كانت هذه الجريدة عجيبة حقا، غير مرتبة ولا مبوبة ولا مزينة باسم مخلوق من هؤلاء الذين يدعون بالمحررين، أو المديرين، أو المالكين. ولأمر ما كانت أيضا خلوا من عنوان المطبعة التي تخرجها (أو تزفها)، فهي تطبع على الجلاتين. صحيفة ساذجة، بسيطة الزي والشكل، متواضعة، محتشمة، كحسناء فقيرة لكن تحترم ذاتها. صحيفة «شاذة» وكفى!
ما كان أعجلني عهدذاك إلى قراءة الصحيفة الحرام، تأتيني أعدادها كالمواد الخطرة المهربة، وإلى قراءتها من الألف حتى الياء! كان يجيئني بها فتى ولا كالفتيان؛ ليس تفارق الابتسامة ثغره، والعزيمة الصادقة نظره، يناولني «بضاعته» من كوة الباب، ثم ينصرف معجلا، ولم يكد يحييني أو يسمع مني كلمة الشكر. لكن بعد أن «تعاملنا» مدة من الزمن، وأنس كل بصاحبه، صرت أدعوه إلى فنجان قهوة، فيقبل الدعوة، فنجلس ساعة أو بعض ساعة نتجاذب أطراف الحديث، فكان يخيل إلي دائما أن الفتى ليس سوى «عدد ممتاز» من الجريدة التي ينشرها، بل «يبشر» بها. كأنما الصحيفة تحيا فيه لحما ودما، فكرا وشعورا، حمية وإقداما، ثقة وأملا في المستقبل، كما يريده وسيكون.
لقد كنت أجهل اسم ذلك الصديق الجديد - الجديد بكل معاني الجدة - كنوع مستحدث من الآدميين. فكنت، ولا أدري لماذا، أدعوه بيني وبين نفسي: «بشارة.» اليوم يقولون لي بلطف: «أجل، هو أدوار.» وأنا أحتج بشدة: «كلا، هو بشارة!» وليس في هذا خسارة.
لو سألتموني عما كنت أجد في تلك الصحيفة المتواضعة برغمها، والتي كانت تحمل إلي كرسالة خاصة، مرة أو مرتين كل أسبوع، لاختلطت في ذهني صور وأفكار وخواطر شتى، فلا أعرف كيف أبتدئ ولا كيف أنتهي. حتى الحوادث (أو الأخبار) كان لها في تلك الصحيفة معنى جديد، وصدى غريب، كأنما ينظر إليها من زاوية غير مألوفة أو مبتذلة، لكنها الزاوية «المستقيمة» الصحيحة، منها يسعى في السبيل الأقوم، إلى الغاية الأسمى. تلك الصحيفة هي آخر مدرسة تعلمت فيها سداد الفكر وصدق العمل؛ سواء أفي إعلانها على النازي حربا لا هوادة فيها، يوم كان النازي كل شيء، أم في صمودها للدفاع عن خبز الشعب وحريته وسلامته ... وكانت تقول في كل مناسبة، ما لا بد من قوله، ما يجب أن يقال، ببساطة لا بساطة وراءها. أعني أنها لم تكن بحاجة إلى تضخيم صوتها؛ إذ لا صوت يعلو على صوتها ... هو «صوت الشعب».
في ذلك الزمن - يذكر ولا يعاد! كان خالد بكداش، وفرج الله الحلو، ونقولا شاوي وبعض الرفاق، يضطهدون في السجن، أو يطاردون فيما هو أضيق من السجن، لكن صوتهم لم يحبس، وجهادهم لم يكبح، ونورهم لم يطفأ. كانت أصداء من الصوت المدوي، ومآثر من الجهاد الدامي، وآشعة من الضياء المحيي، تملأ بيتي، وتشغف نفسي، وتنير بصيرتي ... وبيوت كثيرين، ونفوس كثيرين، وبصائر كثيرين.
في ذلك العهد، عهد فيشي، واللجنة الخبيثة، والتربص الأخبث، والجيش الألماني الذي لا يغلب، إلى آخر الخرافة؛ لم أكن أعرف خالد بكداش، وفرج الله الحلو، ونقولا شاوي، أو واحدا من رفاقهم الميامين. كان ينبغي - كي أعرفهم - أن أمسي سجينا متطوعا، أو طريدا مختارا، وليس هذا بالأمر السهل، نظريا أو منطقيا على الأقل.
ثم جاء غير ذلك الزمن، جاء عهد أحسن حالا، عهد لا يزال في تحسن مطرد، كالمريض الذي يتماثل إلى العافية، وكان من أيادي هذا العهد عندي أني - أخيرا! عرفت خالد بكداش الخطيب الذي يحلق كالنسر، والقائد الذي يحارب في أكثر من جبهة؛ لأنها - حيثما كانت - جبهة الحرية. يحلق كالنسر في آفاق الفكر والبيان، وكالنسر لا تفلت من بصره الحديد تفاصيل الأمور أو جزيئاتها، مهما دقت عن النظر، أو صغرت على البعد. وعرفت فرج الله الحلو المجاهد الأمين، كل عمل يأتيه خطبة بليغة، وكل خطبة يلقيها عمل رائع. وعرفت نقولا شاوي ... ماذا أقول لكم، وهو هنا، قد رأيتموه وسمعتموه؟ لكن تعالوا أهمس في آذانكم من خلال هذا المذياع، بأنكم لن تجدوا خيرا منه نائبا يمثلكم؛ يفهمكم فهما صحيحا، ويحس معكم إحساسا صادقا؛ فلهذا، ولهذا فقط، كان نقولا شاوي في السجن. علام إذن لا يكون في مجلس النواب، لهذا ولأسباب أخر؟
وهكذا عرفت خالد بكداش وفرج الله الحلو ونقولا شاوي، ورفاقهم الكثيرين اليوم، الأكثرين غدا، الذين يعملون كالنمل، ويجنون كالنحل، ويمشون كالجنود الأبطال، وفي سبيل أمتهم وحقها في الحياة الحرة الرغدة الآمنة، ما يعملون وما يجنون. جزاهم الله عنا كل خير! لقد علمونا بالكلمة والمثل، أن المولهين بحب الحرية لا يرجعون - برغمهم - خطوة إلى وراء، إلا ليقفزوا خطوتين إلى أمام، ودلونا على الطريق.
في هذه «المزرعة» المخصاب، شجرة شابة عجوز تعهدها من زمن بعيد هذا الحي الكريم، بالسقيا والعطف والعناية، فصارت راسخة أصولا، منبسطة فروعا، وارفة ظلالا، دانيا قطوفها. شجرة تستمد من الماضي الأصيل قوة، لتمتد غصونها نحو المستقبل الوضاح تحية؛ هي شجرة الإخاء في الوطن الواحد، وفي العقيدة الواحدة. وكأنما الشجرة هنا، كي يأوي إلى فيئها، ويجني من ثمرها، العهد المقبل الذي طالما تاقت إليه نفوسنا، واستهدفته جهودنا.
هنيئا للمزرعة وبنيها، وللبنان وأهله، الشجرة المباركة التي رسا أصلها، وفرعها في السماء.
صفحة غير معروفة