على سبيل المثال، الموجات الصوتية التي ينتجها الكمبيوتر لا تتطلب وسطا موجيا؛ لأنها لا توجد إلا في ذاكرة الكمبيوتر. ولكن هذا لا يمنعها من أن تؤدي وظيفتها تماما كما تؤدي أي موجات صوتية أخرى نعرفها وظيفتها.
إن وجهة النظر القائلة بأن العالم المادي هو نتاج عملية حسابية عملاقة تعيدنا مرة أخرى لفكرة الكون باعتباره محاكاة حاسوبية، هذه المرة ليس عن طريق المحاكاة التاريخية، ولكن كمحاولة لفهم سلوك العالم في مناطق صغيرة جدا وخلال فترات زمنية قصيرة جدا. والفكرة الأساسية هي أننا على الرغم من أننا لا نستطيع مطلقا رؤية طريقة برمجة الكمبيوتر (لأن الكود، كقطعة من المعلومات المجردة، ليس شيئا ماديا)، فإننا ما زلنا نستطيع استنتاج طريقة برمجته، بالفحص الدقيق لتفاصيل البرنامج الذي يشغله. وعالم الكائنات المادية الذي نراه حولنا، بالإضافة إلى المكان والزمان الذي يبدو أن هذه الكائنات موجودة فيهما، كل هذا ما هو إلا نتاج هذا البرنامج؛ فهذه الأشياء غير موجودة على مستوى الكود الحاسوبي، تماما كما أنه لا يوجد شيء على شكل سهم في مكان ما في مركز الكمبيوتر يستجيب لمؤشر فأرتك.
على الرغم من أن برنامج الكمبيوتر يمكن أن يتجلى لنا في عدة تمثيلات مادية، مثل نص يظهر على الشاشة أو في مطبوعة أو يخزن في القرص الصلب للكمبيوتر، فإنه ليس في حد ذاته شيئا ماديا، وإنما كائن مجرد، شيء موجود بالضرورة، وهو غير مصنوع ولا يمكن تغييره ويقع خارج المكان والزمان. إذا كان عالم المادة الذي ندركه هو نتيجة تشغيل مثل هذا البرنامج، إذن فالكائنات المادية لا تشكل جزءا من الطبيعة الأساسية للواقع وفقا لتعريف السلحفاة. وإذا ما توغلنا في التفاصيل، فسندرك أن العالم المادي لا يتكون من أشياء مادية دقيقة، وإنما من نوع خاص من الكائنات الرياضية.
بطبيعة الحال، الرؤية الأفلاطونية للكائنات الرياضية من الصعب ألا تثير الجدل، والكثيرون يجدون من الصعب الوصول إلى فكرة واضحة إزاء كيفية وجود الكائنات خارج الزمان والمكان، وكيفية معرفتنا بها، وكيفية إنتاجها لأشياء لها بالفعل مواقع مكانية وزمانية (زمكانية). ولكننا إذا ما أخذنا الكائنات الرياضية بوصفها عقلية في طبيعتها، فسينتهي بنا الأمر بسيناريو ربما يكون أغرب من ذلك الذي يتخيله الأفلاطونيون؛ وذلك نظرا لأن مؤيدي الاختزال العلمي يقومون باختزال العقل البشري إلى نشاط الدماغ البشري، ثم يختزلون الدماغ إلى مجموعة من الخلايا المتشابكة، والخلايا إلى جزيئات، والجزيئات إلى ذرات، والذرات إلى جسيمات دون ذرية، والجسيمات دون الذرية إلى مجموعات من النقاط الزمكانية، ومجموعات النقاط الزمكانية إلى مجموعات الأرقام، ومجموعات الأرقام إلى مجموعات خالصة. ولكن في نهاية هذا الاختزال، يبدو أننا الآن نرجع مرة أخرى إلى نقطة البداية؛ الكيانات العقلية.
تنتج دائرة مماثلة عند أي محاولة لتوحيد علم النفس والأحياء والفيزياء إذا ما افترضنا أن الوعي يلعب دورا في اختزال الدالة الموجية؛ فلعمل ذلك، سنحاول اختزال العقل البشري إلى نشاط الجهاز العصبي المركزي، الذي يعد بنية بيولوجية. ويمكن تفسير البنى البيولوجية من منظور العمليات الكيميائية، المتمثلة في تفاعل الكربون والنيتروجين والأكسجين، وما إلى ذلك، والتي يمكن تحليلها إلى مكونات أصغر، إلى أن نصل إلى المستوى الذي تصبح فيه الظواهر الكمية ملائمة تجريبيا، ولكي نفسر هذه الظواهر، يبدو أننا يجب أن نستعين بظاهرة من أعلى السلسلة؛ ألا وهي العقل البشري.
في كلتا الحالتين، ما ظننا أننا يجب أن نعتبره الأكثر جوهرية اتضح أنه ينطوي في الأساس على ما كنا نعتبره الأقل جوهرية، وفي بحثنا عن الأساسيات، سرنا في دائرة؛ ابتداء من العقل، عبر مكونات عديدة من المادة، وانتهاء بالعقل مرة أخرى؛ ولكن هذا يعني أنه «لا شيء» جوهري تماما، كما أنه ليس هناك محطة أولى أو أخيرة على خط مترو أنفاق لندن الدائري. والدرس الذي نتعلمه من سيناريو الاختزال الموضح أعلاه هو أنه إما أن الأشياء الجوهرية ليست مادية، وإما أنه لا شيء جوهري على الإطلاق.
كما أننا نواجه دائرة أخرى مماثلة في طريقة فهم ميكانيكا الكم الأكثر تأثيرا، والمختلفة عما وضحنا أعلاه، والتي يطلق عليها «تفسير كوبنهاجن» (سميت بهذا الاسم تيمنا بالمدينة التي يقع فيها معهد مفسرها الأساسي نيلز بور). فعلى عكس تفسير ويجنر المستند إلى الوعي، هذا التفسير لا يفترض انهيار الدالة الموجية بسبب رصد العقل الواعي لنتيجة تجربة ما، وإنما يحدث عندما يتفاعل النظام المراد قياسه (الإلكترون في مثالنا) مع جهاز القياس (الشاشة الفسفورية)؛ لهذا السبب، ينبغي أن نفترض أن الشاشة الفسفورية ستتصرف بطريقة تقليدية، ولن يصدر عنها السلوك الكمي الخاص الذي صدر عن الإلكترون.
بالنسبة لتفسير كوبنهاجن، الأشياء والعمليات التي يمكن وصفها في ضوء المفاهيم التقليدية المألوفة هي أساس أي تفسير مادي. ومن هنا تأتي الدائرة المفرغة؛ فنحن نحلل العالم اليومي للأحذية والسفن وشمع الختم (الذي يتضمن الشاشات الفسفورية والكاميرات وأجهزة الكمبيوتر وأعيننا وكل الأشياء المادية متوسطة الحجم) في ضوء مكونات أصغر فأصغر؛ جزيئات وذرات وجسيمات دون ذرية، إلى أن نتعامل مع أجزاء شديدة الصغر بحيث يصبح من الممكن أن تصفها التأثيرات الكمية. ولكن عندما يصل الأمر إلى التعبير عما تعنيه حقا نظرياتنا عن التأثيرات الكمية، فإننا لا نؤسسها على بعض البنى الأكثر دقة على المستوى المجهري، وكما أشار بور نفسه: «ليس هناك عالم كمي، هناك فقط وصف فيزيائي كمي.» وما يعنيه هذا هو أنه بدلا من الانخراط في التفاصيل، فإننا نقفز مرة أخرى إلى مستوى نظريات الإدراك الحسي الملموسة، أو أجهزة القياس الماكروفيزيائية - مثل الشاشات الفسفورية والكاميرات - زاعمين أن نظريتنا تدور حول القراءات التي تصل إليها هذه الأجهزة. مرة أخرى، لسنا في موضع يسمح لنا بقول إن العالم الميكروفيزيائي للكائنات الكمية جوهري (نظرا لأن الحديث عنها ليس سوى جسر تصوري يتيح لنا الربط بين عبارات معينة تصف ما يحدث وبين أجهزة القياس العادية الحجم)، ولا بقول إن العالم الماكروفيزيائي لأجهزة القياس جوهري (نظرا لأن هذه الأجهزة ليست هي أنفسها سوى تكتلات كبيرة من الكائنات الكمية)؛ ومن ثم فإن لدينا دائرة من الأشياء التي يعتمد بعضها على بعض، رغم أنه - على عكس الحالة السابقة - لم تعد الكائنات العقلية جزءا من هذه الدائرة؛ نتيجة لذلك، لا يمكن اعتبار الشاشة الفسفورية المتوسطة الحجم ولا الإلكترون الدقيق واقعيين وفقا لتعريف السلحفاة؛ لأن كليهما لا يشكلان طبقة من الكائنات بحيث يعتمد عليهما كل شيء، رغم أنهما لا يعتمدان على شيء.
الفصل الثالث
هل الأشخاص واقع؟
صفحة غير معروفة