القوى المنتظمة.
وهذا لا يستفاد منه أنه يوجد حاجز مطلق بين هذين النوعين من القوى، وقد صرح هو نفسه بذلك؛ إذ أشار بإزالة هذا الحاجز، قال: «فإذا أردنا أن نماثل الطبيعة وجب أن نتخطى الطرق التي جرينا عليها حتى الآن، ونستخدم الكهربائية اللولبية والمغناطيسية والنور ونحو ذلك من القوى غير المنتظمة.» وقد قال أيضا في غير هذا المكان: «إن مركبات الحياة إذا كانت غير منتظمة فلأنه تفعل فيها قوى عالمية غير منتظمة. وهذا - فيما أرى - الرابط الذي يربط الحياة على سطح الأرض بالعالم؛ أي مجموع القوى المنتشرة فيه.» فيرى مما تقدم أن لا شيء من كلام باستور يحمل على الظن بأنه يعتقد علميا بأن قوى الحياة من مصدر غير مصدر قوى الطبيعة، ولا بأنها جوهر مجرد، بل هو أول من بين ظواهر الاختمار وقال: إنها لا تفرق بشيء عن التفاعلات الكيماوية .
ذكر «كرل فوجت» في خطاب ألقاه، في مجمع جنيفا العلمي، من نحو خمس عشرة سنة، ما نؤثره عنه قال: «خذ عضلة من ضفدع حي واجعلها في أحوال مناسبة تمنع جفافها وفسادها، وقدم لها من وقت إلى وقت الدم اللازم ليقوم مقام المواد المحترقة منها بأكسجين الهواء، كما تقدم الفحم وقودا للآلة البخارية، فترى العضلة تتحرك كلما هيجتها بالكهربائية كما يتحرك لولب الساعة إذا كانت دائرة، قال: ولنفصل كذلك رأس حيوان عن جسده حتى يموت، ثم لنحقن فيه بعد هذا الموت دما صالحا من حيوان آخر من نوعه؛ نر الرأس يفتح عينيه، وكل حركاته تدل على أن الحياة قد عادت إليه، وعاد دماغه يشتغل كما كان يشتغل قبل القطع.»
وذكر المقتطف - نقلا عن الجريدة العلمية الفرنسوية في العدد الثالث من سنته التاسعة - ما وقع للدكتور «بتيكان» مع ذلك الرأس المقطوع الذي وقع على مقطع العنق واستقر على الرمل؛ حيث وقع فخف نزف دمه، فأخذ يتفرس في الدكتور المذكور، ويجيل عينيه محدقا فيه حتى دار الدكتور حوله ربع دورة وعيناه تتبعانه وترسلان إليه نظرا يدل على شدة الألم، وإدراك الحالة التي هو فيها، وكل ذلك يدل على أن الحياة ليست جوهرا مجردا عن المادة، وأن تفاعلاتها أشبه شيء بالتفاعلات الكيماوية من حيث التعيين والضبط.
ونحن نعلم أن كل عمل حيوي إنما هو نتيجة لازمة لتهيج في الجهاز العصبي، وأن المنصرف في هذا العمل ليس قوة حيوية، بل كمية معينة ومقيسة من الحرارة ناتجة عن احتراق كمية معينة، كذلك من مواد محترقة يتناولها الحي على صورة طعام أو غذاء، والطبيعيون يردون الحرارة إلى الحركة، فلماذا لا تكون الحياة التي تتحول إلى حرارة، والتي لا تختلف تفاعلاتها عن التفاعلات الكيماوية نوعا كذلك من الحركة المعتبرة أصل القوى الطبيعية، فتكون نسبة الحياة إلى القوى الطبيعية كنسبة الإنسان إلى الحيوان؛ بمعنى أن أصل الحياة كأصل سائر قوى الطبيعة.
وهذا لا يلزم منه أن تكون ناشئة رأسا من القوى المذكورة في حالها المعروف اليوم، وأن يكون ذلك غير ممتنع عقلا، كما أن الإنسان ليس ناشئا من القرد رأسا؛ أي إن الحياة لا يلزم أن تكون اتصال كمال القوة المبلورة، بل من أصلها، كما أن الإنسان ليس اتصال كمال القرد، بل من أصله، ولا يلزم أن تكون حركات الحياة كحركة دقائق الجماد، كما أن اعتبار القوى المعروفة من أصل واحد كالحرارة والكهربائية والنور - مثلا - لا يلزم منه أن تكون حركات كل قوة منها كحركات الأخرى، ولا يمنع أن تكون حركات الحياة من جنس حركات الدقائق، كما أن اختلاف حركات القوى الطبيعية لا يمنع كونها من جنس واحد.
وبهذا الاعتبار لا تختلف قوى العالم بعضها عن بعض، ولا تختلف مواده كذلك إلا اختلاف المركب عن البسيط، أو اختلاف الفصل عن النوع، والنوع عن الجنس. وهذ الاختلاف لا يكون جوهريا إلا إذا أريد بالجوهر الكيفية لا الذات، وعليه فلا يكون في اعتبارنا تأثرات المادة نوعا من الحس شيء غريب باعتبار الحس في أبسط أحواله، وباعتبار الحياة نوعا من الحرارة، والحرارة نوعا من الحركة، والحركة صفة لازمة للمادة وأم كل القوى.
نعم، إذا أريد بالحس كما يتبادر منه إلى الفهم لغة، يكون مثل هذا القول في منتهى الغرابة، ولا يجوز أن يطلق على النبات ولا على غير الحيوان العالي، إلا أن الحس كما يراد به فسيولوجيا يقسم قسمين كما تقسم الحياة قسمين كذلك: حسا حيوانيا للحياة الحيوانية، وهو يقتضي العلم به، ويسمى حسا معلوما، وحسا نباتيا للحياة النباتية؛ كحس المعدة والقلب والأوعية الشعرية وسائر أعضاء الحياة الآلية، ويسمى حسا غير معلوم.
ومن هذا القبيل أيضا حركات أوراق السنط الحساس وغيره من جوارح النبات التي تقتنص الذباب وتهضمه في أوراقها الملتفة عليه وتغتذي به، فهذا الحس ليس فيه شيء من الإدراك، وهو بعيد عما يتبادر من معناه إلى الذهن، فإذا صح أن يسمى هذا النوع من التأثر حسا؛ جاز لنا مع مراعاة النسبة أن نتوسع ونقول: إن المادة تحس؛ لأن نسبة تأثرات قضيب معدني إلى حس النبات السافل ليست أبعد من نسبة حس هذا النبات إلى حس الإنسان.
ثم إذا أطلقنا الحس على الحيوان والنبات وجب أن نطلقه على كليهما لا على بعضهما، ولا يخفى ما بين أنواعهما من المباينة في إبداء دلائل الحس، ولا يخفى كذلك صعوبة التمييز بين عالم وعالم من العوالم الثلاثة، بحيث تعتبر آفاقها مختلطة، قال الطبيب في المقالة المذكورة آنفا: «والحاصل أن كثيرا من العلماء يرون أن الكائنات متداخلة بعضها في بعض، فلا توجد حدود حقيقية فاصلة بينها؛ لأن أدنى مراتب النبات والحيوان متصلة ببعض مراتب الجماد.» وكيف لا توجد «حدود حقيقية» بين عالم الأحياء وعالم الجماد، وتوجد هذه الحدود بين القوى الفاعلة فيهما؟ بل كيف يمكن الاشتباه إن لم تكن القوة فيهما من طبع واحد؟ لعمري إن ذلك غريب.
نقول: ومن عجيب ما ورد في كلام الفلاسفة المتقدمين على هذا الارتباط والارتقاء أيضا كلام لابن خلدون في مقدمته، قال: «ثم انظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن، ثم النبات، ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج: آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات، وآخر أفق النبات متصل بأول أفق الحيوان. ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب لأن يصير أول أفق الذي بعده، واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه وانتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر والروية.» ا.ه. والحاصل أن المسافة البعيدة التي كان يزعم أنها تفصل الحياة عن سائر قوى الطبيعة فصلا مطلقا لم يبق منها اليوم سوى فرق جزئي لا يصح أن يعتبر كذلك، إلا أن ذلك يدعو إلى النظر في مسألة أخرى ربما كانت من أكثر المسائل إشكالا على الطبيعي، وهي التولد الذاتي.
الفصل الثاني
في التولد الذاتي
اعترض الاستاذ «بتر» على الذين يجعلون الجراثيم سبب الأمراض عموما - والأستاذ المذكور ممن يذهب إلى أن الجراثيم قد تكون نتيجة المرض لا سببه دائما؛ أي ممن يذهب إلى التولد الذاتي للأحياء الدنيا - قال من مقالة، نشرت في العدد 160 للأنيون مديكال، سنة 1884، حاول فيها الفصل بين التدرن الرئوي والخنازيري ما نصه:
إن الكيماوي الذي يعلمني أن الألفة الكيماوية تقدر بزيادة مكافئ من الكلور أن تحول مادة غير سامة كأول كلورور الزئبق «زئبق حلو» إلى سم قتال كثاني كلوروره «سليماني»، والذي يعلمني أيضا أن مواد متساوية المكافئات الكيماوية كالحامض البراطريك والحامض الطرطريك تقدر بموجب ناموس الأيزوميريا أن يكون لها خصائص مختلفة، بحيث إن بعضها يحول النوع المستقطب إلى اليسار، وبعضها إلى اليمين، ويعلمني كذلك أن مادة كالفسفور الأبيض المتبلور السام يتحول بموجب ناموس الألوتروبيا تحت حرارة 240 إلى جسم أحمر عديم الشكل غير سام، يريد أن ينكر علي التصديق بوجود ألفة وايزوميريا والوتروبيا حيويات قادرة على أن تفعل في جسدي كما تفعل في الأشياء التي من خارج، وتولد في حالة المرض دقائق مريضة وأنسجة مريضة كما تولد في حالة الصحة دقائق صحيحة وأنسجة صحيحة ... ا.ه.
إلا أن هذا القول - وإن كان معقولا - يرد عليه اليوم اعتراضات كثيرة يصعب دفعها، وهو - وإن صح - لا يفيد شيئا في إثبات النشوء الذاتي من الجماد رأسا؛ لأنه إنما هو كائن في الأحياء وواقع تحت فعل الحياة نفسها، فلا بد لنا إذن من تدقيق النظر في هذا الموضوع من وجه آخر، فنقول: ذكرت النشرة الأسبوعية في العدد 97 من السنة الماضية انقراض جيل من الناس من أعظم الأجيال كان يعرف بالغنش، وموطنه الأصلي جزائر كناري، قالت: وكانت علة انقراضه ما مني من الأوبئة والعبودية وجور السبانيين في القرن السادس عشر. ا.ه.
وذكر الطبيعيون كذلك انقراض كثير من أنواع الحيوان منذ التاريخ، فالدينورنيس انقرض في زيلاندة الجديدة، والأبيورنيس في مدكسكر، والدرنت وعدة أنواع من السلاحف في جزائر سكارينا، وقد قل الأرخس في أوروبا كثيرا، وبعض أنواع البال انقرض من بحارنا، والأبتريكوس والستريكبس يقلان بسرعة في زيلاندة الجديدة،
1
وانقرض كذلك أجيال كثيرة من البشر غير من ذكر، وذكروا أسباب ذلك أيضا، وليس فيما ذكروه منها شيء فائق الطبيعة. ولما كان يعلم أن العصر الحالي لا يختلف عن العصور السالفة، كان انقراض الأجيال الأحفورية القديمة قبل التاريخ ينسب إلى أسباب مثل هذه الأسباب، أي إلى أسباب طبيعية كذلك.
ثم يعلم كذلك أن الأنواع الأحفورية المنقرضة قديما قد عوض عنها بأنواع أخرى، فلا بد إذن من التعويض عن الأنواع المنقرضة اليوم كما عوض عن تلك، اللهم إلا أن يكون عالم الأحياء سائرا اليوم نحو الانقراض الكلي. وهذا لا يعقل ولا يسلم به أحد، ولا بد في هذا التعويض من أحد وجهين: إما بالتدريج، أي بتحول الأنواع الموجودة تحولا بطيئا متدرجا، وإما فجأة، فإن لم يكن بالتدريج فلا بد من أن يكون بالخلق أو بالنشوء، أي التولد الذاتي، وفي كليهما لا بد من تكون الذكر والأنثى في الحيوانات العليا، خاصة من غير أبوين.
ولا يخفى كيف أن تعب بوشه وجولي وموست وبستيان وغيرهم لتوليد الأحياء الدنيا ذاتيا قد ذهب سدى، وكيف أن باستور قد بين استحالة ذلك في الأحياء الميكروسكوبية، فمن يصدق به يا ترى في الأحياء العليا؟ واستعمال لفظة الخلق عوضا عن التولد الذاتي لا يزيل الصعوبة؛ لأن الإرادة الخالقة لا تظهر لنا إلا بأفعالها، والعلم لا يستطيع أن يصعد إلى تحقق ما وراء هذه الأفعال.
فالخلق عنده باعتبار التعريف كالتولد الذاتي، أي نشوء حي من لا حي، ولا بد من حدوث ذلك في يوم معين ومكان معين، فما قولك فيمن يقول: إني في يوم كذا، وساعة كذا، رأيت أسدا أو فيلا نشأ وشب من الأرض، وهل يصدقه أحد؟ فالعقل لا يجسر أن يقول بالتولد الذاتي إلا بعد أن يسميه خلقا، ولا بالخلق إلا بعد أن يؤخره إلى زمان تحسب معه الأزمنة الميتولوجية كأمس، فكيف يكون إذن هذا التعويض عن الأنواع المنقرضة إن لم يكن بالتولد الذاتي في الأحياء العليا كما ذهب إليه ليل؛ لأنه والحالة هذه أصعب من الخلق، ولا بالخلق المتعاقب؛ لأن انقراض الأنواع - كما يعلم - حادث بالتدرج؟ فالتعويض عنها يقتضي أن يكون بالتدريج كذلك، وليس فيما يعلم ما يؤيد به مثل هذا التعويض، فلم يبق إلا أن يكون بتحول الأحياء وتكون الأنواع بهذا التحول - كما مر في الكلام على مذهب دارون - ولو لم يكن في هذا المذهب سوى إيضاح هذه القضية إيضاحا شافيا لكفى به فائدة للعلم.
قال «بلانشار» - من مقالة في أصل الحياة في جريدة العلم الفرنسوية بتاريخ 7 شباط سنة 1885 ما يأتي:
على أن بعض الفلاسفة يذهبون إلى أن الأرض التي كانت في البدء قاحلة وغير مسكونة إنما عرضت فيها الحياة مما أتاها من الجراثيم من بعض الكواكب المصطدمة بها، وهو قول محتمل، إلا أنه غير مقنع، ويظهر لنا أنه لا يحل المسألة، وإنما يزيدها ارتباكا، فإن لم تكن الحياة قد ظهرت على الأرض ذاتيا بفعل أحوال طبيعية وكيماوية، فيلزم أن تكون قد ظهرت ابتداء على أحد كواكب نظامنا الشمسي، وخصوم التولد الذاتي الذين يتعلقون بجبال هذا التعليل كالملجأ الأخير لهم إنما يبعدون حل هذه المسألة، ولا يأتون فيها بتعليل شاف.
ولا يخفى أن الحل الطيفي الذي استطعنا بواسطته أن نعلم تركيب الكواكب الكيماوي أرانا أن هذه الكواكب متكونة من نفس المواد المتكون منها سيارنا، فالصوديوم والمغنيسيوم والهيدروجين والأكسجين والكربون والكلسيوم والحديد والتلوريوم والبزموث والأنتيمون والزئبق ... إلخ موجودة هناك كما هي موجودة هنا. وقد علم كذلك من فحص الحجار الجوية أن هذه الأجسام تتحد هناك كما تتحد في أرضنا، فلا بد إذن من أن تكون الأحياء الأول قد تكونت فيها من مواد جامدة شبيهة بموادنا.
فوالحالة هذه ما الفائدة من الزعم بأن أرضنا إنما أتتها الحياة من كوكب اصطدام بها في مروره في الفضاء؟ إذ لا بد من الإقرار في كل الأحوال بأن التعضي قد وقع في المادة في أحد نجوم نظامنا الشمسي، فمن العبث إذن الإصرار على إنكار نشوء الحياة في الأرض. ا.ه.
والذي ارتأى أولا أن جراثيم الأجسام الحية وقعت مع الرجم هو السير «وليم طمسن» الإنكليزي، ومنذ مدة خطب بعضهم خطبة طويلة في تكون البرد، وقال: إنه يتكون من بخار موجود في الخلاء الذي بين الأجرام السماوية، فما أتم الخطبة حتى وقف السير «وليم طمسن» وقال: أظن الخطيب يمزح فيما يقول ؛ لأنه لو فرضنا تكون البرد في تلك الأعالي لذاب قبل أن بلغ الأرض بملايين من الأميال. ولما جلس قام اللورد «ريلي» وقال: أنا أعرف رجلا ارتأى رأيا أغرب من هذا، وهو أن بذور الأحياء هبطت على الأرض من السماء، فقال السير «وليم طمسن»: أنا لم أحتم بصحة ذلك، بل قلت بإمكانه، وبأنه لا يمكن أن يقام دليل على فساده.
وإذا تقرر ذلك وعلمنا به ما بين الأحياء من الارتباط لا يبقى علينا إلا النظر إلى الأصل الأول الذي تفرع منه عالم الأحياء، أتكون بفعل خلق خاص أم نشأ ذاتيا - ويراد بالنشوء الذاتي نشوء الحياة من المادة بقوة فيها - ونفي الخلق الخاص لا يلزم منه نفي الخلق الكلي، ثم ماذا كان هذا الأصل؟ وفي كلام النشوء والخلق لا بد أن يكون هذا الأصل إما حيا كاملا مؤلفا من أعضاء مختلفة، أو مادة حية يتألف منها الحي، ففي مذهب النشوء لا يصح أن يكون حيا كاملا؛ لأن ذلك يقتضي أن يكون هذا الحي قد تكون من المادة وقواها رأسا بتفاعلات شبيهة بالتفاعلات الكيماوية بدون استعداد سابق فيها، ومثل هذا الحي يعتبر جسما مركبا مختلطا بعيدا جدا عما تستطيع التفاعلات المذكورة أن تعمله.
ولا يصح في مذهب الخلق كذلك؛ أولا لأن التعويض عن الأنواع المنقرضة يستلزم خلقا متعاقبا، وإلا تلاشت الأنواع مع الزمان، وذلك كما تقدم لا يعلم، وثانيا لأنك ترى أن الخالق سلك في الخلق على نظام معلوم، فهو لم يخلق العوالم كما هي الآن، بل قسم الخلق إلى أطوار؛ فإما أن يكون قادرا ولم يفعل، وإما أن يكون مثل هذا الخلق ممتنعا، فخلق كل طور إعداديا لما بعده لتوقف صور المادة على وجود المادة أولا، ولتوقف الحياة على الصور الصالحة لها كذلك.
وفي كلا الأمرين لا بد من مراعاة نظام معلوم ربما جازت تسميته اقتصاديا في الأول، ويسمى ضروريا في الثاني. وقد تقرر أن النظام مطرد في سائر العلوم الطبيعية، فالسماء وكواكبها والأرض وطبقاتها إنما تكونت بالنشوء بعضها من بعض بقوى موجودة فيها، فلماذا لا يكون كذلك في العلوم البيولوجية؛ أي لماذا لا يكون سلوك الخالق في خلق الحياة كسلوكه في سائر الخلق؟ وأي دليل على أنه خالف هذا النظام؟ وهل تنقص الحكمة بذلك؟ فلا بد إذن في الخلق كما في النشوء من تكون المادة الحية من الجماد أولا قبل الحي. وهنا نقطة ملتقى الماديين بالإلهيين، وإذا أردنا الكلام على نشوء الحياة وجب علينا والحالة هذه أن نبحث عنه لا في الحي نفسه - مهما كان بسيطا - بل في هذه المادة الحية التي يتألف منها الحي؛ لنعلم إذا كان مثل هذه المادة ممكنا لها أن تتكون من الجماد رأسا، وأن تكون ذات حياة أيضا.
الفصل الثالث
في المادة الحية أو البروتوبلاسما
أول من قال بمادة أولى حية الفيلسوف الألماني «أوكن»، وسماها أورشليم من الألمانية، وقوله بها كان من باب الفرض، وكاد قوله يضعف لمناقضة الميكروغرافي أهرنبرغ له، لولا أن دوجاردن الطبيعي الفرنسوي بين أن في الحيوان مادة مؤلفة من حبيبات متجانسة أطلق عليها اسم السر كود، ثم عرف النباتيون وجود مادة في خليات النبات شبيهة بالسر كود، وسماها فون موهل بروتوبلاسما، وقد بين المشرح الألماني مكس شلتز وحدة السر كود والبروتوبلاسما، ثم تغلب اسم البروتوبلاسما في العلم لما في معناه من المناسبة؛ إذ معناه: المكون الأول.
ثم علم من التشريح أن جوهر الحياة غير قائم بالأنسجة والأجهزة وما أشبه؛ لأنها غير لازمة لها، وإن تكن مما يؤثر فيها، بل في هذه البروتوبلاسما العرية عن كل صورة، وعن كل بناء معين، فهي لا جامد ولا سائل، بل بينهما متجانسة كزلال البيض، ومركبة مثله من كربون وهيدروجين وأزوت وأكسجين، وقليل من الكبريت، ومواد أخرى معدنية. وهذا الأمر مهم جدا، فإن المادة الحية ليست بسيطة، بل مركبة من عناصر كيماوية بمقادير معينة، وزد على ذلك أنها شبيهة بصنف من المركبات يعرف بالمركبات الزلالية. وهذه لا شيء يحملنا على اعتبارها من طبيعة غير طبيعة سائر المركبات الكيماوية الاعتيادية، ومن ثم يعرض لنا سؤال مهم، وهو: هل يستطاع توليد البروتوبلاسما، ومن ثم خلق الحياة كيماويا؟
ويجب التمييز بين توليد البروتوبلاسما كيماويا والتولد الذاتي كما يفهم عادة؛ فليس المراد هنا توليد إحياء مركبة وإن كانت صغيرة جدا، ولا تكوين عنصر تشريحي مهما كان بسيطا، وما يطلب من الكيماوي أن يصنعه إنما هو هذه المادة المتجانسة البسيطة التي يظهر أن الحياة كائنة فيها. وفي بادئ الرأي لا يظهر هذا الأمر غريبا؛ لأن امتحانات باستور لا تطلق على البروتوبلاسما الحرة العرية عن كل صورة، والخالصة من كل صفة موروثة فيها، ولكن على الخمير وأنواع النقاعيات، وهي أجسام حية مركبة ذات تكوين معين، وصفات قديمة موروثة؛ أي على الأحياء لا على المادة الحية نفسها.
أما هذه المادة فغاية ما يعلم أن المركبات الكيماوية التي تنحل هي إليها بعد فقدها الحياة لا تستطيع أن تركبها من نفسها. وهذا ليس خاصا بها وحدها، بل يطلق على سائر المركبات الكيماوية؛ فإن الماء إذا انحل إلى عنصريه الأكسجين والهيدروجين، فعنصراه لا يتحدان ولا يركبان ماء إن لم يلهبا بشرارة كهربائية أو غيرها، فليس فيما تقدم ما ينتقض به أصل البروتوبلاسما الكيماوي وتولدها الذاتي.
وعدم إمكان تركيبها كيماويا حتى الآن لا يفيد شيئا كذلك ضد هذا الأصل؛ لأن المواد الزلالية تعتبر كسائر المركبات الكيماوية، مع أن الكيمياء لم يتيسر لها تركيبها للآن، إلا أنه لا يقطع باستحالة ذلك عليها بناء على ما تم لها تركيبه بالكيمياء النموذجية، وربما لا يطول الأمر حتى يتم لها ذلك، إلا أن البروتوبلاسما وإن كانت مركبة كسائر المواد الألبيومينية فهي تختلف عنها اختلافا كبيرا؛ لأنها عرضة لتغير سريع مع حفظ تركيبها كما هو، بخلاف هذه المركبات؛ فإن تركيبها الكيماوي لا يعود لها ولو لم يتغير إلا قليلا؛ أي إنها تمتاز عنها بالتغذية.
وهي ليست قائمة بنمو بسيط، وإلا لم يكن فرق بينها وبين البلورات، فإن البلورة إذا وضعت في سائل مشبع من محلول مادتها تنمو كذلك، وتشبه في نموها نمو البروتوبلاسما شبها ظاهريا، ولكن عند تدقيق النظر يرى أن هذا النمو فيها يتم على نوعين مختلفين؛ فالبلورة إنما تنمو بجذب دقائق تركيبها الكيماوي كتركيبها، وبوضعها على سطحها.
وأما البروتوبلاسما فتجذب إليها - غالبا - مواد مختلفة عنها، فتحلها ممثلة بعضها ، ونابذة البعض الآخر، ومتغيرة في حدود معلومة تغيرات كلية؛ فإن تركيبها التشريحي والكيماوي يظهر أنه واحد في جميع بيوض الحيوان، وهي مع ذلك تولد هنا إسفنجا، وهناك سمكة، ومرة ضفدعا، وأخرى حيوانا آخر.
وتمتاز عن البلورات كذلك بنموها المحدود؛ فإن البلورة لا حد لنمو حجمها بخلاف البروتوبلاسما، فكل كتلة بلغت منها بعض أعشار الميليمتر تنقسم من ذاتها إلى كتلتين أو أكثر، وتؤلف الجسيمات الصغيرة المعروفة بالخليات، فلو لم يكن في البروتوبلاسما قوة تفعل في ظاهرها كما تفعل في باطنها لم يكن مثل هذا الانقسام والتغير والتحديد فيها ممكنا، ولكان نموها لا يفرق عن نمو البلورات، فالبروتوبلاسما تختلف إذن عن سائر المركبات الكيماوية من حيث اختصاصها بالتغذية والنمو والانقسام والتوالد اختلافا كبيرا.
وبهذه الخصائص تختلف أيضا عن المواد الزلالية، ولذلك ربما لم تستطع الكيمياء خلق الحياة وإن استطاعت اصطناع أشد المواد الزلالية اختلاطا، ولا سيما إذا صح أن البروتوبلاسما متجانسة، على أن من يذهب إلى أن الحياة نتيجة التعضي ربما أنكر على البروتوبلاسما تجانسها، وقال: ربما كان عدم تحققنا تعضيها ناشئا عن ضعف الآلات البصرية المكبرة لا عن عدم الشيء بنفسه، فالجواب على ذلك ربما لم يكن صعبا، وهو: لا يخفى أن العين المجردة تبصر أشياء ليس لها من الغلظ سوى جزء من مائة جزء من الميليمتر قطرا؛ كوبر الجلد، وخيطان بعض أنواع الرتيلاء، وأقوى ما لنا من المناظير يرينا أشياء أصغر من ذلك بألفي مرة؛ أي مما قطره ليس إلا جزءا من مائتي جزء من الألف، أو خمسة ملايين جزء من الميليمتر، فإذا أمكن معرفة المسافات التي تفصل بين دقائق الأجسام ومعرفة هذه الدقائق هان علينا حل هذه المسألة.
وقد توصلوا إلى ذلك بطرق مختلفة، فلوشميدت عين قطر الدقائق من النسبة بين كثافة غاز وسائله الناتج عن تكثفه، ووندرولس من الفرق بين قابلية الغازات الحقيقية للانضغاط وقابليتها النظرية لذلك، كما في ناموس مريوط، وطمسن من درس طبيعة النور في أبواق الصابون، وكلهم اتصلوا بهذه الطرق إلى نتائج تكاد تكون واحدة ،
1
ولا يفرق بعضها عن بعض إلا بكسر من المليون من الميليمتر، وذلك أقل قليلا من حجم أصغر الأجزاء المنظورة بأقوى تكبير ميكروسكوبي، ثم إن المواد الألبيومينية
2
تعتبر بإجماع الكيماويين من المركبات التي دقائقها ذات حجم من أكبر الحجوم، فلو كانت هذه الدقائق مركبة فيها تركيبا مختلطا كالأنسجة التشريحية لما خفي ذلك علينا، وبما أن البروتوبلاسما تعتبر في طبعها كالمواد المذكورة كانت تعتبر متجانسة نظيرها طالما لا يعرف عنها ما ينقض ذلك، ثم إن كان المراد بالتعضي ترتيب أجزاء متماثلة أو مختلفة ترتيبا خاصا معينا، فالأولى أن يطلق على المركبات الأخرى الكيماوية لا على البروتوبلاسما؛ فإن دقائق تلك المركبات مرتبطة بعضها ببعض ارتباطا شديدا يجعلها أثبت من البروتوبلاسما المتغيرة على الدوام، والتي تمتاز عن سواها من المركبات بعدم ثبات تركيبها، وإذا اعتبرنا أن أقرب المركبات المذكورة إلى البروتوبلاسما ما كان منها أقل ثباتا من غيره؛ جاز لنا حينئذ أن نعتبر مثل هذه المركبات الفاقدة كل ثبات الحلقة المتوسطة بين الجماد والحي، فإنها تختلف عن الجماد بعدم ثباتها، وعن الحي بعدم اقتدارها على استرداد تركيبها مع هذا التغير، بخلاف البروتوبلاسما - كما تقدم - فإن تركيبها الكيماوي يتغير على الدوام مع بقاء صفاتها الحية، كأنها الزوابع التي تتكون في مجاري المياه وفي البحار؛ فإنها تحفظ ذاتها زمانا طويلا مع تغير دقائقها دائما.
وقد انتبه الفيزيولوجيون إلى هذه المشابهة منذ زمان طويل، فكوفيه شبه الحي بهذه الحلقات الزوبعية، وهكسلي يشبه بها كذلك إشارة إلى بقاء الحي على صورته مع تجدد أجزائه. وصحة هذا التشبيه أكثر ظهورا في البروتوبلاسما نظرا لبساطتها بالنسبة إلى الحي المركب من أعضاء وأنسجة مختلفة؛ فليس في مادتها سوى تركيب كيماوي فقط، وهي مع ذلك مقر لحركة خاصة تتناول من الخارج دقائق تحفظها في جوهر مادتها مدة معلومة ثم تنبذها وتأخذ غيرها، وهكذا كما تفعل الحلقات الزوبعية المذكورة. وبهذه الحركة تمتاز حقيقة البروتوبلاسما الحية عن المواد الألبيومينية وسائر المركبات الكيماوية، فالحياة البروتوبلاسما نفسها، بل الحركة التي تحركها.
بقي علينا أن نعرف طبيعة هذه الحركة؛ فقد تقدم أن الطبيعيين والكيماويين كانوا في أوائل هذا القرن يحسبون القوى أنيات مستقلة بعضها عن بعض، ثم تحققوا بعد البحث أنها ليست سوى استحالات قوة واحدة هي الحركة، وجواهر المادة - كما يتحصل من مباحث طمسن التي مال إليها مشاهير علماء الكيمياء كورتز وغيره - ليست سوى زوابع في الهيولي وجميع ظواهر الجاذبية والألفة ناشئة عن استحالات الحركة، وكل شكل من الحركة يولد نظيره، فإذا صدم جسم جسما آخر تحرك الجسم المصطدم بحركة الجسم الصادم، فالجسم السخن يسخن الأجسام التي حوله، والمنير ينيرها، والمكهرب يكهربها.
وتحويل هذه القوى بعضها إلى بعض لا يخفى على أهل العلم، ولا يخفى عليهم أن هذه الحركات كلما تركبت عسر تحويلها، ويعلمون كذلك أن هذه الحركات لا تتلاشى. وقد تحقق بالبرهان كما بين هلمهلتز وطمسن أن الحلقات الزوبعية التي يشبهون بها الجواهر الفردة أبدية أزلية لا تقبل القسمة. ومعلوم أن الجواهر الفردة كالحلقات الزوبعية المنتشرة في السائل المتكونة فيه حركات في هذا السائل، لا أنها أجزاؤه نفسها، فذاتيتها قائمة بهذه الحركات، إلا أنه لا يعلم إذا كانت أجزاء الهيولي التي تؤلف الجوهر الفرد لا تتجدد دائما؛ لأن هذه الأجزاء لا تظهر لنا إلا بعد دخولها في الزوبعة، فإذا كان ذلك فالأجسام لا توجد إلا بنوع من التغذية شبيه بما يحصل بالبروتوبلاسما.
ومهما يكن من ذلك، فإننا نرى بهذا المثل أن الحركة في الهيولي تولد ذوات حقيقية ثابتة يفعل بعضها في بعض، متغيرة إلى ما لا حد له بدون أن تفقد استقلالها، مظهرة بدوام نوع اهتزازاتها أنها تحفظ نوعا من الذكرى لما يؤثر فيها. نعم، إن ذلك ليس الحياة كما يراد بها، إلا أن معرفتنا بأن صور الحركة كلما تركبت واختلطت كونت أجساما تقترب أكثر فأكثر من الأحياء لا تكون بدون فائدة.
لنفرض أن حركات متشابهة أو مختلطة تتناول بعض الزوابع المتكونة في الهيولي وتركبها عوضا عن أن تتناول الهيولي نفسها، فإن هذه الزوابع لا تبقى على حالها؛ لأن اشتراك الحركات حينئذ لا يحدث عنه نفس الحركات؛ أي إنه لا يتولد عن تركب الزوابع أو الجواهر نفس هذه الجواهر، بل ينشأ عنها كائنات أخرى مختلفة عن الدقائق التي تؤلفها ذات حجوم معينة على الدوام بدون أن تفقد جوهرها، حافظة فيها نوعا من الذكرى للتأثيرات السابقة الطارئة عليها، أي إنه ينشأ عنها أنواع البروتوبلاسما.
فإذا كانت أنواع البروتوبلاسما قد تكونت من هذه الحركة في أول الأمر كما تكونت العناصر، فربما لم يكن تكونها كيماويا أو بفعل الطبيعة ممكنا اليوم كعدم إمكان ذلك في العناصر، وربما كانت أنواعها المتولدة في هذا الطور متعددة كما أن العناصر متعددة، إلا أن ذلك لا يجعل الحياة من مصدر آخر غير مصدر القوى الطبيعية؛ فالحياة كسائر القوى نوع من الحركة، وبهذا الاعتبار يجوز أن يقال: قوة حيوية، كما يقال: ألفة كيماوية إلا أنها غير القوة الحيوية للحيويين، فهي هنا خلاف لتلك كسائر أنواع الحركة خاضعة لناموس الميكانيكيات، وهي للبروتوبلاسما كالألفة للمعادن ذات أفعال معينة تضاف إلى القوى الطبيعية، لا أنها تعرض على المادة فتبطل فعل هذه القوى منها، وعليه فإن كان المراد بمذهب النشوء تولد حي من لا حي بفعل القوى الطبيعية المنتشرة في العالم؛ فهذا يصعب نقضه، وهو كائن بالبروتوبلاسما، وإلا فإن كان المراد به حصول التولد الذاتي اليوم، فربما لم يكن ذلك ممتنعا، إلا أنه غير ضروري لمذهب النشوء.
وأما بعد ذلك فكوفيه صاحب ثبوت الأنواع، وهكسلي صاحب تغيرها إلى ما لا حد له يلتقيان عند هذه النقطة، وهي «كل حي من حي». وتوجد اليوم أيضا في البحار والمياه العذبة حتى الأرض الندية كائنات بسيطة تعد من أقرب الصور الحية إلى الصور الأصلية كالمونير والباثيبيوس والبروتوباسيبيوس وأشباهها، على أن الآراء في التولد الذاتي مهما اختلفت فإنها متفقة على حصول ذلك بقوى الطبيعة؛ أي بالنشوء كما تكونت سائر العوالم بالنشوء أيضا.
والعقل لا يأبى ذلك، ولا سيما بعد أن مهد العلم له سبيل القول بوحدة الكون بما قرره من الارتباط بين العوالم، ولا يرى فيه ما يحط بشأن الخالق عند المؤمن، خلافا لما يظن أن كل ما خالف ما قام في مخيلته هو جهل وبطلان وضلال وبهتان. وهذه دعوى لا يقولها إلا مثل من لا يرى العلم إلا في تخريفه. سئل أحد كبار العلماء والفلاسفة المؤمنين: ما قولك في مذهب دارون؟ وكيف نصنع معه بخلق الأنواع؟ فقال: «إذا كان الذي يصنع ساعة يعد عظيما، فلا شك أن الذي يصنع ساعة تصنع ساعة يكون أعظم أيضا.» ا.ه.
الخاتمة
المال للعمل كالعلم للعقل
هذا ولا شك أن البحث أحسن الذرائع للوقوف على الحقائق، لكن لما كنا غير قادرين على تحري كثير من المسائل العلمية بامتحانات نعيدها، واكتشافات نبديها، كان علينا أن نجد للبحث في أعمال غيرنا ممن توفر لهم ذلك، والاستنتاج بحسب ما ترشدنا إليه أفهامنا. وإذا كنا قاصرين عن تولي أمر كثير من هذه المباحث بأنفسنا، فلأن الطفرة في كل شيء محال، فدخول العلوم إلى بلادنا حديث العهد جدا، ولا يخفى ما يلزم للقيام بمثل هذه الأمور العظيمة من الاستعداد في النفس والتفرغ للعمل، وغير ذلك من المعدات والآلات مما لا ينال إلا بالمال، الذي لا يحصل عليه إلا بانضمام القلوب وانعقاد الهمم، حتى ننتقل من صف الحلميات إلى مراتب البشر، وتصير لنا ذاتية مستقلة نعرف بها. وهذا يحتاج إلى الغيرة الوطنية.
وإني - بكل أسف - أقول: إن تربية هذه المزية فينا لا يزال يلزم لها زمان طويل حتى تقوى، على أن ثروتنا مجتمعة هي دون ذلك بكثير، فكيف بنا وأغنياؤنا القادرون لاهون، وأفرادنا المشتغلون بالعلم قليلون، وهم بسلاسل العسر مكبلون؟ إلا أننا ببحثنا في أعمال غيرنا على ما في إمكاننا نمهد السبيل لأولادنا، فيأتون من بعدنا وبهم في النفس قوة، وفي العقل استعداد أعظم من قوتنا واستعدادنا؛ فيتولون القيام بهذه الأعمال العظيمة بأنفسهم، وتتحقق بهم أمانينا التي تصير بهم آمالا تنال، وأعمالا تتسابق في مضمارها همم الرجال. ا.ه.
1
ملحق في مباحث في الحياة لتأييد الرأي المادي فيها من سنة 1878
استفهام1
(1) حضرة منشئي المقتطف الفاضلين
قرأت في الجزء الأول من السنة الثالثة من المقتطف المفيد كلاما وجيزا فيما خص الحياة، وهل هي من الظواهر الذاتية الطبيعية الخاضعة لنواميس الطبيعة في مبدئها ومبدأ الأنواع الحية، أم هي خلق خالق رسم صورة كل نوع وأودعها في جرثومة خصوصية، وقد أشرتم فيه إلى الاختلاف الكائن بين جمهور العلماء من هذا القبيل وتعسف بعضهم، ثم قلتم: إن هذه المسألة قاربت النهاية، وأن الحزب القائل بخلق البذور أو الجراثيم على أنواعها دفعة واحدة في بادئ الخلق قد استظهر على سواه، بناء على تجارب أحد فطاحله؛ العلامة تندل الشهير.
وقد راسل بها العلامة هكسلي يصفها له - كما في الجرائد - ويعلمه أن الحيوانات - التي زعم الخصم بتولدها من نفسها - أتت من الهواء المنتشرة فيه بذورها، ولو انقطع الهواء عن التراكيب التي يزعم هذا الخصم أن الحياة تتولد فيها لبقيت كل أيامها خالية من أثر الحياة، ومن عبارتكم يظهر أن كل دليله قائم على انقطاع الهواء عن تلك التراكيب، وهو كلام منقوض لا يبنى عليه حكم، كما لا يخفى على حضرتكم؛ لأنه هل يمكن ظهور حياة أو حفظ حياة ظاهرة إذا امتنع الهواء؟ وإذا كان لا يمكن؛ فلماذا نتوهم السبب في عدم وصول البذور المزعوم بها إلى هذه التراكيب، وليس في انقطاع الهواء نفسه عنها، طالما نعرف جيدا أن لا حياة حيث لا هواء؟
على أن العلامة المذكور لم يكن ليعتمد على مثل هذا الدليل، ولعل له أو لغيره أدلة أخرى علمية قاطعة لا تنقض حتى زعم بفوزه وفوز أصحابه، فنرجو من حضرتكم - على ما عودتم قراءكم من الإرشاد والإفادة - أن تفيدونا، إذا أمكن في مقتطفكم، عن حقيقة هذا الأمر الذي يهم العلم جدا؛ لما يتوقف عليه من الأمور الكلية في سيره. جزاكم الله خيرا، ولكم الفضل.
الحيرة علة البحث1
ما أحسن قولكم: الحياة حيرة العلماء! والحيرة هي سبب البحث، وهو علة العلم، ولولاهما ربما لا ينسى الإنسان شيئا، ولكنه بكل تأكيد لا يتعلم شيئا.
قد اطلعت على ما أتيتم به من الإفادة، أما قولكم: وظاهر الاعتراض أنه حاصل من توهم الانقطاع بمعنى الانتزاع، وهو خلاف المقصود إلخ؛ فيوهم بأنه إذا ارتفع هذا الوهم سقط الخلاف، والحال كلا، ولو جاز لي أن أتوهم ذلك من كلامكم لما جاز لي أن أتوهمه فيكم، ولا أن أراجعكم في مسألة ترجع حينئذ إلى أبسط مبادئ الكيمياء والفسيولوجيا، بل كنت متيقنا أن الكلام محتاج إلى بيان آخر. وقد أشرت إلى ذلك بقولي: ولعل له أو لغيره أدلة أخرى إلخ، والانقطاع في هذا المقام أعم مما تقولونه حضرتكم، فهو لا يستلزم بقاء المنقطع في المنقطع عنه، ولا سيما إذا كان الكلام علميا عاما تعتبر فيه المواد والعناصر كأنها مستقلة، فيفهم منه الفصل أيضا.
وسواء كان هذا المعنى محتملا أو غير محتمل، فهو ليس المقصود ولا يغير شيئا من مركز العبارة، ولا من قيمة النتيجة؛ لأن قولكم وهو بمقام الدليل: «ولو انقطع الهواء عن التراكيب المشار إليها لبقيت كل أيامها خالية من أثر الحياة.» لا يفهم منه مرادكم؛ إذ مرادكم بالتراكيب المشار إليها التراكيب المنقطع عنها الهواء الخارجي، والتي ماتت جراثيمها، وهو غير مذكور، ولو كان مذكورا لارتفع كل لبس في فهم المقصود، ولا يرتفع هذا الالتباس بالنظر إلى إصلاح معنى لفظة انقطاع كما أسلفتم؛ لأنه إذا كان المراد بانقطاع الهواء عن المركبات عدم وصول الهواء الخارجي إليها مع بقاء هوائها المتخلل فيها، فالمسألة لا تزيد وضوحا، أليس الهواء المتخلل تلك المركبات والمنفصل عن الهواء الخارجي هواء أيضا مركبا من مزيج قاعدته الحيوية الأكسجين؟
وإذا كان كذلك، فلماذا لا يصلح هو نفسه لأن يولد حياة كما يصلح لأن يحفظ حياة، حتى تكلف لمساعدته جراثيم وبذور عجزت أقصى الامتحانات عن إظهار حقيقة وجودها، وإن قلتم: كلا، بل النتيجة في ذلك متوقفة على تنقية الهواء وعدمها، قلت: إن ذلك لم يذكر هناك، فضلا عن أنهم لم يتفقوا على أية درجة تحصل هذه التنقية فيه، وإن اتفقوا على مبدئها. وطالما الاعتراض مقبول لا يمكن الحكم لفريق دون آخر، ولقد عدلتم كل العدل بإيرادكم أقوال الطرفين، ومبادئ امتحاناتهما المتفقين عليها ، ونتائجها المختلفين فيها من هذا القبيل، فنكتفي بها هناك عما يحسب ذكره هنا إعادة، ونقتصر على ذكر ما يمكن استخلاصه من كل هذه المحاورات الطويلة والامتحانات الدقيقة.
وغاية ما هناك أن أقوال كل من الطرفين ذات قيمة واحدة، والنتيجة من كل ذلك سلبية لغاية الآن؛ أي لا تؤيد مذهبا ولا تنقض آخر، فلا وجه لحاكم بينهما بالعدل أن يبشر بفوز أحدهما إن لم يكن له أسباب وأدلة أخرى توجب له ترجيح القول، وإن قلتم: إن الاستظهار الذي أشرتم إليه سابقا مسند إلى امتحانات الدكتور «تندل» - كما ذكرتم أخيرا - قلت: إنها لم تسلم من الاعتراض.
وقد ذكرتم حضرتكم بعض أوجه علتها، وكنت أترقب أدلة أخرى من غير هذا الباب؛ لأنه طالما بقي البحث محصورا في دائرة الامتحان على تولد البكتريا، مع ما فيه من الصعوبة الواضحة التي توجد لكل خصم حجته، ولم يساعد بمراقبات أخرى طبيعية، ربما اشتغل الفريقان زمانا أطول مما يظن، ولم يأتيا على نتيجة واحدة؛ لأنه لو سلم بأن السوائل الممتحنة الموضوعة ضمن أوعية زجاجية محكمة السد بالصهر هي منفصلة بهوائها عن الهواء الخارجي، لا يزال في المسألة صعوبتان كليتان؛ إحداهما: صلاحية الهواء الداخلي للحياة الذاتية، والثانية: درجة إماتة الجراثيم بالحرارة.
ومهما قيل في ذلك فما يدعيه الواحد بحجة ينكره عليه الآخر بحجة أيضا، وكلاهما يدعي الفوز له، ولا نتيجة مرضية من كل ذلك، فلا بد للوصول إلى نتيجة واحدة من النظر في هذه المسألة من وجه آخر، وبما أن حضرتكم استخلصتم بذكر فكركم بالترجيح بين القولين، جاز لي أيضا أن أذكر فكري من هذا القبيل، بعد أن وضح أن لا نتيجة مرضية من كل ما تقدم، فأقول: إن مذهب الجراثيم أم الأنواع يقضي بالجزم بوجودها منذ البدء، وهذا يقضي بأن تكون محصورة العدد لا تزيد ولا تنقص، ويقضي أيضا بأن تفعل هذه الجراثيم عند مناسبة الظروف لها على نسق واحد أبدا؛ أي على نسق النظام الذي صنعت بموجبه، وهذا يقضي بأن تكون مستقلة في صفاتها، ويقضي أيضا بأن يكون لكل عضو - حسب نوعه - وظيفة ما، وهذا يقضي بأن لا تكون موجودة أعضاء تسمى أثرية، والحال أنا كثيرا ما نرى في الأنواع أفرادا تشذ عن القياس الطبيعي النوعي في بعض صفاتها؛ مما يدل على أن بينها وبين الأنواع الأخرى من جنس واحد، ومن جنس آخر أيضا، كما بين الحيوان والنبات نسبة تكوينية، حتى يرى جلد معزى في جلد إنسان مثلا، وأمثال ذلك كثيرة في التاريخ الطبيعي.
ونرى أيضا أكثر من ذلك؛ إذ يشذ أحيانا كثيرة المتولد عن قياس النوع، ونرى أيضا أعضاء يسمونها أثرية لا وظيفة لها، على أن الحكمة تقتضي أن تكون هذه الأنواع المتضمنة منذ البدء في جراثيم خصوصية مستوفية الخلق، محدودة الصفات في نوعها، وذات أعضاء معلومة الوظائف في نفسها، ولا يمكن خلاف ذلك؛ إذ تفقد حينئذ أهمية هذا التقييد التكويني، أي أهمية الجراثيم، فهذا ما أريد أن أوجه إليه فكركم الآن، ولعل في مثل هذا البحث أعظم وسيلة للوصول إلى الغاية.
هذا وإني استغربت جدا قول حضرتكم: «وأما إذا اعتبر الدين، فالإيمان عندنا مقدم على العيان إلخ.» وعلى فرض صحة القائلين بالتولد الذاتي، فأي ضرر من ذلك على الدين؟ على أن بين موضوع بحثنا والدين فراسخ؛ لأنه كيف كانت نتيجته - سواء كانت موافقة للنصوص الدينية المألوفة أو غير موافقة - فلا تمس أهمية الدين بشيء، كما أن اكتشافات دوران الأرض لم تؤثر بحركة شمس «يشوع بن نون»، وكما أن الاعتقاد العميم بأن الله موجود في كل مكان لم يؤثر بأهمية القول: أبانا الذي في السماوات، وكما أن معرفة الفلكيين حقيقة السماوات، وأنها لم تعد قبة زرقاء مرفوعة فوق الأرض، بل هي مجال فسيح تسبح فيه الأجرام السماوية، ومنها أرضنا هذه، لم يغير شيئا من قول موسى عليه السلام، وخلق الله الجلد فاصلا بين المياه تحت الجلد والمياه فوق الجلد، وغير ذلك من المسائل التي رفض العالم الديني البحث فيها أولا؛ زعما منه أنها تمس الدين، وأخيرا قبلها كحقيقة راهنة قبل غيره.
ولعل الآفة في ذلك وما يجري مجراه سبق الاقتناع، ولو صح ما تقولون لاكتفى الإنسان عن السعي في سبيل العلم بالقول: إن كان ما يأتينا به العلم مأذونا به في الدين فهو منصوص عنه، وما كان غير منصوص عنه فلا حاجة لنا به، ومثلكم لا يسامح على مثل ذلك، وأنتم بجانب كعبة العلم، وكيف كان الأمر فلا بد في كل شيء من قصد، وفي كل قصد من إفادة أو استفادة.
الحس وأنواعه المختلفة1
منذ إهلال الطفل إلى آخر نسمة من حياته يتنازعه عاملان متناقضان يولدهما جهازه العصبي؛ وهما: اللذة والألم، والفرح والغم؛ فإن الإنسان لبلوغ حسه الغاية في النمو يشعر شعورا لا يفوقه شعور بفعل كل العوامل المحيطة به طبيعيا ومعنويا، بل هو الوحيد في جنسه الذي يقابل القنوط بالرجاء، واليأس بالأمل، ويتردد دائما في جميع أعماله بين الإحجام والإقدام؛ لشدة مرهوبة أو لذة مرغوبة، وهو عالم بموته ينظر في مستقبله، بخلاف الحيوان الذي لا يدخل في حسبانه أمر موته ولا شيء من مستقبله.
على أن الحيوانات العليا كالكلب والثور مثلا لها حس، ولها إدراك أيضا تميز به هذا الحس، وأما إذا تقهقرنا في سلم الحيوان، فنرى صفة الحس تتناقص كلما صار التركيب أبسط؛ حتى لا يعود الحيوان يحس بألم ولو قطعت أعضاؤه تقطيعا، بل يصير تقطيعه واسطة لنموه؛ إذ يصير كل جزء مقطوع منه حيوانا شبيها به، وتحت الحيوان عالم النبات الذي أنكر عليه «لينيوس» الشهير الحس بقوله: النباتات تنمو وتعيش، والحيوانات تنمو وتعيش وتحس، وذلك أشبه بما كان يذهب إليه أرسطو من أن جميع الكائنات الآلية «الحيوان والنبات» ذات نفس تختلف قواها باختلاف الكائنات، فكان يعتقد أن لنفس النبات قوتين؛ وهما: النمو والتوليد، ولنفس الحيوان أربعا؛ وهي: النمو والتوليد والحس والحركة، ولنفس الإنسان خمسا؛ وهي الأربع المتقدم ذكرها مع النفس أو العقل.
ومهما يكن من قول لينيوس وأرسطو، فإنكارنا الحس على أدنى النباتات يحسب خطأ كإنكارنا إياه على الحيوانات العليا؛ لأنه موجود في أصغر النباتات، كما أنه موجود في أكمل الحيوانات، ولكن وجوده فيها على أنواع مختلفة، وكلها لا تخرج عن الحد الذي حدد «كلود برنار» الحس به حيث قال: «الحس هو جملة التغيرات الحاصلة في الجسم الحي بواسطة المهيجات، أو تكيف في التأثير لكيفية في المؤثر.» وقد قسم «بيشات» الحس إلى ثلاثة أنواع: الحس المعلوم، وهو المستولي على الحركات الظاهرة، والحس غير المعلوم، وهو المستولي على الحركات الباطنة، والحس غير المحسوس به؛ أي الذي لا تدركه العين، وهو القائم بغير الحركات. وفي كلامنا نلحق النوع الأخير بالثاني، ونقتصر على نوعين فقط؛ وهما: الحس المعلوم، والحس غير المعلوم، مبينين إمكان استحالة الواحد إلى الآخر؛ الأمر الدال على كونهما نوعين لصفة واحدة، فنقول: إننا لا نتعلم القراءة إلا بجهد جهيد، وقل من يقول: إنه تعلم القراءة من دون إعمال النظر، ولكنا بعد ذلك نقرأ صفحة بجملتها من دون أن نفتكر فيها، فلا شك - والحالة هذه - أنه حصل استحالة في نوعي الحس، كذلك في المشي، وفي كثير من الأعمال الاعتيادية، فإنه كثيرا ما يكون الدماغ الذي هو عضو الإدراك لاهيا عنها بغيرها وهي جارية من دون علمه، وهكذا - أيضا إذا وخزنا رجل ضفدع بإبرة - مثلا - فإنها ترفع رجلها لشعورها بالألم، وتحاول التخلص من يد عدوها، فالحس هنا من النوع المعلوم.
ولكن إذا قطعنا رأسها؛ أي مركز الإدراك، فجسمها المقطوع الرأس لا يزال يرفع رجله الموخوزة، ولكنه لا يحاول الهرب، فالحس هنا من قبيل الفعل المنعكس فقط من دون علم، فبقطع الرأس في هذا الامتحان قد تحول الحس من نوع إلى آخر، وأكثر أعضائنا الباطنة تشتغل عادة على غير علم منا، فقلبنا يضرب سبعين ضربة في الدقيقة من دون أن نشعر به ومن دون إرادتنا، بل غصبا عنا أيضا، ولكن إذا فاجأنا انفعال ما؛ ففي الحال نشعر بشدة إحساسه، ونتنفس أيضا من دون علمنا، ومن دون إرادتنا، ولكن إذا انتبهنا قليلا نعلم أنا نتنفس ونتنفس كما نريد.
ومتى أكلنا فبعد ازدراد الأطعمة لا نعود نعلم بشيء مما يحدث فينا، ومع ذلك فإن حسنا لا ينقطع عن الانفعال بهذه المواد التي تتغير كيماويا وطبيعيا، ثم تدخل في الدم وتصل إلى أدق الدقائق التشريحية وتؤثر في حسها. ففي هذه الدقائق الأولية الآلية العديدة جدا، التي تتألف من مجاميعها الكائنات الحية، توجد كل الصفات الحية الجوهرية، ومن ثم الحس؛ فإن فيها مادة جوهرية تعرف بالبروتوبلاسم، وهي مادة لا شكل لها بنفسها، ذات صفات غريبة، قد يتكون منها جسم حي متحرك دنيء يحيط بالدقائق الصغيرة التي يجدها في الماء فيهضمها ويمثلها له.
والأيثير الذي هو الكاشف العظيم للحس يفقد هذه المادة شفافيتها وحركاتها، وإذا تطاير عنها رجعت لها سيولتها وصفاتها الحيوية، فهي إذن ذات حس، ولكنه من النوع الذي يعرف بالحس غير المعلوم، وكلما صعدنا في سلم الكائنات الآلية رأينا فيها نوعا من الكريات التي تزداد وضوحا شيئا فشيئا، ويختص بها الحس، ويزيد بها قوة ونموا. وتعرف هذه الكريات بالكريات العصبية، وهي منتشرة في الجسم الحي، وتؤلف في الحيوانات العليا مجاميع مركزية تعرف بالمراكز العصبية تنحصر فيها التأثيرات، ثم تنضم أيضا إلى كريات أخرى تعرف بالكريات العقلية، فهذه تعرف بها طبيعة الحس، فيصير الحس من النوع المعلوم، فأنواع الحس المختلفة جميعها من طبيعة واحدة، ويؤيد ذلك فعل المخدرات فيها، والحس هو أعم صفات الحياة، فكل ما يعيش يحس، ويمكن تخديره حيوانا كان أم نباتا، كما يتضح مما يأتي: كل يعلم أن بعض النباتات إذا لمست تنفعل، وأن السنط الحساس تنقبض أوراقه، وأن كثيرا من النباتات آكلة اللحم تنطبق على الذباب وغيره من أنواع الحيوان الذي يستقر عليها فتصطاده وتغتذي به، وليس من يجهل - أيضا - تأثير النور في بعض الأزهار التي تفتح في النهار وتذبل في الليل، ومع ذلك فلم يكن أحد يسلم بوجود الحس في النبات، حتى بين ذلك «كلود برنار»، أشهر فسيولوجي هذا العصر وفلاسفته، ببراهين لا تدع معها سبيلا للشك، فإنه بين أن المخدرات كالأيثير والكلورفورم تخدر بالسواء أرفع أشكال الحس المعلوم وأدنى أشكال الحس غير المعلوم.
فإذا خدرنا حيوانا بهذين المخدرين يفقد منه أولا الحس المعلوم، فيقع في نوم عميق، ثم إذا طال الأمر يفقد منه الحس غير المعلوم؛ إذ يمتد تأثير المخدر إلى جميع الدقائق العصبية المنتشرة في جسمه فيبطل عملها ويموت، ويحدث هذا الأمر عينه في النبات إذا خدر بالأيثير والكلوروفورم، فإننا إذا وضعنا إحدى أوراق السنط الحساس تحت فعل أحد هذين المخدرين لم تعد تتأثر باللمس، وذلك - لا شك - ناتج عن فقدها قوة الحس، لا قوة الحركة، بناء على ما نعلمه من تأثير الأيثير والكلوروفورم بالحس فقط دون الحركة.
وهكذا إذا أخذنا إحدى الحبوب السريعة التفريخ كحبة الجرجير ووضعناها على إسفنجة مشربة ماء، فلا يمر عليها أكثر من 24 ساعة حتى تنبت وينمو لها ساق وجذير، ولكن إذا راجعنا الامتحان - مع مراعاة جميع الشروط اللازمة من الأكسجين والماء والنور والحرارة ووضعنا الإسفنجة تحت قابلة فيها أيثير؛ فالحبة لا تنمو، ولكنها لا تموت، بل تنام نوما؛ بدليل أنها تعود فتفرخ متى رفعت عنها القابلة وتطاير الأيثير، فهذه الحياة الخفية الساكنة التي تتضمنها الحبة لا تستطيع أن تظهر للوجود إلا بشروط، منها خارجية، ومنها داخلية، فالشروط الخارجية هي الماء والأكسجين والحرارة، وكلها شروط طبيعية وكيماوية.
وأما الشروط الداخلية فمرجعها إلى واحد فقط موجود في نفس الحبة هو جوهر الحياة، وهو الحس، فإذا عرض له ما يوقف عمله امتنع النمو ولو كانت الشروط الأخرى مستوفاة. وهذا ليس خاصا بالنباتات وبذروها؛ لأن بيضة الدجاجة أيضا لا تستطيع التفريخ في هواء فيه أيثير.
ولا يخفى أن التعفن حاصل عن فطر صغير ميكروسكوبي يحلل المواد المتعفنة، فيغتذي ببعضها، والبعض الباقي يتحول إلى صورة جديدة، فمع كون هذا الفطر دنيئا جدا في سلم الكائنات الآلية، فالأيثير يؤثر فيه ويمنع عمله؛ فيمتنع التعفن، وعلى ذلك فمن أدنى سلم الكائنات الحية إلى أعلى ما يوجد على الأرض من نبات وحيوان توجد فيه نفس هذه الصفة الجوهرية التي تتميز بها الحياة. وهي واحدة في الذات، ولو مهما تعددت أنواعها فبدونها لا حياة، أو بالحري لا حياة ظاهرة، وبها تبدو كل حياة، وينمو النبات والحيوان. والعقل الذي يضع الإنسان في مركز يميزه عن سائر المخلوقات ليس سوى نتيجة مجتمع إحساساته المشتركة بعضها مع بعض.
هذا وإذا نظرنا إلى الحس من حيثية كونه تكيفا في التأثير لكيفية في المؤثر - كما في الفقرة الثانية من تحديد كلودبرنار - فلا نستطيع أن نقفل باب الكلام في هذا الموضوع حتى نأتي ولو بإشارة فقط على كون المادة ذات حس أيضا، بدليل أنها تتأثر حال كونها مؤثرة، وتنفعل حال كونها فاعلة، فيكون حس الأجسام الآلية مرتبطا ارتباط الجزء بكله بتلك القوة العظيمة التي بها تتجاذب الأجسام بالنسبة إلى مادتها، وبالقلب كمربع البعد بينها، أعني بها الجاذبية العامة التي هي عبارة عن حس المادة في أبسط معانيه وأعم أنواعه. ا.ه.
كل السر في المادة1
جاء في مقالتي «الحس وأنواعه»، المدرجة في الصفحة 294 من السنة الخامسة للمقتطف، ما يتحصل منه «أن المادة ذات حس»، وأن «الحياة خاصة من خصائص المادة»، وهذه الحقيقة وإن كانت من الحقائق التي لا تقبل الرد في هذه الأيام، إلا أنه لا تزال توجد طائفة من العلماء يحاولون إنكارها، وعلى ذلك جرى صاحب مقالة «الحياة والجاذبية»، المدرجة في صفحة 236 من السنة السادسة للمقتطف، في اعتراضه على ما جاء في مقالتي المذكورة من هذا القبيل، فبيانا للحقيقة يترتب علينا جميعا أن نبحث في هذه المسألة بحثا لا يتجاوز حد العلم، وإنكارا لما يذهب إليه هو، وإثباتا لما ينكره يترتب علي؛ أولا: أن أثبت أن المادة ذات حس، وثانيا: أن الحياة ليست سوى خاصة من خصائص المادة، وإذا تبين ذلك سهل علينا إلحاق هذه الخاصة بالنواميس الطبيعية، سواء كانت الجاذبية أو سواها. (1) المادة ذات حس
الحس بالشيء في أبسط معانيه وأعم أنواعه هو الانفعال به، ولا يسع صاحب الاعتراض إلا أن يوافقنا على ذلك، وإلا يترتب عليه أن ينفي الحس عن النبات والحيوانات الدنيا التي لا شعور لها ولا إدراك. وهذا لا يوافقه عليه أحد من الطبيعيين والفسيولوجيين المعاصرين.
من المعلوم أن المادة إذا لامست جسما حيا تفعل فيه فتهيج فيه الحس ، ولكن من يقول لنا: إن الجسم الحي لا يفعل في المادة ويحدث فيها تغييرا، فبلا شك أن الحياة تفعل في بعض الأوساط، وأكبر دليل على ذلك الاختمار، فإذا ترك محلول سكري كعصير العنب مثلا ملامسا للهواء، فلا يلبث أن تدب فيه ملايين من الأجسام الحية الآتية جراثيمها من الهواء، فهذه الأجسام الخميرية تنمو وتكثر بسرعة عجيبة، وتحدث في المادة السكرية تفاعلا كيماويا يتحول به السكر بعد زمن معلوم إلى حامض كربونيك وكحول، ثم الكحول إلى حامض خليك، فوجود الأجسام الحية في هذا السائل قد غير خصائصه، فلو لم يكن هذا السائل يتأثر بهذه الأجسام الحية لما كان يتحلل عند ملامسته لها، إذن هو يحس بفعلها.
ولا يصعب علينا أن نأتي بأمثال عديدة في هذا المعنى، وأن نبين أن النور والحرارة والكهربائية التي تؤثر في حسنا تؤثر في المادة، كما هو ظاهر من تأثير النور في المركبات الكيماوية المستعملة في الفوتوغرافيا، فلو لم تكن هذه المركبات تحس بالنور لما كانت تتأثر به، وكذلك إذا أجرينا مجرى من الكهربائية على قطعة حديد لين، فالحديد يتأثر بالكهربائية، أي يحس بها، وهو ظاهر من اكتسابه قابلية جديدة لم تكن له قبل ذلك، وهي اجتذابه الحديد؛ أي صيرورته مغناطيسا.
والحرارة - كما نرى كل يوم - تغير المواد تغيرا كليا فتسيلها وتبخرها، فكل هذه الظواهر تدل على أن المادة تحس بالعوامل الخارجية. وهذا ما يراد به في تحديد «كلود برنار» للحس بقوله: إنه «تكيف في التأثير لكيفية في المؤثر.» وعلى ذلك تكون الجاذبية التي تتجاذب بها الأجسام بالنسبة إلى مادتها وبالقلب كمربع البعد بينها عبارة عن حس المادة في أبسط معانيه وأعم أنواعه. (2) الحياة خاصة من خصائص المادة
الحياة عند الحيويين قائمة بمبدأ حيوي قائم بنفسه، مجرد عن المادة، غير خاضع لنواميسها، مع كونه ذا سلطان عليها يدخل المادة من حيث لا نعلم، ويخرج منها إلى حيث لا ندري. وأما عند الماديين فالحياة حالة من حالات المادة، أو كيفية من كيفياتها خاضعة لنواميسها. ولقد أحسن صاحب مقالة «الحياة والجاذبية» بقوله: «قد أجمع العلماء والفلاسفة على أن المذهب الأقوى دليلا، والأبعد عن معارضة الحقائق هو الأرجح احتمالا.» فبقي علينا أن نعرف أية الحقائق هي التي يصح أن تسمى كذلك، أتلك المقررة في الذهن أم التي قررها العلم، وأن نعرف أي دليل أقوى، أدليل الحيويين القائلين في الحياة بالقوة الحيوية المنفصلة عن المادة، أم دليل الماديين القائلين في الحياة بالقوى الطبيعية والكيماوية المتصلة بالمادة.
وأقوى دليل للحيويين على القوة الحيوية هو أن الحي لا يأتي إلا من الحي، ولا يمكن أن يتولد من المادة غير الحية بواسطة القوى الطبيعية، فعلينا إذن أن نبين أولا: أن القوة الحيوية المزعوم بها لا وجود لها، وأن الفاعل في الحياة هو القوى الطبيعية والكيماوية، وثانيا: أن التولد الذاتي ممكن. فإذا ثبت ذلك سقط على ظني الحاجز الحصين الذي يقيمه الحيويون بين الأجسام الحية والمادة، فتكون الاختلافات العارضة على المادة في الكيفية والكمية، أي في الصورة فقط لا في الماهية؛ إذ إن جميع الأجسام العضوية وغير العضوية مؤلفة من عناصر المادة، وخاضعة لنواميسها التي لا تتزعزع.
القوة الحيوية لا وجود لها: إننا لا نعلم الحياة إلا بالأجسام الحية المؤلفة من عناصر المادة، ولا يوجد في الجسم الحي عنصر غير موجود في العالم المادي، ونعلم أن ما يسمى قوة لا ينفك عن ملازمة ما يسمى مادة، فكل ما يحصل في الجسم الحي حاصل في عناصر المادة المؤلف منها ذلك الجسم بقوى المادة نفسها التي تعمل على نسق واحد في العالم العضوي والعالم غير العضوي، كما نعلم من علمي الكيميا والطبيعيات اللذين لا يمكن الاستغناء عنهما في درس الفسيولوجيا؛ فجميع الأعمال الحيوية مرجعها إلى القوى الطبيعية والكيماوية، كما هو ظاهر في التنفس والإفراز والتمثيل والهضم والامتصاص والدورة إلخ.
فإذا كانت أهم أعمال الحياة تتم بقوى كيماوية، وعلى مقتضى النواميس الطبيعية، فأية حجة تبقى للحيويين لإثبات القوة الحيوية، أو بالحري أي لزوم لها؟ وهنا أسأل الحيويين ومن تابعهم: من أين أتوا بالقوة الحيوية: أمن عالم المادة أم من غيره؟ فإن كان من الأول فكيف أمكنهم أن يجردوها عن المادة، وإن كان من غيره فكيف أمكنهم أن يدخلوها على المادة التي لا تنفصل عن قواها ولا تقبل سواها، فما هي أدلتهم العلمية على ذلك؟ وغاية علمي أن ليس لهم أدلة موجبة، بل كل أدلتهم سالبة ينقضون بها حجة الماديين، ويطلبون منهم أن يخلقوا لهم جسما حيا من جسم غير حي، فلننظر إذا كان ذلك ممكنا.
التولد الذاتي: أعظم حجة كان يحتج بها الحيويون على الماديين في التولد الذاتي هي عدم استطاعة القوى الطبيعية والكيماوية على تكوين مواد عضوية من مواد غير عضوية، مما كان يجعل حجتهم في القوة الحيوية قوية بحسب الظاهر؛ لأن عجز الوسائط التي للكيماويين عن تركيب مادة لا يؤخذ منه عدم إمكان تركيب هذه المادة طبيعيا، فإن الألماس مع كونه من المركبات التي لا خلاف في كونها طبيعية، فالكيمياء لا تزال عاجزة عن تكوينه، ولو توفرت لها كل الوسائط، ولم ينقصها سوى ذلك العامل العظيم؛ أي الزمان، الذي ألف سنة منه في عين الطبيعة نظير أمس الذي عبر لنقصها كل شيء.
ومع ذلك، فاحتجاجهم هذا لم يعد له قيمة من بعد ما بين دهلر سنة 1828 إمكان اصطناع الأوريا العضوية كيماويا من السيانوجين والنشادر غير العضويين، ومن ذلك العهد إلى الآن قد تقدمت الكيمياء جدا، وصار في إمكانها استحضار أكثر المواد العضوية من المواد غير العضوية بطريقة صناعية لا دخل للحياة فيها؛ كاستحضار الكحول والحامض الفورميك وسكر العنب والحامض الأكساليك والمواد الدهنية حتى الألبيومن والفيبرين والخوندرين من مواد غير عضوية.
فإذا كان مثل ذلك مستطاعا في المعامل الكيماوية، فما المانع من أن يستطاع أعظم منه في المعمل الذي فيه تعمل أعظم قوى الطبيعة، فيتولد الحي من عناصر المادة تولدا ذاتيا، والأجسام الحية المتولدة ذاتيا، حسب هكل، والتي يمكن مراقبتها هي الأجسام التي أطلق عليها اسم
Moneres ؛ أي الحية وحدها؛ فهي غاية في البساطة، والمعروف منها للآن سبعة أنواع بعضها يعيش في المياه العذبة، وبعضها في المياه المالحة ، وهي أم الأنواع، وكل منها مؤلف من بذرة صغيرة من مادة كربونية البيومينية من دون نسيج.
وبما أنه لا أعضاء لها ولا تقسيم عمل، بل جميع ظواهر الحياة فيها تتم بواسطة مادة واحدة من طبيعة واحدة لا شكل لها، فلا يمكن أن تكون أتت من جرثومة حية، فلا بد أن تكون نتيجة التولد الذاتي آتية من المركبات الكربونية الأشد بساطة، وما المانع من أن تكون كذلك، مع علمنا أن الكيمياء في إمكانها أن تكون مركبات كربونية من هذا القبيل؟ أليس ذلك أولى بالتصديق من الزعم بجرثومة طمسن المحمولة على نيزك من النيازك، أو غيرها من الجراثيم المزعوم بها؟ وما هي تلك الجرثومة، أو ما هي هذه الجراثيم الغريبة المصدر؟ ومن أي العناصر هي مؤلفة؟ وكيف تكونت؟ فإذا كانت مؤلفة من عناصر المادة؛ فهي تحت حكم النواميس الخاضعة لها المادة، فما الداعي - والحالة هذه - إلى الخروج عن المادة لتفسير أعمال المادة التي فيها سر كل الكائنات؟
فهذه خلاصة من براهين كثيرة تتأيد بها حجة الماديين، وتسقط بها دعوى الحيويين، ولكن لما كان المقام لا يسمح لنا باستيفاء كل البيانات التي جاءت من هذا القبيل؛ اجتزينا الآن بهذه العجالة، وفينا شديد أمل بالعود إلى هذا الموضوع كلما مكنتنا الظروف. ا.ه.
طنطا 9 أيلول 1881
الحياة1
لا أعلم كيف جاز لجناب صاحب مقالة «كشف الأستار عن الأسرار»
2
أن يتوهم بي العدول عن أن الحياة هي الجاذبية أو نوع منها، مع أني لم أعدل حتى الآن، وليس في كلامه: الحياة والجاذبية، ولا في: كشف الأستار عن الأسرار ما يوجب بي سرعة هذا الانتقال، وليس في كلامي شيء يوهمه، ولو كان فيه ذلك لالتمست له عذرا. وأما قولي من مقالتي السابقة: «وإذا تبين ذلك سهل علينا إلحاق هذه الخاصة «أي الحياة» بالجاذبية أو سواها من القوى الطبيعية.» فلا يجوز لأي كان أن يتوهم منه ذلك؛ فهو يحصر الحياة في القوى الطبيعية، وهذا لا يوجب الخروج عن الجاذبية إلى غيرها للمشاركة الكائنة بين القوى الطبيعية واستحالتها بعضها إلى بعض، ولاعتبار الجاذبية أم الباب.
فضلا عن أن قولي في المقالة المذكورة في إثبات الحس للمادة: «فتكون الجاذبية العامة إلخ، عبارة عن حس المادة إلخ.» فيه من التخصيص ما هو كاف لإزالة كل شبهة بإلحاقي الحياة بالجاذبية، فإذا كان الحس نوعا من الجاذبية؛ كانت الحياة بالضرورة - أيضا - منها، وهو - على ظني - كلام صريح لا يحتمل التأويل، ولا يصح أن يؤخذ منه معنى العدول.
وأما قوله: إن الحس لا يصح أن يكون الانفعال؛ لأن من الانفعال ما ليس حسا، وأنه لا يسلم بحس المادة حتى نبين له أن انكسار الحجر بالمطرقة هو حس؛ لأنه انفعال، فنجيبه عليه بما أجبناه به فيما سبق؛ وهو أنه إما أن يسلم بالحس في النبات وفي أدنى الحيوان أو لا، فإن كان الثاني كان اعتراضه في محله، وإنما يبقى عليه أن يفصل الحس عن الحياة ويناقض الفيزيولوجيين ونفسه أيضا، وإن كان الأول - ولا آراه إلا ميالا إليه - ترتب عليه ضرورة أن يفهم بالحس معنى الانفصال فقط؛ لأن الحس فيه هو من النوع غير المعلوم، وهو أشبه بانفعال المادة البسيط.
فما دامت المادة تنفعل فهي تحس، وعليه تبخر الماء بالحرارة، واحتراق العود بالنار، واسوداد نيترات الفضة بالنور، ونفور الجسم المكهرب من كهربائيته، وانجذابه بضدها حس - أي تأثر أي تكيف أي انفعال - فلو لم تكن المادة تحس لما كان الماء يتبخر، ولا العود يحترق، ولا الفضة تسود، ولا المكهربات تتدافع متشابهاتها، وتتجاذب متضاداتها، فانكسار الحجر إذن حس؛ لأن انكساره هو عبارة عن تفرق اتصال في مادته لانفعالها بقوة مقاومة غالبة لقوة أخرى هي موجب اتصالها، فاجتماع مادة الحجر هو لقوة كائنة في دقائقها تفعل فيها جاذبية الالتصاق، وانكساره هو لقوة تفعل في مادته ضد ذلك، كائنة في عمل المطرقة، تحس بها الدقائق المتفرقة، ولو لم تكن تحس بها وبسابقها لما اجتمعت، ولما تفرقت، ولا تكون حجر ولا انكسر.
وأما قوله في قولي: إن ما يسمى مادة لا ينفك عن ملازمة ما يسمى قوة: إنه «دعوى لا أستطيع إثباتها ، وإن جميع الأعمال الحيوية مرجعها إلى القوى الطبيعية والكيماوية»، أنه «ترد عليه شبهاته»، فمردود عليه بما يأتي؛ وهو:
أولا:
القول بأن ما يسمى مادة لا ينفك عن ملازمة ما يسمى قوة ليس بدعوى، بل حقيقة من أثبت الحقائق العلمية، وإذا جاز أن يكون هناك دعوى، فتكون بجانب من يدعي الخلاف، وكيف يصح أن تكون دعوى ومبادئ العلوم الطبيعية تعلمنا أن المادة لا تعلم إلا بالقوة، والقوة لا تعلم إلا بالمادة، وتعلمنا أكثر من ذلك؛ إذ تهمس لنا في آذاننا: أن لا تصدقوا بقوة خارج المادة، فهل له بعد ذلك أن يذهب بنا غير هذا المذهب، ويفيدنا عن قوة بلا مادة، أو مادة بلا قوة، فنسلم لما يقول، ويصفق العلم لاكتشافه طربا، فيرينا الحرارة والنور والكهربائية وجميع القوى الطبيعية والكيماوية، أصلها وفرعها، مجردة عن المادة، والمادة مجردة عن الصفات أو الخصائص أو القوى، سمها كما شئت؟
وحينئذ يسقط الخلاف بين العلماء بغلبة الحيويين، وإن لم يستطع فليسمح لنا بتكرار قولنا: إن المادة الحية إنما تكيفت بالقوة الملازمة للمادة المركبة، هي «أي المادة الحية» منها باستحالة في نفس القوة، كما حصلت الاستحالة في نفس المادة.
ثانيا:
قلنا إن جميع الأعمال الحيوية مرجعها إلى القوى الطبيعية والكيماوية، وذكرنا لتأييد ذلك أهم الأعمال الحيوية كالتنفس والإفراز والتمثيل والهضم والامتصاص والدورة إلخ، فاعترض بأن ذلك لا يدفع الشبهات التي أوردها، والتي قال: إن جوابي له لم يكن فيه رد على واحدة منها، مع أن الرد عليها متحصل من مجمل الكلام لو تدبر، ويظهر من كلامه أنه لا ينكر بأن الأعمال الحيوية تتم بقوى كيماوية، وعلى مقتضى نواميس طبيعية، وإنما يشترط لها الاشتراك بمدبر آخر غريب مجرد عنها يسميه بالقوة الحيوية هي مصدر شبهاته، وسبب هذا الاختلاف العظيم بين الأجسام الحية والجماد.
وقد فاته أن المقابلة لكي لا تكون موهومة ينبغي ألا تقتصر على أكمل الأجسام الحية، بل أن تشتمل على أبسطها من مثل الكرية الحية التي تتألف من مجاميعها الأجسام الحية كافة، والتي فيها أصل كل الحياة؛ فهذه الأجسام البسيطة إذا قوبل بينها وبين الجماد لم يكن فرق، لا في المادة، ولا في القوة، ولا في المنشأ، ولا في البناء، ولا في النمو، ولا في الشكل.
أما في المادة فلأن العناصر المؤلفة منها الأجسام الحية هي نفس العناصر الموجودة في الأجسام غير الحية، وأما في القوة فلأن جميع الأعمال الحيوية بدون استثناء تتم بالقوى التي تتم بها جميع أعمال المادة، أي بالقوى الطبيعية الكيماوية، وأما في المنشأ فلأن الأجسام الحية تتولد كما تتولد الأجسام غير الحية، أي إن الحي يأتي من غير الحي، وشاهده المنير والأميب والموناس وغيرها من المتولدات البسيطة غير الآتية من جراثيم سابقة، بل من عناصر المادة بقوة في نفس المادة، ولا يعبأ بإنكار بعضهم لهذه الأجسام طالما يوجد من يؤيدها من ذوي المكانة من أهل العلم.
وعلى فرض صحة عدم العلم بتولد ذاتي - كما يزعم - فذلك لا يجعله ممتنعا، وأما في البناء فلأن بناء الأجسام الحية الأولية بسيط جدا، فهو بالبساطة كبناء البلورات، وأما في النمو فلأن البلورات تنمو على مقتضى نواميس محدودة، والأجسام الحية تنمو على مقتضى نواميس محدودة كذلك، والفرق بينها أن النمو في البلورات يتم بإضافة دقائق جديدة متشابهة إلى سطحها الظاهر، وفي الأجسام الحية بإضافة دقائق جديدة متشابهة إلى باطنها تتداخل فيها، وهو فرق ظاهري فقط ناتج عن اختلاف في كثافة مواد الأجسام الحية والأجسام غير الحية.
وأما في الشكل فلأن الحيوانات المشععة من جنس البروتيست ذات تكوين هندسي كالبلورات محدودة بسطوح وزوايا هندسية، والمونير والأميب والموناس وغيرها من العادمة الشكل التي لا تثبت على شكل واحد، بل تتغير في كل لحظة، هي شبيهة بالأجسام غير الحية التي ليس لها شكل معين كالحجارة غير المتبلورة والرواسب إلخ.
ففيما تقدم نقض لشبهاته، وإذا بقي هناك بعض احتمال فهو منقوض بما يأتي؛ وهو أن وحدة القوة الفاعلة في المادة لا تستلزم مشابهة المادة في سائر أحوالها؛ أي إذا كانت الجاذبية أصل الحياة - وهي موجودة في الجماد - فلا يلزم أن تكون أعمالها فيه كأعمالها في الجسم الحي، فكما أن المادة الموجودة في الجسم الحي هي نفس المادة الموجودة في الجماد، مع أن الفرق بينهما جسيم، فهكذا أيضا القوة الموجودة في الجسم الحي هي نفس القوة الموجودة في الجماد، ولو بعد الفرق بينهما، وإذا صحت استحالة المادة إلى ما يجعل الفرق بينها في الجسم الحي وبينها في الجماد كليا - وهي واحدة في كليهما - فلماذا لا تصح هذه الاستحالة نفسها في نفس القوة مع وحدة أصلها؟
والاستحالة في القوى أمر معلوم، فالجاذبية تستحيل إلى حركة، والحركة إلى حرارة، والحرارة إلى كهربائية، وهي إلى نور وبالعكس، مع أن الحركة هي غير الجاذبية، والجاذبية هي غير الكهربائية في الظاهر. ولو صح ما افترضه من لزوم مشابهة الجماد والحي - لو كانت الحياة جاذبية؛ لصح لنا أيضا بالقياس عليه أن نسأله: لماذا لا يتشابه الكحول والسكر والنشا والصمغ والألماس والفحم؟
ولماذا يتبلور الذهب على مثمنات هرمية، والبزموث والأنتيمون على مسدسات، واليود والكبريت على مربعات؟ ولماذا تتحد الأجسام بعضها ببعض على نسب مختلفة؟ ولماذا يكون بينها تفاوت في الألفة؟ فإن القوى الطبيعية والكيماوية واحدة في جميعها، وفي بعضها العناصر واحدة، والمقادير أيضا واحدة، فبم يجيبنا عن هذه الفروقات الكلية الواقعية مع وحدة القوى الطبيعية؟ نجيبه نحن أيضا عن الاختلافات التي بين الأجسام الحية والجماد، فيفهم حينئذ كيف أن الحياة هي الجاذبية أو نوع منها، اللهم إلا إذا قال لنا بقوى أخرى خاصة بكل مادة منها، وبكل حالة على حكم القوة الحيوية تتصل بها وتنفصل عنها، وتجعل هذا الفرق بينها. وذلك أقرب الوجوه للتخلص، إلا أنه يكون فيه منفردا حتى بين طائفته، ويترتب عليه أن يتجشم إثباته، ودون ذلك عقبات لا تقطع.
وأما ما ذكره عن هكسلي وهكل بأنهما رأيا بطلان زعمهما - أي القول بالتولد الذاتي - وأنهما أنكرا الباتيبيوس والمونير وغيرهما من جنس البروتيست كالأميب والموناس، وصارا يعدانها بين الأوهام، فيحتاج إلى إثبات، فإنهما - على ما أعلم - لم يريا بعد بطلان مذهبهما، ولم يرجعا عنه، وسواء علينا رجعا أو لم يرجعا. والذي أعلمه علم اليقين أنهما ما برحا يؤيدان هذا المذهب، ولم ينفردا فيه وحدهما، بل أنصارهما كثيرون، وعددهم يزداد يوما عن يوم لازدياد الاكتشافات، واتضاح الحقائق العلمية.
فكيف أمكنه - والحالة هذه - أن يرد إلى مذهبه عصبة قوية صعبة جدا بمجرد كلام ليس فيه صعوبة؟ أو كيف جاز له أن يضرب فيهم مثل ذلك الفلكي الذي سقط الحباحب على زجاجة نظارته وهو - لعمر الحق - أولى بطائفة الحيويين الذين أقاموا من الأوهام حقائق. ولا أقول ذلك استخفافا، بل إنما أقول الواقع؛ فإن القوة الحيوية التي يزعمون بوجودها ليست - والحق أولى أن يقال - إلا بقية أوهام تجلببت بجلباب الغيوم، وركبت على أجنحة الرياح، وطارت وطارت في طبقات السماوات، واحتجبت فيها، وإلا فليقل لي جنابه: ما هي القوة الحيوية؟ ومن أين أتت؟ وما نسبتها إلى المادة والأجسام الحية؟ فأرجو أن يجاوبني على هذا السؤال - الذي تقدم مني، والذي سدل عليه الستر في مقالته «كشف الأستار عن الأسرار» - بكلام لا يدع معه مجالا للتأويل. ا.ه.
الحياة والجاذبية1
إن تأييد القول في كون الحياة جاذبية، وكون المادة ذات حس باعتبار الحس في أبسط ما يكون عليه؛ لا بد فيه أولا من تجريد الحياة من كل قوة فوق الطبيعة؛ لكي يمكن حصرها في القوى الطبيعية، أي في قوى المادة نفسها. وهذا هو السبب الذي جرنا في المباحثة إلى الكلام في ملازمة القوة للمادة، وفي التولد الذاتي وما يتضمنه من تكون الأنواع الحية متسلسلة عن بعضها على سبيل الاستحالة، مما تبرأ منه جناب المعترض بقوله: إن تلك مسائل لا يعنيه أمرها في هذا المقام، مع أنه يستحيل حصر الكلام في الحياة والجاذبية إلا بعد الاتفاق على نسبة الحياة إلى المادة لتعرف أعارضة هي أم لازمة، وبغير هذا الاتفاق يكون البحث في الحياة والجاذبية ضربا من العبث، فكل واحدة منها مقدمة ونتيجة معا للباقي، فلا يصح أن يعد النظر في هذه المسألة على هذه الصورة شرودا أو عدولا.
ولقد تقدم بيان ذلك فيما سبق جملة على قدر الإمكان، فقال: إنه لا يزال غير واف بالمقصود، لا في إثبات الحس للجماد، ولا في كون الحياة جاذبية، ولا في غير ذلك؛ لأن الجماد لا يصدق عليه الانفعال الحيوي؛ إذ لا يؤثر الأيثير في انفعاله، ولا تفعل الجاذبية فيه ما تفعل الحياة في الحي، ولا يخفى ما في ذلك من المؤاخذة، مع أن القوة التي تفعل في التبلور على قياس معلوم تختلف في عملها كثيرا عن سواها من القوى الطبيعية كالحرارة مثلا.
فعلى مقتضى قياسه يجب أن يكون بينهما فاصل في الطبع، فإن سلم هذا سلم له ذلك أيضا، فإذا كان الأيثير لا يظهر فعله في الجماد، فذلك لا يتخذ حجة على اختلاف طبع ما يفعل في انفعاله عن طبع ما يفعل في الأجسام الحية؛ لأن القوة تختلف ظواهرها بحسب مظاهرها، والحس نفسه غير متساو في طبقات الأجسام الحية، ولا انفعاله بالأيثير فيها على حد واحد، وقد لا يؤثر فيما كان منها بسيطا جدا، أو لا يظهر لنا تأثيره كما في المركبات الآلية.
ومن المعلوم أن من خصائص المواد الحية سرعة انحلالها، فأين انحلال بعض المواد الحيوانية من انحلال بعض المواد النباتية التي تكاد تكون في ثبوتها كالجماد؟ أيمنع ذلك النسبة الكائنة بينها؟ أو لا يعتبر هذا الفرق بينها نسبة متدارجة؟ فلماذا لا يعتبر هذا الفرق في الجماد كذلك نسبة لانحطاطه في طبقات الكوائن؟ ألعله لا يقر باستحالة المواد والقوى، فأين الفكر المركب من الحس البسيط؟ وأين الكهربائية من الحركة؟ فالقوة العامة في الكون، والتي اصطلح العلماء على تسميتها بالجاذبية - سواء أفاد هذا الاسم شيئا أو لم يفد - هي القوة التي ترجع مركبات القوى إلى بسيطها، وهي التي ترجع الحياة إليها أيضا، وقوله: إن اعتبار الانفعال في الجماد حسا بسيطا شيء جديد لا يراه موافقا لآراء العلماء، ولا منطبقا على تعاريفهم، قلت: إن بحثنا ليس فيما هم متفقون عليه، بل فيما هم مختلفون فيه، وإلا لما كان داع لذلك كله.
وأما قوله: إن العلوم غير الطبيعية تعلمنا بأن القوة قد تنفك عن المادة، فنجيبه: إن العلوم الطبيعية لا تعلمنا ذلك، وبحثنا فيها لا في تلك، قال: إن وجود قوة لا تلازم المادة ممكن، وضرب لذلك - مثلا - ملازمة الحياة للمادة إلى زمن محدود، قلنا: متى مات الجسم الحي أين تذهب القوة الحيوية: أتبقى كامنة في مواده أم تفارقها أصلا؟ أما نحن فنعلم أن المادة لا تتلاشى، والقوة لا تتلاشى كذلك، فلا شيء من مواد الجسم الحي يتلاشى من العالم المادي متى مات، ولا شيء يتلاشى من القوى التي فيه، فمواد الجسم الحي متى انحلت تتغير كثيرا في الصورة عما كانت عليه فيه، كذلك الحياة تتغير في الخاصة أيضا، فهذا ما نذهب إليه ويذهب إليه أكثر الطبيعيين، ونحن لا ننكر بأن كيفية ذلك تخفى علينا، ولكن تخفى علينا أمور أخرى كثيرة طبيعية أيضا، إلا أننا لا نستطيع إلا الإقرار بأن ما نعلمه من تكون الأنواع بالاستحالة طبقا لنواميس عامة لا تتغير برد كل شيء إلى المادة ونواميسها، التي هي هي ثابتة غير متزعزعة، تفعل مضطرة غير مختارة على قياس معلوم على حد سوى في الجماد والنبات والحيوان.
ولكن لماذا تظهر في الحي على خلاف ما تظهر في الجماد، فعلى حد قولنا: لماذا يعوم الخشب ويغرق الحديد؟ فلا يقتضي أن ينمو الجماد ويغتذي كما ينمو الحي ويغتذي، وإلا صار حيا، وهل تقتضي القوى إذا كانت من طبع واحد أن تكون أعمالها واحدة، كيف كانت؟ وأين كانت؟ ألا ترى أن ذلك يفضي بنا إلى أن يكون الكون واحدا متساويا في الصورة، حيوانا واحدا، أو نباتا واحدا، أو جمادا واحدا، والواقع هو بخلاف ذلك؟
أما ما قاله من اختلاف جواهر العناصر في التركيب بين الحي والجماد، وما فيه لنا من المسامحة الظاهرة، فيحق لنا أن نسامحه عليه لا لأن الاختلاف المذكور غير موجود، ولكن لاعتماده عليه فاصلا بين طبيعة وطبيعة، كأن الجواهر المذكورة غير مادية، أو كأنه لا يمكن الحصول على مثلها في الطبيعة، وفي المعامل الكيماوية بواسطة القوى المادية.
وأما قوله: إن كون الحياة لا تفرق في الطبع عن القوى الطبيعية والكيماوية يلزم منه تبيين إمكان تركيب العناصر والقوى تركيبا جديدا يظهر ظواهر الحياة فيها؛ فإن كان المقصد منه إمكان ذلك طبيعيا، فهو حاصل، وبيانه في المواد الطبيعية المركب منها الحي بقوة ملازمة غير مفارقة إلا مفارقة عارضية. وأما إن كان مقصده أن نخلق له بالوسائط التي لنا في بواتقنا رجلا أو فيلا؛ فهذا لا يمكن، وهو شرط غير ضروري، وأما إيضاح الأعمال الحيوية بالقوى الطبيعية المعروفة، فأظن أن البيولوجيا والفيزيولوجيا فيهما من ذلك ما يكفي للاقتناع.
وأما قوله: إن التولد الذاتي لا يمكن بحجة أنه لم يعلم إلى الآن متولد ذاتي متفق عليه، فهذا على فرض صحته لا يوجب كونه لم يمكن، وقوله: إن الباثيبيوس لم يكن إلا راسبا من كبريتات الكلس، وأن السفينة تشالنجر لم تعثر عليه، فمردود عليه، أولا: بما أظهر هكل فيه من تلونه بأحمر إذا أضيف إليه راسب الدودة، وبأصفر إذا أضيف اليود وحامض النتريك، وذلك لا يحصل في راسب بسيط من كبريتات الكلس، وثانيا: أن السفينة بولارس التي سارت بعد تشالنجر قد اكتشفت مادة بروتوبلاسمية تختلف عن الباثيبيوس بعدم وجود شيء من التجمعات الكلسية فيها، وسماها الدكتور إميل بسلس بروتوباثيبيوس، فإن كان هذا محور الخلاف - ولا أظنه كذلك - فهذه ضالتنا قد وجدت، وما ذكره من أقوال العلماء لا يستفاد منه سوى أنهم يتعجبون ولا يدركون كيف تحصل الحياة، وأي سر من الأسرار الطبيعية يدركونه، أو لا يتعجبون منه ولا يستفاد منه؟ إنهم يوافقون الحيويين فيما يقولون.
وأما قوله: إن الأجسام الأولى الحية على افتراض تولدها من الجماد بواسطة القوة الطبيعية المحضة فلا يتم لها ذلك؛ لأنها لا تقدر أن تغتذي من المواد الجمادية رأسا، فلو تأمل قليلا لوجد أن تغذية الأجسام الحية - على فرض صحة افتراضه - تحصل من المواد الآلية التي تتكون رأسا من الجماد كالألبيومن والفيبرين وغيرهما، وربما كانت هي نفسها التي تظهر فيها الحياة أولا، ويجب أن يكون كذلك، وهي بالحقيقة حلقة تولد الحي من غير الحي، فمن يرى ذلك كله ربما يحسب جسورا مقتحما إذا تنبأ بأن العلم سيصل بعد خمسين سنة، بل خمسمائة سنة إلى أن يخلق حيا يسعى.
ولكن بلا شك يحسب جبانا مرتعدا إذا كان لا يعتقد بأن الأنواع متكونة بالاستحالة لا بالجراثيم، وأن الحي متحول عن غير الحي، ويستحيل غير ذلك، فلو افترض أن الحياة مجردة عن المادة لوجب أن تكون هي العامل في تركيب محلها وتحليله، والحال أن وجودها فيه متوقف على وجوده، وهو لا يكون قبل تركيبه لتوقفه عليه، ولا بعد تحليله لانتقاضه به، فلو كانت هي العامل فيهما لكان عملها - والحالة هذه - قبل وجودها في الأول، وبعد عدمها في الثاني، وهو محال.
وأين الحكم في تجريد القوة الحيوية عن المادة، بعد علمنا أن كل ما هو كائن خاضع لنواميس أزلية في مادة هي كذلك؟ بل الحكمة في إلحاق هذه القوة بغيرها من القوى الطبيعية، والعلم أكبر شاهد على ذلك. وعليه فالقوة ملازمة للمادة، وكل قوة ملازمة للمادة طبيعية، والحياة قوة، فالحياة ملازمة للمادة، إذن الحياة قوة طبيعية، وتسميتها حيوية لا يغير شيئا من طبعها كتسمية بعض ظواهر القوى المعروفة في الطبيعة كيماوية، وعندنا أنها الجاذبية باعتبار الجاذبية أعم القوى، وباعتبار الحياة في أبسط ما تكون عليه.
هذا وإن الحياة مسألة من ضمنها مسائل لا يفي فيها النظر الإجمالي؛ لأنها تحتمل شرحا طويلا يضيق عنه ما خصص لمثلها في الجريدة، فربما ذكر الواحد شيئا وفاتته أشياء، فلا بد فيها من التفصيل والتبويب على الترتيب الذي يقتضيه الموضوع للوصول إلى إجماع معلوم، غير الإجماع على الإقرار بالقصور المشكور الذي هو أعم من أن يختص بالحياة، بحيث نتكلم أولا في الأنواع: أجرثومية هي أم تحولية؟ وفي الحياة: أقوة هي أم غير قوة؟ وفي القوة: أملازمة للمادة أم غير ملازمة؟ وفي المادة: أأزلية هي أم فانية؟ وفي الحياة كقوة ملازمة للمادة: أيصح أن تكون الجاذبية أم لا؟
فربما لم يكن بيننا خلاف في الواقع أو كان، ولكن لم يكن جوهريا، ونحن نتوهمه كذلك، إلا أن البحث هكذا ربما يطول، وأخاف أن يملنا القراء فنسأل لهم صبرا جميلا، ولنا عفوا كريما، ولكن ربما كان يطول أكثر بغير ذلك، وأنا متيقن بأن جناب الخصم في المباحثة، والصديق في المودة، يسر بذلك لما يعهد فيه من الذكاء، فموعدنا إذن إلى العدد الآتي. والسلام.
بعض ملاحظات في الحياة
(1) قابلية التهيج
من أهم مباحث الفيزيولوجيا العامة معرفة أعمال الكرية الحية؛ لأن جميع الأنسجة المؤلفة منها الأجسام الحية مرجعها إليها، وأهم أعمال الكرية الحية قابليتها للتهيج، فمعرفة نواميس قابلية التهيج هي إذن معرفة نواميس الحياة.
كل جسم حي، وكل نسيج كذلك متغير بالقوى التي من الخارج، فكل قوة خارجية تغير حال الكرية الحية تحسب مهيجة لها.
الكرية الحية موجودة على حال كيماوي وطبيعي معا، فهي على حالة معلومة من الكهربائية والحرارة والضغط والتركيب الكيماوي، فكل ما يعرض لها من الخارج ويغيرها عن إحدى هذه الحالات يحسب مهيجا لها، فجميع القوى التي من الخارج مهيجات، والمهيجات كهربائية وكيماوية وحرارية وميكانيكية، وهي إنما تنبه قابلية الكرية الحية للتهيج؛ لأنها تغير تركيبها، فكل المهيجات مغيرات للكرية، وكل المغيرات مهيجات.
وعليه فالجسم الحي غير فاعل من نفسه إلا ما يفعله في الأشياء التي من الخارج من قبيل ما تفعله هي فيه، فهو لا يقدر أن يتحرك ذاتيا، فلو فرض - وهذا الفرض ممتنع مقوله - أن جسما من طبع واحد وضع في وسط ساكن لبقي ساكنا ولم يتحرك، فحركة الأجسام الحية مفعولية لا فاعلية.
واعلم أنه لا بد من شروط معلومة لحصول التهييج؛ فالمهيجات إذا كانت بطيئة جدا وتدريجية فالجسم الحي يكاد لا يتهيج منها، مثال ذلك: إذا أجريت مجرى كهربائيا على جسم حي وقويته شيئا فشيئا فلا يحصل عنه حركة في ذلك الجسم، وهكذا إذا وضعت سائلا حامضا حامضه قليل جدا على جلد ضفدع، فيمكنك أن تزيد الحامض قليلا فقليلا حتى يبلغ درجة شديدة من الحموضة بدون فعل منعكس عنه، وقس على ذلك جميع المهيجات مهما كانت.
ولا تنفعل الأنسجة إلا لفرق بين مهيجين: لنفرض مهيجا «ب» مثلا، فإذا تبعه مهيج آخر «ب» مثله غير مفصول عنه بفترة، فالمهيج الثاني لا تحصل عنه نتيجة. وهذا ما يحصل - خاصة - في الحس المعلوم، فإننا لا ندرك إلا فرق التهيجات، وليس التهيجات نفسها، فإنا إذا وضعنا اليد على مادة ولم نحركها، فلا تمضي بضع ثوان حتى نفقد فيها الشعور باللمس، ولا نعود قادرين على الحكم بطبيعة المادة الملموسة.
فمما تقدم، لنا النتيجة الآتية: وهي كل مغير للحالة مهيج، لكنه لا يكون مهيجا إلا إذا صدم الأنسجة صدمات مختلفة بين الشدة والخفة. (2) حفظ القوة وكمونها في الأجسام الحية
كل اهتزاز في العصب، وكل عمل في الدماغ، وكل انقباض في العضل ترافقه ظواهر طبيعية وكيماوية في النسيج الذي يكون فيه العمل؛ تجوز لنا إلحاق النواميس الفيزيولوجية للأجسام الحية بالنواميس الطبيعية للجماد.
لا يخفى ما قرره العلم من مذهب الحرارة الميكانيكي، ومذهب حفظ القوة، فعلى هذين المذهبين لا تضيع قوة في الطبيعة، فالحركة ليست سوى نوع من الحرارة، فلا يوجد في الطبيعة إلا تغيرات واستحالات في القوة، فكمية القوة المنتشرة في العالم لا تتغير، ولا تتغير إلا صورها، فتظهر تارة على صفة حرارة، وتارة حركة، ومرة كهربائية، وأخرى تركيب أو تحليل كيماويين.
فقوة الأجسام الحية أصلها كيماوي، أي إنه يحصل في جوهر أنسجتها تأكسد وتركيب، وجملة ظواهر نتيجتها ليست توليد قوة، بل إظهار قوة كامنة. وهذه القوة تظهر بالحرارة والحركة، وبين مقدار الحرارة المنتشرة والحركة الحاصلة نسبة شديدة، بحيث إنه كلما كثرت الحركة قل ظهور الحرارة، وبالعكس كلما ظهرت الحرارة قلت الحركة.
ونتيجة كل هذه التراكيب والتحاليل الكيماوية هي امتصاص الأكسجين وتوليد حامض الكربونيك. وهذا التبادل الغازي ضروري جدا لحياة الأجسام الحية؛ لأنه يلزم لها حرارة كافية لتقدر على مقاومة الأشياء التي من الخارج، فبامتصاص الأكسجين تحصل لها هذه القوة الضرورية، ويلزم لها أيضا أن تتحرك، ومن ثم أن تكون قادرة على تجميع قوى كيماوية فى أنسجتها كافية لكى يحصل منها ظهور قوة عند اللزوم، وهو كذلك؛ فإن فيها قوة متجمعة كامنة عظيمة جدا، بحيث إن تنبيها خفيفا جدا يجعل فيها حركة عظيمة لا نسبة بينها وبين السبب الخفيف كوقوع الغبار على العين مثلا، فإن هذا السبب الخفيف قد يحدث جملة حركات مختلطة وطويلة: كالدمع والغضب والخوف والهرب والاحتقار والألم وغير ذلك، فلا نسبة بين هذا الانفعال العظيم وذاك التنبيه الخفيف، لولا أنه يوجد في الجسم الحي من القوى كمية وافرة متجمعة كامنة تظهر دفعة واحدة لسبب صغير.
وذلك أشبه بما يحصل في صندوق بارود؛ فإنه إن أصابته شرارة يشتعل وتنبعث منه قوة تدك الحصون، وتزلزل الجبال، فلا نسبة بين هذه القوة الكبيرة وتلك الشرارة الصغيرة، لولا أن البارود يحتوي قوة عظيمة متجمعة في مواده، فالأجسام الحية كغيرها لا تولد قوة، وإنما تظهر قوة كامنة فيها.
الحياة في أعماق المياه1
منذ نحو عشرين سنة كان يظن أن أعماق البحار خالية من كل شيء حي، وأن الأحوال الطبيعية هناك غير صالحة للحياة، وبقي هذا الاعتقاد شائعا حتى سنة 1860؛ إذ بين «ملن أدوار» الطبيعي الفرنسوي وجود الحيوان في عمق البحر على مسافة 2000 و3000 متر، وعلى ضغط أكثر من 200 ثقل من ثقل هواء الأرض، والحيوانات التي اكتشفها في هذه الأعماق كان بعضها مجهولا، والبعض الآخر لم يكن يختلف بشيء عن الأحافير.
ثم تكاثرت الأبحاث، واندفع لذلك علماء الإنكليز والأميركان وغيرهم، وتعددت الاكتشافات حتى أصبح أمر وجود الحياة في أعماق البحار الشاسعة مقررا لا خلاف فيه، وأبعد عمق صار سبره وانتشال كوائن حية منه لغاية يومنا هذا هو العمق الذي سبرته السفينة الفرنسوية المسماة لاترافاليور
2
سنة 1881، البالغ 5100 متر، إلا أن جميع الحيوانات المستخرجة من جميع هذه الأعماق الشاسعة لم تكن سوى ديدان وبلابيس وما شاكل من أنواع الحيوانات الدنيا، ولم يكن بينها شيء من السمك، وربما لم يكن السبب في ذلك عدم وجود مثل هذا الحيوان في مثل هذه الأعماق، بل كان من نوع الآلات المستعملة. ومما يقوي هذا الظن ما شاهدته السفينة المذكورة في مينا ستوبال الكائنة إلى الجنوب من ليسبون؛ حيث رأت حملتها العلمية رأي العين طائفة من الصيادين يلقون بأشباكهم إلى عمق نحو 2000 متر، ويصطادون من السمك المعروف بالسكوالوس
3
أنواعا خصوصية يقددون لحومها، ويستعملون جلودها في صقل الخشب، ويوقدون دهنها كالزيت، وكانت تصل هذه الحيوانات إلى سطح البحر بحالة يرثى لها من التهتك، فتكون مثانتها التي تعوم بها والممتلئة هواء متمددة جدا، ودافعة المعدة المنبثقة من الفم، والعين نافرة من الحجاج، والقرنية منشقة لتمدد غاز الدم، وجميع الأنسجة متفجرة لخفة الضغط الخارجي وفقد الموازنة بينه وبين الضغط الداخلي.
الحياة وأصل الأجسام الحية1
لنا على أصل الأنواع الحيوانية والنباتية قولان؛ أحدهما: أنها ظهرت على الأرض كما هي الآن مع فرق قليل فيها، وليس بينها صلة تربطها بعضها ببعض، ولم يكن بينها ذلك، والآخر هو أن عالم الحيوان وعالم النبات - بما فيهما من الأنواع والفصائل - لم يخلقا كذلك دفعة واحدة، وإنما ظهرت الحياة على الأرض أولا في صورة بسيطة، ومنها تفرعت باقي الصور المركبة بحصول تغيرات فيها مستمرة متتابعة؛ فلنبحث في هذين القولين أيهما الأقرب إلى الصواب.
ولقائل أن يقول: إن تلك مسائل فوق طاقتنا ولم يعط لنا علمها، فالأولى بنا أن نسلم بالعالم كما هو بدون أن نتعب أنفسنا بما كان أو بما سوف يكون، فنجيبه أن الإنسان لا يعرف نفسه جيدا حتى يضع حدا لمعرفته، فهو يخطئ خطأ لا مزيد عليه إذا جزم بأنه ما من أحد يستطيع في المستقبل - مهما تقدمت المعارف - أن يفهم ما لا ندركه نحن اليوم، فحق الطبيعي في البحث عن أصل الكوائن الحية إذن حق مطلق، وإذا ثبت ذلك قلنا: إن في معرفة أصل هذه الكوائن فائدة كبيرة، ولو لم يكن فيها سوى العلم فقط لكفى.
إن مقام الإنسان بالنظر إلى هذه الأجسام الحية يختلف باختلاف ما يعتقده من أصلها، فعلى القول الأول - أي على فرض كونها ثابتة - هو غير مكلف للبحث فيها إلا بقدر ما تمس الحاجة من دفع ضرر قد يتأتى له عنها، أو جلب منفعة قد تحصل له منها. وهذا لا يتعدى ما جاوره منها بحكم المساكنة العارضة، وإذا نظر فيها نظر الطبيعي كان نظره فيها مقتصرا على وصف صورة صورة، ونوع نوع، وتقرير وظيفة عضو عضو، بقطع النظر عما قد يمكن أن يكون بينها من الارتباط والمناسبة، وما يجمعها من النواميس؛ إذ لا يرجو أن ينكشف له سرها يوما ما؛ لأنه خارج عن العالم المادي، ولا أن يقف على ما يردها إلى وحدة معلومة ويربطها بناموس ما؛ لأن كل نوع هو - كما قال أجاسيز - صورة فكر خالق متميز، وليس بين فكر خالق وفكر آخر مثله من النسبة إلا مجرد الإرادة، فلا يقدر الإنسان أن يدرك النسبة بين فكر وفكر من هذه الأفكار الخالقة المتجسدة إلا إذا أدرك العقل الخالق نفسه، ولا يتم له ذلك؛ فهو يتصور الخالق كصانع «على صورته» مهتم على الدوام ببناء أبنية بين جميل وقبيح، وجليل وحقير، ويبقيها زمنا معلوما ثم يهدمها؛ لأنه يريد ذلك لا لسبب آخر، ويقيم غيرها عوضا عنها يكون أنسب لما جد في أفكاره، فكيف يرجو الإنسان مع ذلك أن يجد رابطا يربط الأنواع ببعضها، فلا حاجة له إذن أن يسألها عن أصلها ولا عن أصله، ولا أن يتعب نفسه في البحث عن الحياة؛ لأنها سر فوق أسرار الطبيعة يستحيل إدراكه.
وعلى القول الثاني، أي على فرض كون الأجسام الحية آتية عن بعضها، متسلسلة على سبيل الاستحالة المركب من البسيط، والبسيط من الأبسط، فلا يقتصر الإنسان في البحث فيها على النظر في كل نوع، أو كل صورة فقط، بل يتعداه إلى النسبة بين نوع ونوع، وصورة وصورة، وبين جميع الأجسام الحية بالنظر إلى بعضها، وإلى الأشياء التي من خارج أيضا، فيرى أولا: أن الأنواع مرتبطة ببعضها ارتباطا شديدا، وأن النواميس التي تفعل في كل منها هي نفس النواميس التي تتكون وتنمو بموجبها الأجسام الحية كافة، وثانيا: أن الاستحالة الحاصلة في الصور ناتجة عن التفاعل الحاصل بينها وبين الأشياء التي من خارج، ويرى غير ذلك أيضا؛ إذ يعلم أن كل ما يفعل في الأشياء التي من خارج يفعل بالضرورة - أيضا - فيما تفعل هي فيه، وهو يقدر أن يفعل فيها، إذن هو يقدر أن يفعل في العالم الحي المحيط به، ومن ثم في نفسه أيضا؛ لأنه جزء منه، بخلاف ما لو كان غير ذلك.
وسواء خرج الإنسان من عالم الحيوان وألف له عالما وحده أو لم يخرج، فهو يجد في ماضي هذا العالم تاريخ نفسه، وكل جسم حي له الحق أن يدعي أن له معه بعض نسبة أو قرابة؛ لأنه ليس سوى صورة متحولة عن نفس المادة المؤلف هو منها، أو عن مادة شبيهة بها، فمعرفة الحيوانات والنباتات مهما كانت حقيرة هي نفس معرفة الإنسان، ومعرفة عمل جسمه، ومعرفة التغيرات القابل لها؛ لأن نواميس تغيرات المادة هي واحدة أينما كانت، وهي فيها سر ما نسميه بالأمراض، وسر منعها وشفائها.
فالطب والتشريح والفيزيولوجيا والزوولوجيا والإمبريوجنيا والبلينتولوجيا والأنتروبولوجيا، وغيرها من العلوم الفرعية التي تبحث عن الإنسان تؤلف سجلا شديد الارتباط ببعضه، يشمله علم واحد هو علم الحياة، ويسمى البيولوجيا، وعليه فليست الأنواع تجسد أفكار خالقة متميزة، وليست أسبابها إرادة ذات مقاصد خفية، ولكنها تتكون تبعا لنواميس ثابتة غير متزعزعة تعمل دائما على قياس معلوم أشبه بالنواميس الطبيعية والكيماوية، وتؤدي نظيرها إلى نتائج متعددة، فكل صورة لها أسبابها المتممة، وتعرض لنا لا كأمر يطلب منا تقريره، بل كمسألة يطلب منا حلها. وهذا هو سبب التقدم الذي حصل في علوم الحياة منذ انتشار الكتاب الشهير لدارون في أصل الأنواع، ولولا هذا السبب لما كان حصل أو يحصل فيها شيء من ذلك.
فمذهب التسلسل - أو كما يسمونه أيضا مذهب الاستحالة - يرينا دائما الحركة والنزاع والغلبة، حيث يرينا مذهب ثبوت الأنواع أو الجراثيم السكون. فالحياة ميدان خصام قد تحصل فيه مقاتل وملاحم يشترك فيها نوع الإنسان، وتنجلي عن ظفر أنواع وملاشاة أنواع. وهذا المذهب أقدم جدا من دارون، فقد قال به علماء كثيرون قبله في أواخر القرن الماضي، وفي أوائل هذا القرن، نخص بالذكر منهم: بوفون، ولامارك، وجات، وجفروا سانتيليار، الذي حصل بينه وبين كوفيه، المخالف له في المذهب، في جمعية العلوم في باريز، جدال شاهد بفضلهما، ولم يزل ذكره حتى اليوم، إلا أن دارون منذ نحو 22 سنة قد فصله بجملته ووضعه على أساس متين، وهذا هو السبب في نسبته إليه.
ويراد به أن جميع الأجسام الحية - بما فيها من الاختلافات - حيوانية كانت أو نباتية، منقرضة كانت أو باقية، هي مشتقة من صورة واحدة أصلية، أو من صور قليلة أصلية بسيطة جدا. والأدلة على صحة هذا المذهب كثيرة، منها وأهمها: (1) اشتراك نواميس الحياة في سائر الأجسام الحية، فهي واحدة في جميعها. (2) تحول الأجسام الحية عن بعضها وإلى بعضها كما نعلم من البلينتولوجيا، فإن هذا العلم يعلمنا أنه في مدة الأدوار العديدة لتكون الأرض: كل طائفة من الحيوانات والنباتات قد مرت متحولة بالتتابع بسلسلة فصائل وأنواع متعددة جدا، فإن طائفة ذوات الفقر - مثلا - قد مرت بطائفة السمك والأمفيبيا والحشرات والطيور وذوات الثدي، وكل من هذه الأنواع قد مر أيضا بسلسلة أنواع مختلفة. (3) وجود الأعضاء الأثرية؛ فلو كانت الأجسام الحية جرثومية ومخلوق قوة خالقة تفعل لقصد معلوم؛ لما وجب أن يكون فيها أعضاء أثرية لا نفع لها، والحال أنه لا يكاد يخلو جسم حي منها، ولكن لما كانت متحولة عن بعضها؛ كان وجود هذه الأعضاء فيها لازما ضروريا؛ إذ إن وجودها وعدمه متوقفان على الأحوال الطبيعية التي هي الفاعل الأول فيهما، وهذا لا يكون دفعة واحدة، بل شيئا فشيئا، إيجادا كان أو إعداما، ولا يخفى ما صادف هذا المذهب من الصعوبات في أول انتشاره، وأما الآن فيكاد لا يختلف فيه اثنان من الطبيعيين.
حياة الجماد1
قال ثولت من رسالة في هذا الموضوع: إن القول بأن الجماد حي كالحي ليس بجديد، فقد قال كرذان في القرن السادس عشر: «إن الحجر يحيا ويمرض ويهرم ويموت.» وهو قول صحيح؛ لأن المادة متحولة ومتغيرة على الدوام فهي في تولد دائم، وموت دائم، وبعث دائم، وذلك هو الحياة، وحياة الجماد لا تفرق عن حياة الإنسان أو الحيوان أو النبات؛ إذ الكل خاضع لسنن واحدة، مندفع قسرا في تيار زوبعة لا تسكن حركتها، أولها وآخرها مكتنفان بظلمات بعضها فوق بعض.
والتولد أول أطوار تحولات المادة، وهو - بقطع النظر عن افتراضات الخيال التي قد تضل والبراهين الفلسفية التي كثيرا ما تخدع - واقع تحت نظر كل إنسان، وعام على الجماد والنبات والحيوان؛ ففي كل دقيقة، بل في كل لحظة ترى الأحياء تتكون، والجواهر الفردة تنضم، والدقائق تتركب، ولا فرق بين البسيط والمركب من حيث السنن الفاعلة بهما؛ إذ لكل فرد - مهما كان - تركيب كيماوي معلوم، وصورة معلومة، ونوع تبلور معلوم، حتى نفس تغيره ثابت إلى حد محدود، ويتم تبعا لشرائط معلومة، وإذا تغيرت إحدى هذه الشرائط تغيرت موازنته حالا، فهو متغير على الدوام، إلا أنه لا يزول من الوجود، وكما أن الحي يتأثر بالأحوال التي من خارج كذلك الجماد، وإذا كان بينهما فرق، فإنما هو في الشدة والضعف، بحيث إن أحدهما أشد انفعالا، وأسرع تأثرا، وأقل ثباتا من الآخر، ولكنهما يفعلان وينفعلان على السواء طبقا لناموس المادة الأولى، وهو التكافؤ بين الفعل والانفعال.
ولنأخذ أي جماد كان، ولنحمه بالتدريج، فللحال عند انتشار الحرارة فيه يتغير شكل تبلوره ومرونته وصلابته، وصفاته الكهربائية، حتى لونه، فإن زيدت حرارته انحل رباط دقائقه فتباعدت في جهة، وتقاربت في أخرى، إلى أن يبلغ حرارة تختلف درجتها باختلاف نوعه، فيذوب ويصير سائلا، فإن زيدت أكثر من ذلك تفرقت دقائقه، وانتقل إلى حالة هوائية ما بعدها من الحالات سوى انفصال الجوهر الفرد، وخروجه من مدار الكيمياء، ودخوله في مدار آخر تحت سنن أخرى لا نعلمها، وعلى الفلسفة الطبيعية والميكانيكيات اكتشافها وتعيينها.
وانحلال الجماد هو موته؛ لأن كل حد ينحل عنده المركب هو موت ذلك المركب، وكل موت يتبعه بعث، فالموت كالتولد نقطة على محيط دائرة لا أول لها يعرف، ولا آخر لها يوصف، والطفل أول ما يهل يبتدئ يموت، وكذلك الجماد أول ما يتكون يبتدئ يموت، فإن الفلدسباث المكون معظم الأرض ينحل إلى عناصره
2
بفعل الهواء والماء، ويبس النهار، وندى الليل، وحر الصيف، وبرد الشتاء، وسائر العوامل الميكانيكية والطبيعية والكيماوية مارا باستحالات قد لا يحس بها، ثم كل عنصر من عناصره يدخل في تركيب جديد، فإما يعود حجرا، أو يصير نباتا أو حيوانا، وفي هذا الدور لا يرى أين هو التولد الحقيقي، ولا أين هو الموت، ولا يرى سوى أطوار فقط.
ولقد أقام الأقدمون حدا فاصلا بين النبات والحيوان، وهذا الحد لا وجود له حقيقة، وأقاموا كذلك حدا بين الجماد والحي، ونحن كلما تعمقنا في درس الجمادات نرى أوجه الفرق بينها وبين الأحياء تقل، وأوجه الشبه تزيد، فالإنسان يولد من أبوين، والحيوان السافل من نظيره بالانقسام أو التبرعم؛ إذ تنفصل كرية مولودة في كرية والدة، والنبات من نبات نظيره، قالوا: وهذا يفصل عالم الحي عن عالم الجماد، إلى أن قام «جرنز» وبين أن الجماد كالحي يتولد بعضه من بعض؛ فإنه صنع محلولا وأشبعه بالبورق المثمن، وبالبورق المعين، ولا فرق بينهما إلا في اختلاف نسبة الماء الذي فيهما، وهذا المحلول إذا اعتني به يبقى صافيا، ويمكن أن تضاف إليه أجسام من مواد مختلفة بدون أن يحدث فيه حادث خصوصي، لكنه إذا وضع فيه بلورة صغيرة جدا من البورق المثمن، فللحال ترتفع حرارته، وفي لحظات قليلة يتبلور كل البورق المثمن الذائب فيه، دون البورق المعين الذي يبقى ذائبا ولا يتبلور حتى يلامس بلورة معينة من جنسه، ولا يختص ذلك بما ذكر فقط، بل يتناول كل أنواع الجماد، ويتبين منه أن كل جماد يتولد من جماد آخر نظيره.
وإذا بلغت البلورة كمالها، بحيث لا يستطيع الكيماوي ولا الطبيعي - بما لهما من الآلات والوسائط - أن يريا في تكوينها نقصانا، قيل: إن الفرد من الجماد قد بلغ أشده، ثم يتكاثر كالحي، وهو كالحي معرض للأمراض، فإذا عرض له من الأسباب الخارجية ما أضعف نموه فقد نظامه، وظهرت على زواياه خدوش القروح، وإذا زالت عنه عادية المرض عاد إلى نموه، وبرئ من قروحه، وإن لم تزل أو اشتدت فربما ترهلت قروحه، فأعضلت علته، وحصل فيه تأكسد وتركب وتحلل حتى تتغير طبيعة آخر جزء منه، ويظن أنه تلاشى وهو لم يتلاش، بل مات، وإنما مات كما يموت كل إنسان، أي كما أن جسد الإنسان البالي لا يتلاشى، وإنما ينحل إلى عناصره، كذلك الجماد لا يتلاشى؛ لأن الجوهر الفرد الذي يؤلف كلا منهما لا يتلاشى، بل ينتقل من تركيب إلى تركيب راجعا عوده على بدئه، كما يرجع الليل على النهار. ا.ه. ملخصا.
أصل الحياة1
قال «بلانشار» من مقالة في أصل الحياة في جريدة العلم الفرنسوية، بتاريخ 7 شباط سنة 1885، ما يأتي:
على أن بعض الفلاسفة يذهبون إلى أن الأرض التي كانت في البدء قاحلة وغير مسكونة إنما عرضت فيها الحياة، مما أتاها من الجراثيم من بعض الكواكب المصطدمة بها، وهو قول محتمل إلا أنه غير مقنع، ويظهر لنا أنه لا يحل المسألة، وإنما يزيدها ارتباكا، فإن لم تكن الحياة قد ظهرت على الأرض ذاتيا بفعل أحوال طبيعية وكيماوية، فيلزم أن تكون قد ظهرت ابتداء على أحد كواكب نظامنا الشمسي، وخصوم التولد الذاتي الذين يتعلقون بحبال هذا التعليل كالملجأ الأخير لهم إنما يبعدون حل هذه المسألة ولا يأتون فيها بتعليل شاف.
ولا يخفى أن الحل الطيفي الذي استطعنا بواسطته أن نعلم تركيب الكواكب الكيماوي أرانا أن هذه الكواكب متكونة من نفس المواد المتكون منها سيارنا؛ فالصوديوم والمغنيسيوم والهيدروجين والأكسجين والكربون والكلسيوم والحديد والتلوريوم والبزموث والأنتيمون والزئبق إلخ، موجودة هناك كما هي موجودة هنا. وقد علم كذلك من فحص الحجار الجوية أن هذه الأجسام تتحد هناك كما تتحد في أرضنا، فلا بد إذن من أن تكون الأحياء الأول قد تكونت فيها من مواد جامدة شبيهة بموادنا، فوالحالة هذه ما الفائدة من الزعم بأن أرضنا إنما أتتها الحياة من كوكب اصطدم بها في مروره في الفضاء ؛ إذ لا بد من الإقرار في كل الأحوال بأن التعضي قد وقع في المادة في أحد نجوم نظامنا الشمسي، فمن العبث إذن الإصرار على إنكار نشوء الحياة في الأرض. ا.ه.
والذي ارتأى أولا أن جراثيم الأجسام الحية وقعت مع الرجم هو السير وليم طمسن الإنكليزي، ومنذ مدة خطب بعضهم خطبة طويلة في تكون البرد، وقال: إنه يتكون من بخار موجود في الخلاء الذي بين الأجرام السماوية، فما أتم الخطبة حتى وقف السير وليم طمسن وقال: أظن الخطيب يمزح فيما يقول؛ لأنه لو فرضنا تكون البرد في تلك الأعالي لذاب قبل أن بلغ الأرض بملايين من الأميال. ولما جلس قام اللورد ريلي وقال: أنا أعرف رجلا ارتأى رأيا أغرب من هذا، وهو أن بذور الأحياء هبطت على الأرض من السماء، فقال السير وليم طمسن: أنا لم أحتم بصحة ذلك، بل قلت بإمكانه، وبأنه لا يمكن أن يقام دليل على فساده، ونقل ذلك العلامة «بركتر»، منشئ جريدة المعرفة، وعقب عليه قائلا: إذا صح قول السير وليم طمسن؛ فالقمر مصنوع من جبن طري؛ لأنه لا يقام دليل على فساد ذلك.
والخلاصة أن أقوال العلماء وآراءهم كثيرة، وهم أحرص الناس على انتقادها وتمحيصها، فلا يرتئي أحد منهم رأيا جديدا حتى يتصدوا لمقاومته من كل صوب، ولا يقرون رأيه بين الآراء العلمية إلا إذا لم يروا فيه للريبة مكانا.
خاتمة الكتاب أو خلاصة ما تقدم
تربي المعاشر أبناءهم
ويشقى الأنام بما ربتوا
وما الناس إلا نبات الزما
ن فليحصد القوم ما نبتوا
أبو العلاء المعري
إذا كنت قد عملت بالوصية، كما في صدر هذا الكتاب، وطالعته بكل تمعن، وكنت مع ذلك قد تمكنت من التغلب على مؤثرات تربيتك السابقة لضبط نفسك عن الاندفاع مع عوامل الهوى،
1
غير مداج أو متوار، رغبة أو رهبة، أو مصاد بدعوى الحكمة،
2
مستقلا في أحكامك،
3
غير مستهوى بكثرة تغالبك،
4
أو منقاد لقول ليس من صميم العلم،
5
ولو أن قائله عالم عظيم،
6
فالعلم مباح لك كما هو مباح لسواك،
7
منقادا في تساؤلك
8
لأحكام العقل لا لرغائب القلب،
9
وفي علمك لاختبارات الطبع لا لأحكام الوضع،
10
ناظرا إلى الحقيقة عارية عن كل ملابسة،
11
فلا يسعك إلا الاعتراف معي مضطرا بما يأتي:
أولا:
أن علوم الأقدمين علوم نظر
12
أكثر منها علوم عمل، أو فلسفتهم عقلية
13
أكثر مما هي محسوسة، مجردة أكثر مما هي مادية، متحكمة مفارقة أكثر منها لازمة ملازمة، موضوعة أكثر منها مطبوعة، روحانية أكثر منها جسمانية، كلامية
14
أكثر منها اختبارية، متمنيات مرغوبة أكثر مما هي حقائق مقررة.
ثانيا:
أن علوم الأقدمين وفلسفتهم انتقلت إلينا وبقيت زمانا طويلا كل علومنا وفلسفتنا، ولا تزال حتى اليوم روح فلسفتنا وعلومنا العقلية والأدبية والدينية.
ثالثا:
أن حالة الإنسان الاجتماعية ونظاماته وشرائعه وقوانينه، حتى استعداد عقله، وأميال نفسه، وغرضه في أبحاثه مستفادة كلها في كل أطواره في التاريخ من علومه ونظره الفلسفي في الكون.
رابعا:
لا ينكر أن العلوم الاختبارية المادية الطبيعية قد ارتقت اليوم جدا عما كانت في الماضي، ولا ينكر أن علوم الكلام قد انحطت اليوم، وقل الميل جدا إلى مباحثها، وتغير كذلك ما ترتب عليها من النظريات الاجتماعية والأدبية والدينية، ولا ينكر أيضا أن حالة الإنسان الاجتماعية في الماضي كانت أتعس جدا منها اليوم.
خامسا:
إذا قابلنا بين الشعوب والأمم والحكومات اليوم في أقطار المسكونة كافة نجد بينها تفاوتا عظيما جدا بالنظر إلى كل ذلك، ونجد أيضا أنه حيثما كانت علوم الكلام والنظريات المترتبة عليها منتشرة أكثر كانت العلوم الطبيعية منحطة، وكان الإنسان منحطا متقهقرا، وحالته الاجتماعية سيئة كذلك، والضد بالضد.
وللحكم في هذه القضايا لا نصعد إلى العصور الأولى للإنسان الأول، لننظر إليه من خلال آثاره
15
المبعثرة في طبقات الأرض كشهب متناثرة ذات لمعان ضئيل يحيط بها ضباب كثيف، ولا ننزل إلى أعماق التاريخ غير المدون الضائع في ليل من الغموض دامس،
16
حتى ولا التاريخ المدون الذي حاكته قرائح القوم الشعرية في العصور الميثولوجية
17
أم نسجته أميالهم الوحشية في العصور الحماسية،
18
بل ننظر إلى ذلك من عهد التمدن اليوناني القديم
19
الذي بنينا عليه تمدننا الحديث، بل من عهد الأديان المعتقد أنها موحاة في نظر الأمم التي تأتمر بها في أكثر المسكونة،
20
فالأقدمون كانت أكثر علومهم من موضوعات العقل الاجتهادية أكثر مما هي من معلومات الطبع التقريرية، وإنما كثرت عندهم هذه العلوم لأن قلة اختبارهم في أول الأمر لم تمكنهم في تعرف الأشياء التي حولهم والتي فيهم، من الوقوف على النسبة الحقيقية فيها، التي تربط الأسباب بالمسببات؛ لاختفائها أحيانا كثيرة في سلسلة من المتلازمات طويلة، فتبدو لهم كأنها متفاكة منفصلة حيث هي مترابطة متصلة،
21
فغلب فيهم حيال هذا الجهل القول بالأسباب الغريبة المفارقة المتحكمة، التي لا تفع في أفعالها تحت ضابط،
22
ونظروا إلى الطبيعة كلها من خلال ذلك، وجدوا في تعرف هذه الأسباب الغريبة وانتقلوا فيها من تجريد إلى تجريد حتى المبدأ،
23
وهكذا وضعوا علومهم الفلسفية ونظرياتهم في الكون والاجتماع على مراقبة ناقصة، وما بني على الناقص فهو ناقص ضرورة.
وقل من شذ منهم عن ذلك، ولو أن به ميلا إلى المحسوس أو حدسا بأن الإضافة ليست إلا في الأحكام المستفادة منه؛ لقلة المستندات الاختبارية التي كانت له لدفع الوهم، فيضطر هو نفسه أيضا إلى التعويل على علوم الكلام نفسها، فيدفع المثل بالمثل، مما كان يجعل كلامه مضطربا لا يفرق كثيرا عن كلام مخالفيه في الغرابة والإبهام؛
24
لأن جميع الفلاسفة في القديم نظروا في مباحثهم في الكون إلى السبب والغاية المجردتين لا إلى تعرف الكائن المحسوس، فلم يدركوهما، وانصرفوا بهما عن الواقع. •••
فلهذه الأسباب استتبت الغلبة في علوم الأقدمين للنظر المجرد على النظر المقيد، وللفلسفة الروحانية على الفلسفة المادية، ولعلوم الكلام على علوم الاختبار، واعتبرت - نظرا إلى موضوعها
25
ووعورتها - من العلوم العالية
26
التي استغرقت فيها العقول الراقية، واستنفدت فيها قواها، وصرفتها عن سواها، وباتت إلى عهد قريب روح العلوم الاختبارية نفسها أيضا.
27
وهذه الفلسفة وعلومها هي التي انتقلت إلينا بكتب أرسطوطاليس،
28
حتى غلب عليها اسم الفلسفة الأرسطوطاليسية، فبنينا عليها علومنا العقلية والأدبية والدينية، وسائر نظاماتنا الاجتماعية، ونظرياتها رسخت فينا حتى مازجت عندنا كل شيء، ولا يزال مفعولها يعمل في عقلنا حتى اليوم.
وإذا تحرينا العلوم الموضوعة وغاياتها المقصودة من عهد أرسطو إلى اليوم، ونظرنا إلى مباحث الذين اشتهروا بعده من العلماء والفلاسفة ظهرت لنا هذه الحقيقة بأجلي بيان، بل ذكر أسماء هذه العلوم يغني عن بيان حقيقتها، ويدلنا دلالة كافية على أنها من موضوعات العقل المنصرف إلى المباحث التجريدية، لا من معلومات الطبع المستفادة من البحث في المحسوس؛ كالعلم الإلهي، وعلم النفس، والعلم الطبيعي نفسه الذي هو مرادف العلم الإلهي عندهم في المعنى، والعلوم العقلية، والعلوم الآلية، وهي كالعلوم العقلية في التجرد، وتحت كل علم من هذه العلوم الأصلية علوم فرعية كثيرة جدا؛ كعلم المنطق، وعلم الكلام، وعلم اللاهوت، والفقه الأكبر حتى الأصغر، والعلم اللدني، وسائر علوم الأدب: كالبيان والبديع والمعاني إلخ. •••
وقد زاد شأن هذه العلوم استقلالا بعد اليونان؛ حيث كانت الإحاطة بها مقرونة بالإحاطة بسائر فروع العلوم الاختبارية أيضا، وزادت تجردا كذلك، وزادت فروعها، وتسفلت أيضا إلى المباحث السخافية المبتذلة، وشيدت لها المعاهد الخاصة،
29
حيث صارت كل هذه العلوم النظرية الكلامية الاعتقادية - الشاغلة للعقل على كثرة مشاغله، والمضيعة للوقت على قصره، والصارفة للفكر عن الاهتمام بالمحسوس المفيد، والتي لا تشيد كوخا، ولا تقلي بيضة
30
وحدها بضاعة العالم والفيلسوف والإمام، فيلبس الجبة، ويطيل الأودان، ويقرن القلنسوة، ويكور العمامة، ويتهادى في مشيته اختيالا كأنه اكتشفت سر الخلود، وما اكتشف حقيقة سوى سر الخبط والخلط، حتى إذا حاك قصة أراك الحبة قبة، أو أراد التعليل عن قضية نظرية كلامية أمكنه أن يروغ ما شاء؛ إذ هو غير مقيد في برهانه المتقلقل تقيد الرياضي والميكانيكي في برهانهما المحكم.
وإذا ألقيت نظرة إجمالية على المؤلفات الكثيرة التي تعد بمئات مئات الألوف في هذه الموضوعات المختلفة الفلسفية العقلية الأدبية، وما صرف فيها من القوى الراقية ضياعا، وما رسخ بسببها في العقل والطبائع من الميل إلى المباحث الفارغة، والانصراف بها عن العلوم النافعة، وما أحدثته في الأمور الاجتماعية من التضليل والتغرير، فلا أعلم إذا كان يجوز لك أن تكون ممتنا كثيرا لأرسطو الذي أورثنا هذه الفلسفة، ولابن سينا الذي نقلها إلينا بعده.
31
بل اقرأ فصلا من تهافت الفلاسفة للغزالي، وتهافت التهافت لابن رشد، وقل لي: ماذا تفهم؟ بل ألفت نظرك إلى المباحث العقيمة الجدلية المقامة على القضايا المنطقية، وقل لي: إن كان يجوز أن يصدر كل ذلك عن عقول سليمة.
بل حاول إن استطعت قراءة المجلدات الضخمة في مسائل سخافية استحالية وتحليلية وتحريمية، وقل لي: إذا كان ذلك يفرق كثيرا عن الهذيان!
بل انظر إلى هذا السبيل الجارف الذي طما اليوم حتى كاد يبتلع فيه كل قوى الإنسان، ولا سيما أن الاعتقاد فيه لا يزال راسخا في العقول أنه من منتجات العقل الراقية، ولم يتطرق إليه الريب بعد كما تطرق إلى العلوم الفلسفية والعقلية والدينية نفسها، أريد به سيل كتب الأدب الرائجة سوقها اليوم جدا، وهي عبارة عن أقاصيص موضوعة خيالية ارتقت مع الإنسان من حكايات ألف ليلة وليلة الطافحة بكل غريب
32
إلى الأقاصيص المتناهية اليوم بالتأنق في السبك، والدقة في الوصف، والرقة في الخيال مع بعدها في كلا الحالين عن الحقيقة، ثم انظر إلى سلطانها على العقول حتى الراقية، وقل لي: ما هي منفعتها العلمية بل الأدبية نفسها؟ أليست في جملتها تبذيرا لقوى الاجتماع وتضليلا للعقل في آن واحد؟
وينقلب ترددك في القضاء على هذه الفلسفة، وكل ما بني عليها من التعاليم الموضوعة إلى السخط إذا علمت أنها كانت السبب لوقوف الإنسان عن التقدم في علومه الصحيحة
33
قرونا عديدة، ولا يزال أثرها فينا شديدا حتى اليوم، وطيفها لا يزال حالا حتى على علومنا الطبيعية نفسها، سواء كان في تأييدها
34
أو في أسلوب بسطها، ولا نزال حتى اليوم نصعب فهمها بإدخالنا عليها كل تعقيد لفظي
35
ووصفي، مما لنا من ذلك التراث القديم، كأن الحقيقة إذا وصفت بسيطة تضحى مبتذلة.
وناهيك بما في هذا الالتزام في البحث، دون الالتجاء إلى العمل والاختبار من تعويد العقل وتربيته على حب الإغراب، ولا شيء أسهل عليه حينئذ من ركوب متن السفسطات المنطقية ، حتى في العلوم المادية نفسها، ألا ترى العلماء أنفسهم وأصحاب العقول الراقية في المسكونة قاطبة كيف أنهم يميلون حتى اليوم إلى مباحث فارغة، ويصرفون أثمن أوقاتهم في التنقيب عن هذه الآثار الأدبية القديمة،
36
ويعيرونها من الالتفات ما لو صرفوا بعضه في العلوم الصحيحة،
37
والاشتغال بما أمامهم؛ لأفادوا الاجتماع فوائد لا تحصى، ووقوهما من زيادة التضليل.
ولم يقتصر ضرر هذه الفلسفة المجردة على العلوم الصحيحة والطبيعية، بل تناول كل شيء حتى الأديان نفسها.
خذ مثالا شريعة القرآن، فإنها بين الشرائع الدينية الشريعة الوحيدة الاجتماعية العملية المستوفاة
38
التي ترمي إلى أغراض دنيوية حقيقية، بمعنى أنها لم تقتصر على الأصول الكلية الشائعة بين جميع الشرائع، بل اهتمت اهتماما خاصا بالأحكام الجزئية، فوضعت أحكام المعاملات، حتى فروض العبادات أيضا، وهي من هذه الجهة شريعة عملية مادية، حتى إن الجنة نفسها لم تخرج فيها من هذا الحكم من أشجار وأثمار وأنهار إلى آخر ما هنالك.
وطالما جرى اتباعها عليها صلحت أمور دنياهم على سواهم بالقياس إلى حالة البشر في تلك العصور؛ لأن كل شيء نسبي في هذا الوجود، حتى دخلت عليهم علوم اليونان الفلسفية ومباحثها المجردة، فمالوا بها إلى العلوم الكلامية، وأطلقوها على الدين، ووضعوا الفقه الأكبر؛ فكثرت البدع بينهم، وشرها في تمكين هذا النوع من النظر الصوفي، فانصرفوا بذلك عن غاية الدين العملية المادية إلى المرامي المجردة، والمنازع النظرية، وسائر علوم الجدل الأدبية المقامة عليها، حتى إلى ما لا علاقة له بالدين مطلقا.
39
وحل ذلك حتى على شعرهم نفسه؛ فانقلب من خطته الوصفية التقريرية، كما كان الغالب فيه في الجاهلية إلى هذه الصورة الخيالية الواهية، وتبذلوا فيه بأن صار أكثره لسان حال تهتكهم في غزلهم، ومرمى ذل نفوسهم في تزلفهم، وإغراقهم في اختلاقهم مدحا أو ذما فتقهقروا، وما زالوا متقهقرين حتى اليوم. ولو بقيت وجهتهم في مجتمعهم شريعة القرآن وحدها كما هي فيه، لما قام في وجههم حائل يصدهم عن الارتقاء، إلا ما يقوم من كل شريعة اجتماعية جمدت على الأيام،
40
غير أن الشارع الحكيم نفسه وضع لهم مخرجا من ذلك الجمود بآيات النسخ نفسها التي آتاها في قرآنه في حياته لعلهم يتدبرون.
41
وقد كان لروح هذه الفلسفة أسوأ وقع في أحوال الإنسان الاجتماعية أيضا، ولا أكلفك الوقوف في الماضي البعيد، بل انظر إلى الماضي القريب، فقد كانت أوروبا - حتى إلى عهد قريب «150 سنة» - ملك الأمراء يحكمونها بحق السيادة المطلقة، ويستولون عليها كما يستولي المالك على ملكه، ويضمونها أو يقتسمونها بالميراث أو بالزواج، وكانت السلطة تسري من فوق إلى تحت، من الأمير الذي كان كل شيء إلى الشعب، الذي لم يكن شيئا مذكورا، فلم يكن له أدنى صوت، ولم يكن شأنه في التاريخ إلا شأن المتاع يباع ويشرى، ولم يكن له حق في اشتراع الشرائع التي تحكمه، أو سن النظامات والقوانين التي تسوسه، وبالجملة لم يكن له وجود أدبي مطلقا، ومع ذلك فقد كانت تلك المبادئ الفلسفية والعلوم الكلامية، ولا سيما الدين القائم عليها، في زهوتها وإبان مجدها.
بل انظر إلى الحاضر اليوم لترى كيف أن أثر كل ذلك في شرائعنا ونظاماتنا وحكوماتنا، وسائر معاملاتنا، وغايتنا في حياتنا لا يزال يتنازعنا في مجتمعنا، ويصرفنا عن تعاوننا، ويدفعنا إلى تمزيق بعضنا بعضا، وكيف أن الحكومات لا تزال تؤيد التعاليم المبنية عليها بالقوة والمظاهرات، فتقيم لها المعاهد الخاصة
42
لتطمس بها على الشعب؛ لحفظ السيادة العمياء عليه،
43
بل انظر إلى هذا الشعب الجاهل نفسه كيف أنه ينتصر بها لسواه على نفسه، فإن حاولت أن تخرجه من جهله قام عليك كأنك امتهنته كما في هذا القول:
والمرء إن ما اعتاد متربة
فإن تصنه فهو يمتهن
انظر إلى كل ذلك لا في الشرق السخيف بأممه وحكوماته وملوكه؛ حيث غاية كل هذه العلوم تفوق كل غاية في مجتمعه،
44
بل انظر إليه في أرقى الممالك اليوم على ما هي عليه من الفرق الجسيم عما كانت عليه في الماضي عزة ومنعة، فمع معرفتها أن ارتقاءها إنما كان بهجرها كثيرا من ترهات الماضي فهي لا تتنازل عن الباقي برضاها،
45
بل انظر إلى الجنايات الكثيرة التي ترتكب كل يوم بحق الجموع والأفراد تحت طي هذه المبادئ القائمة عليها مرامي الأديان
46
والأوطان،
47
كما هو شائع بين الناس حتى الآن، ولا تستغرب بعد ذلك إذا كان المجتمع لا يصلح صلاحا تاما بها.
48 •••
وإذا نظرنا إلى الاجتماع نظرا عمليا من حيث ذلك كله لزمنا القول: إن الشرقي فيه اليوم على نوع خاص فضلة لا عمدة، وهو في علومه حتى اليوم حالم، أي إن علمه نظر أكثر منه عمل، والمدارس التي تعلمه العلوم الحديثة لا تخرج في تعليمها عن هذا الحد، فهو في الاجتماع شريك سلبي لاقتسام المنفعة، لا إيجابي للعمل لها، بل هو يقتسمها مرغما في ورودها إليه من الخارج، ويقوم في سبيلها معارضا من الداخل، وإذا استثنينا اليابان نوعا نقول: إن هذا الحكم يشمل اليوم أهل الشرق الأقصى والأدنى وسواهم ممن شاركهم في جمودهم من الأمم التي لا شأن لها اليوم في العلم العملي الراقي، ولو أطلقنا عليهم شريعة «شو»،
49
وهي كشريعة النحل في الإبقاء على النافع وقتل غير النافع،
50
لوجب أن يهلكوا عن آخرهم، بل لوجب أن يباد أكثر البشر في المعمورة كلها باعتبار هذا النافع منطبقا على مرامي أرقى فكر اليوم؛ لأن القسم العامل لصلاح المجتمع حتى في البلاد الراقية ليس إلا دون الطفيف، لولا أن هذه النظرية من حظ الاجتماع غير ممكنة؛ لأن الاجتماع مدفوع إلى الصلاح بطرق عملية أصح ليس فيها شيء من هذا التبذير. ولو أمكن العمل بهذه الشريعة لما درينا أين يكون مقام «شو» وأمثاله في هذا التنازع العنيد؛ لأن الأقوى ليس الأصلح دائما، ولا هو واحد في كل حال.
51
و«شو» يزعم، وزعمه فاسد، أنه يستند إلى مذهب دارون في بقاء الأنسب، لا بالانتخاب الطبيعي فقط، بل بالانتخاب الصناعي أيضا، ومن رأيه أن هذا الانتخاب الأخير المعقول يجب أن يكون غرض الاجتماع البشري العاقل إلى أن يبلغ الغاية من ارتقائه بخلق الإنسان الأسمى أو «السبرمان»، كما يسميه بلغة الإنكليز،
52
وشو متفق في ذلك مع الفيلسوفين الألمانيين «شوبنهور» و«نتشه »، في أن شريعة الاجتماع كشريعة الطبيعة نفسها، لا يجب أن تعرف شفقة ولا رحمة، فتقتل العاطل أو تمنع تناسله، ولا تبقي إلا على الأنسب.
53
ولكن هؤلاء الفلاسفة الثلاثة الحالمين - القانطين كما أسميهم - لم يقولوا لنا: متى يجب العمل بشريعتهم اليوم أو غدا؟ وهل كان يجب العمل بها منذ البدء؟ لأن الإنسان ليس واحدا في طبيعة هذا التفوق، ولا في علمه هو نفسه لتقديره، ولو صح العمل بها في كل العصور عن إرادة ومقدرة لغلب على الاجتماع منذ البدء التقهقر حتى يعود ويندمج ثانية في الحيوان الأعجم، ولبقي في صورة همجية هائلة لا عقل له ولا علم، كأنه الوحش الأكبر؛
54
لأن الإنسان إنما ابتدأ متوحشا جاهلا، وتفوقه حينئذ إنما كان بقوته البدنية وكثرته، بل ماذا كانت حالة الاجتماع لو عمل بها بعد ذلك أيضا، كما في عصور الحماسة في أوروبا يوم كانت صناعة الحرب أرقى الصناعات في نظر الناس، وصناعة الكتابة أحقرها، يوم كان الأمير لا يفخر إلا بالسيف، ويهزأ بالقلم، ويحتقر العلم؟ لو عمل بها حينئذ لعمل بناء على أن ذلك هو الأنسب، والأقوى كذلك، ولما كان قدر أن يعلم شيئا، أو يعمل شيئا مما نعتبره الأصلح اليوم.
على أن النظرية وإن كان يستند بها إلى مذهب دارون كليا، إلا أنها ناقصة في جزئياتها لاختلاف العوامل الداخلة فيه، مما يحصل الارتقاء فيه نتيجة عمياء، سواء كان ذلك في الطبيعة الصامتة، أو في الاجتماع العاقل، ولولا ذلك لما ارتقى الاجتماع، وعمل الارتقاء وإن كان الدافع فيه «الأنانية»، إلا أنها هي نفسها خاضعة لناموس التكافؤ والتكافل،
55
الذي بموجبه يتم الارتقاء قسرا، ولو بعد التذبذب الطويل، باعتبار أنه الأنسب والأصلح لمصلحة المجموع، لا لفئة من هذا المجموع، والاجتماع نفسه العاقل لا يستطيع التصرف بهذا النظام إلا في حدود معلومة مهما تعاظم شأنه، وقويت إرادته، إلى أن يصبح فيه ذلك بالعلم الكثير في حكم المطرد اضطرارا أيضا لا عن إرادة غالبة.
وهذا يجعل نظرية أمثال هؤلاء الفلاسفة حلما قاسيا لا حقيقة عملية، ويا ليته مع ذلك حلم لمصلحة الاجتماع، ولكنه حلم لو صح لسار به القهقري، حتى وهو في أرقى حالاته؛ لأن ارتقاء الإنسان ليس له حد، كما أن علمه ليس له حد أيضا حتى يقف عنده، ويقصر ارتقاءه وعلمه عليه دون الأخذ بسواه.
ولا يبقى عندك أدنى ريب في كل ما تقدم إذا علمت أن أوروبا نفسها لم تبتدئ تصطلح إلا منذ القرن الثامن عشر، حين بزغت شمس العلوم الطبيعية ضئيلة في أول الأمر، وأخذ ضياؤها ينتشر بين الناس، ويبدد غيوم تلك العلوم المظلمة، فتنبهت الأمم حينئذ، وأخذت تتغير في نوع أحكامها، تارة بالثورات، وتارة بالنشوء التحولي، تارة بالحروب وتارة بالسلم، ولكن الاجتماع لم يخط الخطوة الصائبة في سبيل ارتقائه الحقيقي حتى صار ارتقاؤه أسلم، إلا من بعد ما تأيد مذهب التحول الطبيعي،
56
وركز على قواعد ثابتة، وتحولت به قوى العقل من التخبط في دياجير الخيال إلى الدرس الاختباري، فارتقت حينئذ العلوم الطبيعية ارتقاء عظيما كاد يربط أطراف العالم بعضها ببعض، وسوف تجعله وطنا واحدا،
57
فغلبت حينئذ قوى التحول الارتقائي
58
في الاجتماع غلبة ظاهرة على قوى الاحتفاظ التقهقري، وصار كل عمل اليوم في قطر يرن صداه في الأقطار الأخرى بالانصياع لا بالمقاومة.
59 •••
وقد قل الميل إلى تلك المباحث العقيمة عن ذي قبل، وقل الاعتناء بالعلوم العقلية والفلسفية في المدارس الراقية،
60
مجردة كانت أم مادية، وإذا كان العلماء الطبيعيون في القرن الماضي لجئوا إلى الفلسفة أحيانا لرد غارات مقاوميهم، فإنما فعلوا ذلك اضطرارا لدفع المثل بالمثل مع انصياعهم في برهانهم إلى الدليل الحسي الراهن، وإذا كان لعلوم النظر شأن كبير في العلوم الطبيعية نفسها حتى اليوم؛ فلأن العلوم الطبيعية نفسها لا تزال في أولها، ولم تنتشر الانتشار الكافي بعد؛ ولأن مجرى الأفكار أيضا لا يزال متأثرا جدا بتلك المبادئ النظرية العريقة فيها منذ القدم،
61
ولكنه سيأتي يوم - وما هو في تاريخ الاجتماع ببعيد - تسقط فيه قيمة هذه المباحث الكلامية الفلسفية، بل ينظر إلى أصحابها كأنهم صبية يلعبون، أو مصدعون يهذون؛ إذ يصبح العلم كله علم اختبار، ويتمرن العقل عليه بالمزاولة، ولا يعود يستعذب سواه، فيقل النظر ويكثر العمل، ويقوم البرهان الرياضي والميكانيكي مقام البرهان العقلي والقياس المنطقي، ولا يعود يصدق إلا بمعجزات العلم وحده، وينتفي من العالم كل ما ليس من العلم على حد ما في هذا القول:
لو كان ربكم كمركوني
62
لما
ضقتم وضاقت بالغريق نجاة
63
رصد السفينة ثم نجى قومها
في حين لم تفد النجاة صلاة
علم عجائب هديه مشهودة
لا علم غيب تدعيه هداة
هذا الصحيح وليس ما أوحى به
سيناء أو طابور أو عرفات
وهكذا إلى أن تزول سائر العقبات التي أقامتها تلك العلوم الكلامية الفلسفية في سبيل ارتقاء الإنسان في اجتماعه، والتي أشدها هولا الحاسة الدينية
64
والحاسة الوطنية،
65
على أن هاتين الحاستين آخذتان - اليوم - في الضعف، ولو مهما تقول فيهما المتقولون، وترقق فيهما المترققون، والفضل في ذلك للعلوم الطبيعية من جهة الاختراعات الصناعية التي تربط العالم بعضه ببعض، ولعلم درس الأحياء من جهة معرفة نسبة الكائنات بعضها إلى بعض، ونسبة أفعالها إلى الطبيعة، وستزولان تماما كلما ارتقت هذه العلوم وانتشرت بين الناس، أو أنهما لا تبقيان بسطوتهما - كما هو اليوم - فتسقط حواجز الأديان،
66
وتمحى حدود الأوطان، وهكذا يصير الإنسان إنسانا حقيقيا، ويكون الإنسان اليوم الحلقة الواصلة بين الإنسان الحقيقي والحيوان. •••
والعقبة التي يقدر لها عمر أطول من سواها هي عقبة التفاهم؛ أي اللغة، ولكن العلوم الطبيعية نفسها بجعلها العالم كأنه مدينة واحدة، بتقريبه المسافات بينه، ستجعل التنازع شديدا جدا بين اللغات
67
حتى يقضى على الكثير منها، الذي لم تكن له في هذه العلوم شأن يذكر،
68
وكأن البقاء اليوم غير مقدور إلا للغات ثلاث، سيقتصر التنازع عليه في المستقبل بينها، وهي: الإنكليزية والألمانية والفرنسوية، وكان الراجح حتى الربع الأول من القرن الماضي أن يكون الفوز للفرنساوية؛ لأنها أسبق اللغات، وأمتها أسبق الأمم إلى المبادئ الاجتماعية الراقية، لولا أنه سطا عليها بعد ثورتها الشهيرة عاملان قويان، كانا كالغل في عنقها، والقيد في رجلها، وهما: تيار كتب الأدب المجونية الخيالية التي بلغت صناعتها بينهم مبلغا برزوا فيه على سائر الأمم، واستغرقت فيها أعظم العقول الراقية، وهوست بها الآخرين،
69
وتيار علم آخر هو: علم الحقوق،
70
الذي أورثه نبوليون لأمته وللعالم أيضا، بعد أن كبح ثورتها، وردها عن غايتها النبيلة، وحولها إلى مطامعه الخاصة، وصرفها إلى ما صارت إليه في زمانه وبعده. فهذان العاملان الصارفان للأفكار الراقية عن الاشتغال بالعلوم الصحيحة، سيكون ضررهما على العالم أجمع، وعلى فرنسا خاصة، أشد من ضرر النظريات الدينية، التي ما كادت تتخلص من شراكها في ثورتها الأولى، حتى وقعت من ذلك في شراك أخرى أشد وأدهى،
71
على أن كل ذلك اليوم عقبات صغيرة في سبيل ارتقاء الإنسان الكلي
72
في العمران؛ لسرعة ارتقاء العلوم الطبيعية وسهولة انتشارها. •••
وأنا أسمع من هنا غمغمة، وأرى أناسا يقومون ويقعدون، وخاصة وعامة يهزءون أو يسخطون، وربما قام منهم متحمسون تحدثهم نفوسهم لو أنهم لا يصبرون، وكلهم يقولون: كيف تريد أن تعيضنا بعلمك المقيد، وفلسفتك المحدودة عن ذلك العلم المطلق، وتلك الفلسفة التي لا تقف في سبيلها عند حد، بل تخرق حجب المادة، وتتطلع إلى ما وراء المنظور؟ بل كيف تريد أن تصرفنا بماديتك الأرضية وتصوراتك الترابية - ولو أنها حقائق - عن تلك المصاب العالية، والأفكار السامية، التي يناجي الإنسان بها أمانيه، بل آماله، بل نفسه وربه؛ إذ يصعد بالخيال إلى سماء المآل، ويراها بذلك الجمال في فراديس الآمال - ولو أن ذلك تنقل في بروج الأوهام، وتطلع إلى صروح المحال - وهل يجد العقل فيها تلك اللذة التي يجدها في هذه؟ أم هل يجد وجدانه
73
فيها تلك الراحة التي يرتاح إليها؟ وأين عظمة كتب العلماء من عظمة كتب الأنبياء؟ بل أين جمال مصنوعات تلك المشهودة من جمال موضوعات هذه الموعودة؟ بل أين مقدرة علوم أولئك المقيدة من مقدرة مواهب هؤلاء المطلقة: من غرائب عجائب العصور الميثولوجية، وما تخلف لنا عنها من مأثورات التجلي الموعود بين البروق والرعود، فنزول اللوح المسطور على ذلك الطور بين النار والنور، فذلك الوجود والصعود المخالفين لطبيعة الوجود، إلى ما سال من العجائب على لعاب العناكب؟! أم هل تقاس كتب القصاصين الطبيعيين اليوم، أم أي مؤلف آخر يؤلفه أي عالم في الهواء والماء والتراب لتقرير ما فيها من الحقائق، أو في المحراث والمعول والعمل؛ لبيان ما فيها من المنافع بكتب أساطين الأدب، ولا سيما القصاصين الفرنسويين، الذين أحرزوا قصب السبق اليوم في ميدان «الرومان»، حتى بلغ منهم التأنق في السبك، والدقة في الوصف، والرقة في التصور، أنهم وصفوا الخيال بارق من الخيال؟!
بل أين أشعار المعري التقريرية التي تكاد تنقصم صلابة من أشعار الفارض الخيالية التي تكاد تذوب رقة؟ بل أين وقعها في النفس من أشعار شكسبير الموضوعة، وما يتخللها من الخيال الرائع، الذي يستفز الطبع، ويستهوي العقل؟ بل أين جمود قولك هذا:
لازم الموت في الوجود حياة
لازمت في وجودها الموت قسرا
حاول الناس منعه وبمنع الموت
منع الحياة في الكون طرا
من لين قولك هذا:
وحكيم من يزدري بحياة
كل يوم تزداد بالطول قصرا؟
بل أين فتور كل ذلك من حرارة هذا القول الحماسي:
إذا استل منا سيد غرب سيفه
تفزعت الأفلاك والتفت الدهر؟
بل أين جفاف مثل قولك هذا العلمي:
وما الحب من أدنى فأعلى إلى الرجا
فما فوق إلا الشوق في كبد السهى
ترقى بنا حتى النهى وهو دونها
كما في نيوب الليث أو في حشى الثرى
من طلاوة مثل هذا القول الخيالي:
وهززته بقصيدة لو أنها
تليت على الصخر الأصم لأغدقا؟
بل اسأل أي فتى متعلم، أو أية فتاة متعلمة أن تقرأ فصلا في مخترعات الكهرباء قبل أن تقرأ رواية من سقط الوضع، بل اسأل عالما اليوم أن يقرأ مقالا في تحولات المادة قبل أن يقرأ كتابا في مناجاة الأرواح؛ فأنك لا تفلح، ولماذا؟
لأن لتكيفات الطبع والعقل الشأن الأول في إعداد ما فيها من القابليات، وأثر الخيال في هذه القابليات أعرق في القدم من أثر الحقائق، فالإنسان لم يعرف الحقائق في أول الأمر، وما عرف إلا الأوهام، فانطبع فيها، وتكيف لها، وشاد بنيانه العقلي والأدبي عليها ، ونسج كلامه على منوالها، فصارت نفسه لا ترتاح إلى مباحث الحقائق، ولا تلتذ بها كما تلتذ بموضوعات الخيال؛ لأن اللذة والراحة إنما هما المطابقة بين فعل الفاعل وقابلية القابل، حتى إن لغته نفسها تضيق بهذه المباحث، فليس لها فيها تلك السلاسة، ولا تلك السعة التي أحرزتها في المباحث الأدبية، وحتى إن عقله يتعب منها.
فالقول أن تصورات الأحلام يلزم الاستمساك بها لأنها تبدو لنا أجمل من تصورات الحقائق، وأنها أصح كذلك؛ لأن الوجدان يرتاح إليها، وأن ترويض العقل بمباحثها الكلامية التافهة أنفع لنا من تدريبه على البحث في المحسوس المفيد؛ لأنها أعذب له، وأسهل عليه، يقتضي منه أن يكون الخيال أصدق من الحس، وأن يكون كذلك الكذب على النفس أنفع من الصدق لها، وأن تكون الأوهام نفسها أنفع لنا من الحقائق، وأن يكون الاشتغال بالكلام الفارغ والمناقشات العقيمة أفضل من العمل،
74
وأن تكون إضاعة الوقت بتنميق المقالات الخلافية في مسائل جدلية؛ لترسيخ الميل في العقل إلى المباحث النظرية المجردة أفضل من الاشتغال باختراع آلة لجر الأثقال، وأن يكون الطيران بمناطيد الخيال في قبب الأحلام أنفع من الطيران بمناطيد الصناعة في فسيح هذا الفضاء، فكيف لا تسوء حال الإنسان الذي لا ترتاح نفسه إلا إلى ذلك في العمران؟ فلا الحياة مما يزدرى به، ولا الأفلاك تتفزع، ولا الدهر يلتفت، ولا الصخر يغدق، حتى ولا المروج نفسها تورق بمثل هذا الكلام، وما هو إلا زيادة تضليل للعقل، وتبذير في قوى الاجتماع على غير طائل، ولكن ذلك نشأ في الإنسان اضطرارا على هذه الكيفية، وسيتحول عنه اضطرارا أيضا، وما التنبيه إليه إلا حث للإسراع في هذا السبيل.
فكما أن ذلك نشأ في العقل والطبع بغلبة الغريب، والبحث في الماهيات والحقائق المجردة أولا، فهو سينقلب ضرورة متى تمكن الضد فيهما بغلبة المحسوس، والبحث في الطبائع والكيفيات، وهو آخذ اليوم بالتحول كلما أخذ نظر الإنسان المادي يتقرر فيه أكثر، وسوف يبدو له ذلك الجمال سخيفا قبيحا، وتصير الحقائق البسيطة التي لا صبر لنا اليوم على التبحر فيها، أو أننا نريدها مبهرجة،
75
مما يستحب إلينا جدا، وتجلب مطالعاتها لنا الراحة المطلوبة، واللذة المرغوبة، وتتحول لغاتنا
76
إليها، ويتغير منهجنا في بسطها من المركب المعقد إلى البسيط الصريح،
77
حينئذ يجد الإنسان في مطالعة كتب الحقائق لذة لا تدانيها اللذة التي يجدها اليوم في كتب الخيال الموضوعة، وموضوعات الأدب المصنوعة،
78
ويجد كذلك في الأرض التي صبا عنها، فأهملها فردوسا موسويا
79
حقيقيا مشهودا، فيهتم به ليجعله لنفسه كذلك، ويستعني به عن ذلك الفردوس الخيالي الضائع؛ إذ لا يعود يرى الحقيقة إلا في مثل هذا القول:
لا يصلح الإنسان مجتمعا
ما دام فيه الدين والوطن
ولم يزل من علمه خطل
يضيع فيه العقل والزمن
محلقا في الغيب مختبلا
كأنما الغيب له عطن
ويهمل الأرض وما كنزت
وإنما الأرض له سكن
وعلمه إن لم يكن عملا
يرتاض فيه العقل والبدن
يستخرج الأسرار ما خفيت
وتصدق العين بها الأذن
وشرعه إن لم يكن شرعا
وسنة الكون له سنن
يقتسم الأعمال مشتركا
لا واسن فيه ولا وسن
80
وليس فيه مرهق نهم
وليس فيه مرهق يهن
موطنه العالم أجمعه
ودينه السلام لا الفتن •••
لكنما القوم الألى ظعنوا
لغيبهم هم الألى ضغنوا
81
حبائل الدين لهم شرك
لصيد قوم دونهم غبنوا
إن لم يكونوا مركبا لهم
أخنى على أيديهم الثفن
82
ظلم عليهم منهم وبهم
من جهلهم في رأسهم رسن
والمرء إن ما اعتاد متربة
فإن تصنه فهو يمتهن
وما هو حلم ما أقول، ولكنه الحقيقة لو أنك تنظر إلى الاجتماع في الدهور الطويلة، فتقابل ما كان بما هو كائن؛ لتعلم ما سيكون، والبعض القليل الذي حصل يدل دلالة كافية على الكل المنتظر. وما الأجيال والدهور في عمر الاجتماع بالشيء الكثير.
صفحة غير معروفة