في ربيع عام 1982، كانت سيدة أمريكية تقف في انتظار الحافلة في شارع «باريجيان أفينيو دي لا جراند أرمي». وشعرت وهي تركب الحافلة أن عقلها يكاد ينفجر:
شعرت أن ما كنت أطلق عليه في السابق «أنا» يجبر على الخروج من موقعه المعتاد داخلي إلى موقع جديد خلفي بمسافة قدم تقريبا إلى يسار رأسي. كنت «أنا» الآن خلف جسدي أنظر للعالم دون استعمال عيني جسدي.
هذه التجربة المربكة لنفسها المنقولة من مكانها أصبحت أكثر إرباكا عندما اختفت تماما بعد عدة أيام؛ ونتيجة لذلك:
اختفت الأنا الشخصية، ومع ذلك هناك جسم وعقل موجودان دون أي شخص يحتلهما. [...] لم يعد العقل والجسد والمشاعر تشير إلى أي شخص؛ لم يكن هناك من يفكر ولا من يشعر، ولا من يدرك، ومع ذلك استمر العقل والجسد والعواطف في أداء وظائفها دون تقصير؛ فمن الواضح أنها لم تكن في حاجة ل «أنا» لتستمر في فعل ما كانت تفعله دائما. [...] كانت أغرب اللحظات تحدث عند أي إشارة لاسمي، إذا اضطررت لكتابة شيك أو التوقيع على خطاب، كنت أحدق في الحروف على الورقة ويغرق العقل في خضم الحيرة؛ إذ لم يكن الاسم يشير إلى أي شخص.
وقضت الأربعة عشر عاما التالية من حياتها (قبل أن تموت بورم في المخ عن عمر يناهز الثانية والأربعين) دون أن تستعيد إحساسها بذاتها الشخصية.
وهذه الحالة ليست فريدة من نوعها؛ ففي عام 1880، وصف طبيب الأمراض العصبية الفرنسي جول كوتار اضطرابا عصبيا نفسيا - يعرف الآن باسم متلازمة كوتار - يؤدي بالمريض في أخف صوره إلى اعتقاد أنه ميت بالفعل أو لإنكار وجود جسده. وفي الحالات الأكثر خطورة، قد ينكر المريض وجوده تماما، وغالبا ما يتوقف تماما عن استخدام كلمة «أنا».
مثل هذه الحالات النفسية من الصعب جدا علينا أن نفهمها؛ إذ يندر أن نجد أشياء أقرب للفهم واليقين من وجودنا كأشخاص؛ فنحن قد نشكك في وجود العالم من حولنا، متسائلين: هل الشجرة الموجودة في الحديقة والبستاني الذي يجز العشب موجودان بالفعل؟ ولكن كيف نشكك في وجودنا نحن؟ أليس الشك دليلا على وجود من يشك؛ كيف لنا أن نشك إذن إن لم نكن موجودين؟ وإن لم نكن نحن من نشك، إذن من الذي يشك؟
الأشخاص واقع بالتأكيد وفقا لتعريف فيلم ماتريكس؛ فنحن بالتأكيد ندرك وجود الشخص أو، على الأحرى، النفس، بل إننا ندركها بإصرار أكبر من أي شيء آخر؛ فكوب الشاي الذي نستخدمه يوميا لمدة عشر دقائق على مدار خمس سنوات لن ندرك وجوده إلا حوالي 300 ساعة إجمالا، ولكننا ندرك وجود أنفسنا طوال ساعات حياة يقظتنا، بل إن إدراكنا لأنفسنا يستمر إلى أحلامنا. وعلى الرغم من أننا قد نكون مخطئين حيال معظم الأشياء التي نعتقدها عندما نحلم، فإننا لا يمكن أن نكون مخطئين في أننا نحن (وليس أشخاص آخرون) من نحلم بهذا الحلم.
لسنا فقط ندرك أنفسنا كأشخاص، ولكن معظم الأشخاص الآخرين (بعيدا عن بعض من يعانون من حالات نفسية خاصة مثل المرضى المذكورين أعلاه) يدركون أنفسهم بالطريقة عينها أيضا؛ ومن ثم فإن الأشخاص واقع وفقا لتعريف رواية «1984». علاوة على ذلك، يبدو أننا لا نستطيع أن نقرر الشخص الذي نريد أن نكونه؛ فعلى الرغم من أن لنا تأثيرا محدودا على تشكيل أنفسنا، يبدو في النهاية أن كثيرا من الجسد والجينات والمعتقدات والذكريات والميول النفسية، التي نعتبر أنها تشكلنا، ليس لنا قدرة على التحكم فيها. وبما أنه من الواضح أننا لا نملك القدرة على تشكيل أنفسنا، إذن فنحن واقع وفقا لتعريف جونسون أيضا.
رأينا سابقا أن التعريف الأكثر تماسكا لكلمة «الواقع» هو تعريف نهاية العالم وتعريف السلحفاة. من الواضح أن الأشخاص لا يمكن أن يكونوا من الواقع وفقا لتعريف نهاية العالم؛ نظرا لأنهم لن يكونوا جزءا من العالم من دوننا؛ فمن الصعب أن نفهم عالما يوجد فيه الأشخاص أو الأنفس، حتى وإن لم نكن نحن موجودين، ولكن من الأكثر معقولية ومنطقية أن نعتبر الأشخاص واقع وفقا لتعريف السلحفاة؛ إذ يبدو أن الأشخاص يشكلون جزءا لا يمكن اختزاله من العالم كما نعرفه. على المستوى الأساسي، ليست هناك أجزاء من المادة وحسب، ولكن أيضا نظم توفر رؤية لأجزاء المادة؛ أي نظم لها وجهة نظر. وحتى الآن لم ننجح في اختزالها لشيء أكثر جوهرية، وبما أنها غير قابلة للاختزال على هذا النحو، إذن فهي يقينا تشكل قطعة من أثاث العالم على المستوى الجوهري؛ ومن ثم فإن الأشخاص قد يكونون واقع بأحد أهم معاني الكلمة.
صفحة غير معروفة