ورغم أن هذا الخلود قد يروق لك، فإن فكرة وجودك في عالم واحد من العوالم اللامعدودة المنبثقة في كل لحظة هي فكرة مثيرة للجدل. والعقبة الرئيسية هي أن نجيب عن السؤال: لماذا توجد أنفسنا في العالم الذي يقف فيه زهر النرد على رقم ستة، وليس في العالم الذي يقف فيه على رقم خمسة؟ وما الذي يحدد النفس التي ستصبح استمرارا لنا؟ في العوالم الستة كلها، نحن نملك أجسادا شبه متماثلة؛ لذا فمن المستبعد أن يكون ثمة اختلاف مادي هو الذي يحدد العالم الذي توجد فيه أنفسنا. ويبدو أن الطريقة الوحيدة لحل هذه الإشكالية هي افتراض وجود نفس غير مادية وغير مدركة بالحس. ولكن إن كانت هذه النفس موجودة حقا، فسوف يتبادر إلى أذهاننا سؤال إذا ما كان قد حدث خطب ما في مكان ما، وعلى الرغم من أننا نظن أن أنفسنا في العالم الحالي، فإنها في الحقيقة في عالم آخر انفصل عن هذا العالم منذ زمن بعيد.
بطريقة أو بأخرى، لا ينبغي أن يقلقنا مثل هذا الموقف؛ إذ يبدو أننا نرجع إلى الموقف الخاص بالعقار المدمر للنفس الذي ناقشناه سابقا. إذا كانت النفس غير المدركة بالحس قد افترضت فقط من أجل تأكيد وجود نفس مستمرة غير متغيرة عبر العوالم المنفصلة الخاصة بتفسير العوالم المتعددة، فربما نوفر على أنفسنا هموما غير مبررة حول وجود أنفسنا حقا حيث نظن أنها موجودة، عن طريق التخلي عن الافتراض الأساسي الذي ينص على أن هناك نفسا موحدة في المقام الأول.
رؤيتنا البدهية الأخيرة للنفس هي أن النفس هي محل السيطرة؛ فالنفس هي الوسيط الذي يحول المعلومات المتلقاة من العالم إلى أفعال تتم في العالم، وجوهر إدراكنا للوساطة هي القدرة على القيام بأفعال ليست ناتجة بشكل مباشر عن المدخلات الحسية؛ فتمرير الملح عندما يطلب منك ذلك على مائدة الطعام فعل مختلف كل الاختلاف في نوعه عن أخذه بنفسك، ولا يدفعك للقيام بهذا الفعل سوى رغبتك في وضع المزيد من الملح على طعامك. ومن المحير أن هذا القدر الرئيسي من الوساطة يبدو شديد الاختلاف عندما نولي انتباهنا لآلية عمل الدماغ البشري.
شكل 3-3: استكشاف طاقة الاستعداد.
عند دراسة نشاط القشرة الحركية للدماغ الذي يؤدي إلى الحركات الإرادية للعضلات، اكتشف العلماء نمطا خاصا لنشاط الخلايا العصبية الذي يسبق هذه الحركات، والذي يطلق عليه «جهد الاستعداد». في ثمانينيات القرن العشرين أجرى عالم الأعصاب بنجامين ليبت تجربة مثيرة للجدل تبحث العلاقة الوقتية بين جهد الاستعداد والقرار الواعي للقيام بالفعل. طلب العالم من الخاضعين للتجربة القيام بحركة بيدهم في أي وقت من اختيارهم أثناء مشاهدة ساعة شمسية متحركة. وتم قياس النشاط الكهربي لأدمغتهم باستخدام التخطيط الكهربائي للدماغ، وطلب من الخاضعين للدراسة ذكر مكان مؤشر الساعة وقت شعورهم «بالرغبة» في تحريك أيديهم. المثير للاهتمام أن الوقت المذكور كان يلي على الدوام بداية جهد الاستعداد في الدماغ؛ ومن ثم فإن من الصعب أن نفهم كيف تسببت الرغبة في جهد الاستعداد؛ نظرا لأن خبرة إرادة القيام بفعل معين لا تبدأ إلا بعد وقوع أحداث الدماغ التي تؤدي لوقوع الفعل. إن إرادة القيام بالفعل تتجلى آنيا في عقولنا، ومع ذلك فإن لها بادرة سببية لسنا على دراية بها. وهذه البادرة؛ أي جهد الاستعداد، غير مرئية بالنسبة لنا، ولكنها موجودة على أي حال. والرغبة في تحريك اليد لا تبدو عفوية وغير مبررة إلا لأنها الحلقة الأولى في سلسلة عمليات الدماغ التي تعبر الحدود من اللاوعي إلى الوعي. وفي هذا السياق التجريبي، ينبثق كل من الرغبة في الفعل والفعل نفسه من الدماغ، ومع ذلك فنحن نستنتج أن الرغبة هي المسئولة سببيا عن الفعل.
ويمكن ملاحظة ميل عقولنا إلى خلق مظهر الفعل المتعمد حتى عندما لا يوجد مثل هذا الفعل في سياقات أخرى أيضا. ومجرد حقيقة أن فعلا ما يبدو لنا ناتجا بشكل كامل عن نيتنا ورغبتنا في القيام به لا تضمن أن هذا هو الواقع؛ فالنشاط الدماغي يمكن حثه أو تثبيطه عن طريق تحفيز الدماغ بواسطة حقول مغناطيسية عبر الجمجمة من خلال تقنية يطلق عليها التحفيز المغناطيسي للدماغ. عندئذ من الممكن إجراء تجربة يطلب فيها من الخاضعين للتجربة اختيار رفع الإصبع السبابة اليمنى أو اليسرى بعد صدور إشارة معينة. وفي الوقت نفسه يتم تشغيل التحفيز المغناطيسي للمنطقة الحركية من الدماغ. من المرجح أن يرفع الخاضعون للدراسة الإصبع السبابة الخاصة باليد المعاكسة للمنطقة المحفزة من المخ دون أن يدركوا أن اختيارهم تأثر بقوة خارجة عن أدمغتهم.
في الحالات الأكثر تطرفا، يمكن أن يختلق العقل الرغبة في القيام بفعل ما، في حين أن هذه الرغبة في الحقيقة لا تنبع منا على الإطلاق. في تجربة طريفة طلب من الخاضعين للدراسة اختيار صور على شاشة كمبيوتر باستخدام فأرة الكمبيوتر التي يشاركونها مع شريك، على نمط لوحة الويجا. وفي هذه التجربة يستمع المشاركون إلى كلمات عبر سماعات رأس، هذه الكلمات بعضها له علاقة بالكائنات التي تظهر على الشاشة. وفي الواقع، يكون الشريك أحد القائمين على التجربة ويقوم دون ملاحظة الشخص الخاضع للتجربة بتحريك الفأرة ببطء نحو صورة ما. فإذا تم توجيه فأرة الشخص الخاضع للتجربة نحو صورة وردة، واستمعوا إلى كلمة «وردة» قبل ذلك بثوان في سماعات الرأس، فإنه يقول إنه شعر بأن فعل تحريك الفأرة في اتجاه الوردة كان مقصودا. إن فكرة الوردة تم تحفيزها بواسطة أسباب خارجية محضة (سماعات الرأس)، ومع ذلك فإن ورودها على الذهن يؤيد فكرة أن العقل قد تسبب في هذا الفعل عن قصد. يختلق العقل رواية «أنا فعلت هذا» التي نظن بعد ذلك أنها رواية حقيقية لا تقبل الشك، رغم افتقادها لأي أساس واقعي.
إن الشك في فكرة أن النفس محل السيطرة لا ينبع من الدراسة العميقة لكيفية عمل عقولنا فحسب، وإنما ينبع أيضا من اتجاه غير متوقع على نحو ما: علم الميمات. وعلم الميمات، وهو علم دراسة التطور الثقافي، هو علم مستنبط من علم الوراثة، أو دراسة الجينات. يدرس علم الوراثة كيفية تطور الحياة البيولوجية بواسطة نسخ الجينات، أما علم الميمات فيدرس كيفية فهم تطور حياة العقل بواسطة نسخ الوحدة الأساسية للتطور الثقافي (الميم). يمكن أن يكون الميم أساسيا مثل فكرة غلي الطعام قبل تناوله، أو نقل الأحمال بواسطة العربات، كما يمكن أن يكون هيكلا شديد التعقيد من الأفكار مثل لعبة «جو» وهندسة إقليدس وقواعد اللغة السنسكريتية والرسم المنظوري وبالطبع دراسة الميمات نفسها. الجينات كائنات غير مرئية يحملها العائل (الكائن الحي المالك للجين) ولها تأثيرات معينة (النمط الظاهري للكائن الحي)، وبالمثل الميمات أيضا كائنات غير مرئية، تحملها عقول الأفراد، ولها تأثيرات معينة تحدد ما يحدث لهذه العقول على المدى البعيد.
ثمة فكرة مؤثرة في النظرية التطورية الحديثة؛ ألا وهي أن الجينات، وليس الكائنات الحية، هي التي تحتل مقعد القيادة؛ فبدلا من النظر إلى الجينات باعتبارها الأداة التي يستخدمها الكائن الحي للتكاثر، ومن ثم تحسن كفاءته، تدعونا النظرية التطورية الحديثة إلى النظر إلى الجينات باعتبارها نواسخ أنانية تجبر الكائن الحي على زيادة فرصة نسخها؛ ففي حين أنه غالبا ما يكون المفيد للجين مفيدا للعائل (على سبيل المثال، الجين المورث للمناعة ضد أي مرض عادي ستكون له فرص أكبر للنسخ؛ نظرا لأن الشخص الحامل له من المرجح أن يعيش فترة أطول)، فإنه من الممكن حدوث تعارضات خطيرة.
تحدث هذه التعارضات بشكل خاص في حالة جينات الانحراف الانعزالي التي لا تؤثر على سمات مثل الشعر أو لون البشرة، وإنما تؤثر على عملية الانقسام الخلوي التي تقسم الكروموسومات وتنتج خلايا الحيوانات المنوية والبويضات. تحرص جينات الانحراف الانعزالي على أن يتم تمثيلها بشكل زائد في خلايا الحيوانات المنوية والبويضات؛ ومن ثم تزيد فرص نسخها بشكل هائل. وهي تفعل ذلك حتى إذا كانت عواقبها على أفراد الكائن الحي أو على مجتمع الكائنات الحية كارثية. ومن الأمثلة الشهيرة على ذلك، الجين
صفحة غير معروفة