دافع جودل أيضا عن هذه النتيجة بتقديم برهان شديد الطرافة في محاولة منه لتوضيح أنه في فئة معينة من العوالم وفي ظروف فيزيائية خاصة، من الممكن القيام برحلة كاملة ذهابا وإيابا على صاروخ يأخذنا إلى أي اتجاه للزمن، سواء الماضي أو المستقبل، ويعود بنا مرة أخرى، تماما كما يتيح لنا عالمنا السفر إلى أي اتجاه في الفضاء. من الواضح أنه في «عالم جودل» الذي يسمح بالسفر عبر الزمن، لا يمكن أن يكون هناك تدفق متجرد للزمن، أو واقع متوسع ومتنامي؛ لأننا لا نستطيع السفر إلى مكان غير موجود؛ فجزيرة لابوتا الخيالية ليست وجهة محتملة للسفر في عالمنا؛ لأنها غير موجودة. وللسبب نفسه، المستقبل (وربما يزعم البعض، الماضي) ليس وجهة محتملة أيضا؛ لأنه غير موجود هو أيضا. ولكن في عالم جودل، يمكننا السفر إلى المستقبل؛ ومن ثم فإن المستقبل لا بد أن يكون موجودا. ولكن هذا يعني أن الواقع لا يمكن أن ينمو بتحول المستقبل إلى حاضر، لأن كل شيء موجود هو بالفعل جزء من الواقع.
إن كون عالمنا في الواقع هو «عالم جودل» ليس أمرا جوهريا بالنسبة لنظرة جودل للزمن، ولكن الجوهري حقا هو أن عالم جودل يختلف عن عالمنا على أقصى تقدير في طريقة توزيع المادة والحركة على النطاق الكوني؛ ولكنه غير محكوم بقوانين مختلفة للطبيعة. أما إذا ما كان ثمة تدفق متجرد للزمن أم لا، فهي مسألة تتعلق بماهية القوانين التي تطبق على عالم ما، وليست مسألة مكان وجود الجزيئات المختلفة للمادة؛ فليس فقط أن الحقائق المتعلقة بتوزيع المادة والحركة تبدو شديدة الضعف بحيث لا يمكنها أن تحدث تدفق الزمن، وإنما التأكد مما إذا كانت هذه الحقائق صحيحة؛ ومن ثم التأكد مما إذا كنا نعيش في عالم جودل أم لا؛ هو أيضا مسألة شائكة جدا. فهذا يحتاج إلى قياسات معقدة بواسطة تلسكوبات قوية، بالإضافة إلى سلاسل شديدة التعقيد من الاستنتاجات النظرية؛ ومن ثم فإن إيماني بأن الزمن يتدفق، وأن كعكة عيد الميلاد التي سأصنعها غدا لن تكون موجودة إلا غدا، سيعتمد على نتيجة هذه الملاحظات المعقدة للغاية. ولكن يبدو أن خطبا ما قد حدث هنا؛ إذ يبدو أن هذا يعني ضمنا أن تدفق الزمن من الأشياء التي يستحيل إثبات وجودها بالتجربة المباشرة. أيضا نوع الزمن الذي نستطيع ضمان وجوده بهذه الملاحظات ليس له أي صلة بالزمن كما يبدو لنا: فسواء أكان موجودا أم لا، سيظل العالم كما هو، ولن يكون من الواضح حتى السبب وراء مجرد رغبتنا في إطلاق اسم الزمن عليه، بدلا من أن نقول «الطريقة التي يتم بها توزيع المادة والحركة على نطاق كوني.»
إن قوانين الطبيعة لا يمكنها إثبات تدفق الزمن (لأنها واحدة في كون جودل وفي كوننا، والزمن لا يتدفق إلا في كون جودل)، وكذلك لا يستطيع مجرد ظهور الزمن إثباته (لأن هذا لا يتغير في العالمين)، وكذلك لا يستطيع توزيع الحركة والمادة إثباته (لأن هذه الأشياء غير موجودة بالمرة في تجربتنا المباشرة للزمن)؛ من ثم علينا أن نستنتج، وفقا لما يراه جودل، أن تدفق الزمن غير موجود؛ فوجود الزمن المتدفق والواقع المتزايد تدريجيا وهم.
إلى جانب تدفق الزمن، ثمة سمات زمنية أخرى تبدو شديدة الوضوح للوهلة الأولى، ولكن عند تأملها عن قرب ندرك أنها أبعد ما تكون عن الوضوح؛ فالزمن ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الماضي والحاضر والمستقبل. فإذا سألنا أنفسنا عما إذا كان الزمن واقعا أم لا، فعلينا أن نحدد أولا أي قسم من أقسام الزمن نعني (إذا كان ثمة قسم).
شكل 4-2: النظريات الثلاث للزمن، الحاضر مميز باللون الرمادي الفاتح .
هناك ثلاثة احتمالات كثيرا ما تثار؛ وجميعها يتفق على أن الحاضر واقع. تزعم نظرية الكون المتنامي، التي ناقشناها للتو، أن المستقبل ليس واقعا، وتفترض تدفق الزمن إلى مستقبل مفتوح. أما نظرية الكون الجامد التي تؤيدها آراء جودل المذكورة للتو، فتزعم أن أقسام الزمن الثلاثة جميعها واقعية، وأن فكرة الزمن المتدفق والواقع المتنامي ما هي إلا وهم. ثمة تشبيه قد يساعدنا في توضيح هذه الفكرة؛ فالزمن الحاضر المتدفق الذي يعد جزءا من نظرية الكون المتنامي يشبه تدفق مقطوعة موسيقية أثناء عزفها. ووضع هذه المقطوعة الموسيقية في سيمفونية كاملة؛ بحيث تكون جميع أجزائها موجودة في الوقت نفسه، يتوافق مع التمثيل الهندسي للزمن داخل الإطار الزمكاني لنظرية الكون الجامد. (سوف نناقش لاحقا الاحتمال الأخير؛ ألا وهو فلسفة الحاضر، التي ترى أن الحاضر هو الزمن الوحيد الواقعي.)
يبدو أن نظرية الكون المتنامي تعكس وجهة النظر التي يتبناها معظم الناس؛ فهم يرون أن الماضي واقعي (على الأقل إلى حد ما)، ويسلمون بأن الحاضر أيضا واقعي؛ أما المستقبل فهو غير محدد؛ ومن ثم فهو غير واقعي. ويعتمد مفهوم الواقع المستخدم هنا على تعريف جونسون وتعريف نهاية العالم للواقع؛ فالماضي والحاضر لا يمكن اختلاقهما؛ إذ إن الماضي قد ولى كاملا ولا يمكن تغييره، أما الحاضر فعلينا أن نتعامل معه كما هو، وليس كما نتمناه. أما المستقبل فهو الوحيد المفتوح غير المحدد، وهو أيضا الوحيد الذي نستطيع المشاركة في تشكيله بشكل أو بآخر وفقا لإرادتنا. والماضي أيضا واقعي وفقا لتعريف نهاية العالم؛ فحتى إذا اختفت كل العقول الواعية الآن من العالم، فسيظل الماضي هو الماضي.
فيلكس إبرتي، «النجوم والأرض: أو أفكار حول المكان والزمان والأبدية» (1854)
في حالة وجود راصد في كوكبة القنطور، فإنه لن يستطيع بالطبع رؤية النصف الشمالي للكرة الأرضية؛ لأن هذه الكوكبة لا ترتفع فوق أفقنا إطلاقا. ولكن إذا افترضنا أنه استطاع ذلك، وأن راصدا كان يقف في هذا النجم وكان يتمتع ببصر قوي مكنه من تمييز جميع التفاصيل على كوكبنا الأرضي الصغير، تضيء في وهن بضوئها المستعار، فإن هذا الراصد سيرى، في عام 1843، التنوير العام الذي في عام 1840 جعل مدن بلدنا تشرق بضوء النهار خلال ظلام الليل. أما الراصد الواقف في نجم النسر الواقع فسوف يرى ما حدث لنا منذ اثني عشر عاما؛ وهكذا، إلى أن يأتي شخص يقطن في نجم بقوة إضاءة 12، إذا تخيلنا لديه قوة بصر غير محدودة، يتأمل الأرض فيراها كما كانت منذ أربعة آلاف سنة، عند إنشاء ممفيس، وتجول الأب إبراهيم على سطح الأرض.
في النجوم الثابتة العظيمة العدد المتناثرة في أرجاء الكون، الطافية على بعد من خمسة عشر إلى عشرين مليار ميل من كوكبنا - حاسبة أي عدد مفترض من السنين في الماضي - يمكننا بلا شك أن نجد نجما يرى الحقب الماضية لكوكب الأرض وكأنها تحدث الآن، أو تتفق مع الزمن تقريبا بحيث لا يضطر الراصد للانتظار فترة طويلة لرؤية حالتها في اللحظة المطلوبة. [...]
صفحة غير معروفة