من جانبي، حين أدخل في عمق ما أسميه نفسي، دائما ما أتعثر في إدراك حسي ما، من حر أو برد، نور أو ظل، حب أو كره، ألم أو متعة. ولم أتمكن قط من أن أجد نفسي في أي لحظة دون إدراك حسي، ولم أتمكن قط من ملاحظة أي شيء سوى المدركات الحسية.
مع ذلك، ربما كان الحديث عن النفس لا ينطوي ضمنا على وجوب وجود شيء ثابت يمر عبر الحياة كلها مثلما يمر الخيط عبر عقد اللؤلؤ؛ فالحبل متماسك رغم عدم وجود خيط واحد طويل يمر عبر الحبل كله، بل إن كل ما هنالك مجموعة متتابعة من الخيوط المتداخلة الأقصر. بالمثل، ربما تكون النفس عبارة عن سلسلة متصلة من الأحداث العقلية المتداخلة. ورغم أن هذه الرؤية قد تكون معقولة بشكل أو بآخر، فهي تعني أيضا أننا لا نكون موجودين بالكامل مطلقا. نحن عادة ما نفترض أننا عندما نفكر في شيء أو نتخذ قرارا، فإننا نفعل ذلك بالنفس كلها وليس بجزء معين منها. إلا أن النفس، وفقا لفكرة الحبل، لا تكون حاضرة بالكامل مطلقا في أي لحظة من لحظات حياتنا، تماما مثلما لا يكون الحبل المفرود على مسطرة موجودا بالكامل عند أي علامة من العلامات المرسومة على المسطرة. وفي حين أن هذا صحيح في نموذج عقد اللؤلؤ (نظرا لأن الخيط لا يكون موجودا بالكامل في أي حبة لؤلؤ)، فعلى الأقل حين تجمع كل أحداث حياتك معا فإن هناك جزءا من هذا الكل يشكل نفسك. ولكن في حالة نموذج الحبل، ليس هذا مطروحا.
يبدو أننا لا نملك إلا الاختيار البغيض بين نفس مستمرة بعيدة كل البعد عما يشكلنا بحيث نلحظ غيابها بالكاد حين تختفي، ونفس تتكون فعلا من مكونات حياتنا العقلية، ولكنها لا تشتمل على جزء ثابت يمكننا أن نتوحد معه.
هناك سمة من سمات النفس أهم بكثير من السمتين اللتين تحدثنا عنهما حتى الآن؛ وهي حقيقة أن النفس هي مركز عالمنا . وهنا بالتحديد تتجمع كل الخيوط. من السهل التغاضي عن أهمية هذه الحقيقة، ولكننا إذا ما فكرنا في المهمة التي يضطلع الدماغ بتحقيقها لتجميع صورة العالم الموحد، سيتضح لنا أنها مهمة شديدة الصعوبة والتعقيد؛ فالمعلومات المختلفة التي تتوارد إلينا من حواس البصر والسمع واللمس والشم والتذوق تتم معالجتها في مناطق مختلفة من الدماغ وتنتقل لمسافات مختلفة (فدغدغة القدم تنتقل لمسافة أطول من دغدغة الصدر للوصول إلى الدماغ) وتصل إلى الدماغ في أوقات مختلفة. وتتنوع سرعة معالجة الأنواع المختلفة من المعلومات الحسية؛ فالمحفزات البصرية تستغرق وقتا أطول في المعالجة من غيرها. (يبلغ الفرق حوالي 40 ملي ثانية. على سبيل المقارنة: قول مقطع واحد يستغرق حوالي 200 ملي ثانية.) من ناحية أخرى، ينتقل الضوء بسرعة أكبر بكثير من الصوت، فإذا ما جمعنا هذه السرعات المختلفة معا نجد أن المشاهد والأصوات الآتية من بعد حوالي عشرة أمتار تصل إلى الوعي في الوقت نفسه تقريبا؛ أما بالنسبة لأي شيء أقرب أو أبعد فإن المعلومات الخاصة بالمشاهدة والصوت تصل في أوقات مختلفة. وفي هذه الحالات، فإن التزامن الظاهري لسماع الصوت ورؤية حركة شفاه المتحدث، مثلا، يجب أن يقوم الدماغ بتنظيمه.
بالإضافة إلى ذلك، لا بد من تنقيح المعلومات الحسية الواردة إلينا من حيث أهميتها بسرعة شديدة (إذ يجب التعامل مع زئير الأسد من خلفنا بسرعة أكبر من التعامل مع زقزقة العصفور الواقف أمامنا). وفي الوقت نفسه، لا بد من معالجة الأفكار والذكريات. ومع ذلك، ينبثق من هذه الفوضى من البيانات الواردة إلينا طوال الوقت عالم متماسك وموحد. (ويبدو أن هذا العالم لا ينهار إلا في حالة اضطرابات نفسية معينة أو عند استخدام عقاقير الهلوسة.)
وقد أكد رينيه ديكارت أن مثل هذا التوحيد ضروري من أجل اكتساب النفس (أو الروح) معرفة العالم، وقال في معرض حديثه عن الغدة الصنوبرية؛ جسم صغير يشبه قمع الصنوبر ويقع بالقرب من مركز الدماغ:
في رأيي أن هذه الغدة هي المقر الرئيسي للروح، والمكان الذي تتشكل فيه كل أفكارنا؛ ويرجع السبب في إيماني بذلك إلى أنني لا أجد أي جزء من الدماغ، فيما عدا هذا الجزء، غير مزدوج. وبما أننا نرى شيئا واحدا بعينين اثنتين، ونسمع صوتا واحدا بأذنين اثنتين، وباختصار لم يكن لدينا قط أكثر من فكرة واحدة في كل مرة، فلا بد أن يكون الوضع هو أن الانطباعات التي ترد إلينا عن طريق العينين أو الأذنين، وغيرهما، تتوحد بعضها مع بعض في جزء معين من الجسم قبل أن تتأملها الروح. ومن المستحيل أن نجد مثل هذا المكان في الرأس إلا في مكان واحد هو هذه الغدة.
في بعض الأحيان توصف هذه الصورة للعقل بمصطلح «المسرح الديكارتي»؛ فمثلما يجلس المشاهد أمام المسرح، ترى النفس منظر العالم مجمعا من نطاق واسع من البيانات الحسية. ولو لم يتم توحيد هذه البيانات قبل رؤية النفس لها، لكانت النفس سترتبك، تماما كما سيرتبك مشاهد المسرح إذا ما ظهر على المسرح ممثلان يدعيان القيام بدور هاملت. وفي حين أن هذه الصورة طبيعية ومقنعة إلى أقصى حد، فإنها تواجه الكثير من الصعوبات؛ ومن ثم ينبغي أن نحترس من الاقتناع بها. فلتفكر في الحالة التالية الشديدة البساطة.
إذا سلطنا بقعة ضوء على الركن الأيسر السفلي من شاشة، ثم أتبعنا ذلك بتسليط بقعة ضوء على الركن الأيمن العلوي من الشاشة نفسها، فسيبدو لنا كأن هناك نقطة واحدة تتحرك عبر القطر الممتد من يسار الشاشة إلى يمينها. (تم اكتشاف هذه الظاهرة التي يطلق عليها ظاهرة بيتا من قبل علماء النفس في بداية القرن العشرين.) فإذا جعلنا بقعتي الضوء بلونين مختلفين، على سبيل المثال، نجعل بقعة الضوء المسلطة على الركن الأيسر السفلي تأخذ لونا أحمر وتلك المسلطة على الركن الأيمن العلوي تأخذ لونا أخضر، فسوف نلاحظ بقعة واحدة تتحرك وتغير لونها عندما تصل إلى منتصف القطر. وهذه نتيجة شديدة الغرابة. فإذا كان دماغنا يملأ الفراغات على طول القطر لصالح النفس الجالسة في المسرح الديكارتي، فكيف يعرف أن لون البقعة لا بد أن يتغير من الأحمر إلى الأخضر في منتصف القطر؛ أي «قبل» مشاهدة البقعة الخضراء أساسا؟ من غير المرجح أن يرجع السبب في هذا للقدرات التنبئية التي تتيح لنا أن نعرف ما سيحدث قبل أن يحدث بالفعل. ثمة طريقة أخرى لتفسير ظاهرة بيتا؛ وهي افتراض أن تجربتنا كلها يتم عرضها في المسرح الديكارتي بعد مهلة زمنية بسيطة؛ فالدماغ لا يمرر معلومات البقعة الحمراء فور استطاعته ذلك، وإنما يحتفظ بها لفترة بسيطة. وبمجرد معالجة البقعة الخضراء، يتم جمع بقعتي الضوء في حكاية إدراكية حسية واحدة تنطوي على وجود بقعة ضوء واحدة تغير لونها أثناء تحركها. بعد ذلك يتم عرض هذه النسخة المعدلة في مسرح الوعي.
للأسف الشديد، لا يتلاءم تفسير المهلة الزمنية هذا مع دليلنا بخصوص طريقة عمل الإدراك الحسي. وعلى الرغم من أن الاستجابات الواعية ليست في سرعة الأفعال المنعكسة، فنحن نعرف أن الاستجابات الواعية يمكن أن تحدث بسرعة قريبة جدا من أدنى الأزمنة الممكنة فيزيائيا. وبمجرد أن نجمع الوقت الذي تستغرقه المعلومات للانتقال إلى الدماغ ووقت تحضير الرد، لن يكون هناك وقت كاف لتلك المهلة الزمنية التي ربما تفسر ظاهرة بيتا.
صفحة غير معروفة