ولا نشغل القارئ الكريم بوصف تلك الحفلة الزاهرة، وما اشتملت عليه من مجالي الأبهة والجلال، ولا سيما عند توزيع الشهادة، فنضرب عن كل ذلك صفحا، ونتقدم إلى ما كان عند انتهاء الحفلة.
انتهت الحفلة وامتزج الناس بعضهم ببعض امتزاج الصهباء بالماء، يحيون الصديق صديقه والقريب قريبه، ويهنئون الشبان الذين نالوا الشهادات العلمية والفنية على اختلاف أنواعها، ويتحادثون فيما رأوا وسمعوا من محاسن الحفلة وأمجادها. وكانت «النرجسة الذابلة» موضوع حديث الكثيرين، والفتى إدورد سميث مقصد جميع المهنئين تقريبا، كأنه عريس خرج من تحت يد المكلل أو ملك برز تحت التاج. تجاذبه الكل يعرفونه بأنفسهم ويهنئونه إلا اللايدي بنتن وابنتها وابنها، فبقوا واقفين في مكانهم يمر أصدقاؤهم بهم يهنئونهم بحصول اللورد روبرت على الشهادة العلمية، وكان روبرت وإدورد الشاعر صديقين حميمين جدا، تشابهت أخلاقهما في اعتبارات جمة، وإن كانت قد اختلفت مواهبهما بعض الاختلاف؛ لأنه بينما كان يصعد إدورد في سماء التخيلات الشعرية، كان روبرت يتعمق في أسرار الحقائق العلمية المادية، وقد نال الامتياز في دراسة الطبيعيات.
وكانت لويزا ملكة ذلك الحشد تتبع بأبصارها إدورد في تخلله بين الجمهور حتى رأته وقد صار قريبا من مكانها ووجهته إليها، وكانت وقتها تحادث صديقة لها تدعى مس ماري جنستون وأخوها روبرت يشترك معها في الحديث، وأمهما لاهية بحديث مع اللايدي جنستون فقالت لويزا: كيف رأيت خطب الاحتفال يا مس جنستون؟ - كلها شائقة، وأظنك فضلت الشعري منها.
فضحكتا معا. - نعم على الغالب. وأنت؟ - أقول لك الحق وإن لم أكن شاعرة، فقد رأيت أن قصيدة المستر إدورد حلية الاحتفال. - أتعرفينه؟! - الآن تعرفت به، فرأيت منه شابا على غاية من التهذيب، وأنت يا مس بنتن أتعرفينه؟ - كلا إلى الآن، مع أنه صديق روبرت. فلم يخطر لي أن أتعرف به قبل الآن، ولكن لما رأيت في لائحة (بروغرام) هذه الحفلة عنوان «النرجسة الذابلة» بجانب اسمه تقت أن أسمعه؛ لأرى كيف يصور هذه النرجسة ذابلة، ولما سمعته صرت أرغب أن أتعرف به.
فقال أخوها روبرت: كيف رأيت صورتها يا لويزا؟! - الحق إنها نرجسة ذابلة. - ها هو قريب لنا.
ثم أومأ روبرت إلى صديقه إدورد أن يتقدم، ولما دنا إدورد منهم قدمه روبرت إلى أمه وأخته ومن معهما؛ فبشت له اللايدي بنتن بشاشة الود لأنها كانت تسمع عنه الثناء الطيب من لسان ابنها روبرت، وتعرف أنهما صديقان، وبعد أن هنأته عادت إلى حديثها مع اللايدي جنستون، ولم تزد على التهنئة لأنها كانت مشهورة بأنفتها وكبريائها.
أما لويزا فبالرغم من خيلائها التي كسبتها من أمها ابتسمت له ملء شفتيها لما قدم لها، وصافحته كصديق قديم قائلة: أهنئك يا مستر سميث «بالنرجسة الذابلة»، أما الشهادة فأهنئها بك؛ لأن مصور النرجسة هذا التصوير لا تزيده الشهادة تعريفا، وإنما هو يزيدها فصاحة في بيان معرفته. - أشكر لك تفضلك بهذا الثناء يا سيدتي، وأراك قد أنعشت النرجسة من ذبولها بهذا الإغراق في الإطراء. - لا إغراق يا مستر سميث، أتظن أن هذه الشهادة تعرف العموم أو الخاصة بك كما تعرفهم هذه القصيدة الرنانة؟ وحسبك شهادة دوي المحفل اليوم بصدى الثناء على إجادتك. - إن كان ل «النرجسة الذابلة» محاسن يا سيدتي، فإنما هي مستمدة من «الوردة الصفراء»، كما يستمد القمر نوره من الشمس.
فصعدت حمرة الحياء إلى وجنتي لويزا، وومض برق الابتسام من بين شفتيها، وقالت: أظنك قرأت «الوردة الصفراء» في مجلة «حياة المرأة»؟ - بل حفظتها عن ظهر قلبي، ولما كنت أنظم نرجستي كانت وردة المس بنتن توحي الشعر إلي؛ فمنها تنبهت إلى كل تخيلاتي الشعرية من مجاز واستعارة، وكأني كنت أنسخ لا أبتكر. - إذا كنت قد نسخت حقيقة، فلم تكن أمينا في النسخ؛ لأن النسخ جاء أنقى وأصفى وأبدع من المنسوخ عنه، ولكني لا أراك ناسخا بل واضعا نموذجا لمن ينظم في مثل هذا الأسلوب، الذي تحديته في نظم النرجسة؛ فأنا أشكر لك هذا الدرس الذي استفدته اليوم منها، والذي سأستفيده فيما بعد من التأمل فيها متى قرأتها حيث تنشر. - لقد أبكمتني يا سيدتي؛ فإني لا أقدر أن أباريك في مضمار المجاملة، ولا أراني أستحق هذا الإطراء الذي تتفضلين به تنشيطا لي. - معاذ الله أن أجامل مجاملة، وإنما هو اعتقادي أعلنته لك. - إذن أؤمل أن أكون يوما ما شاعرا؛ لأن ثناء من شاعرة مثل اللايدي لويزا بنتن هو أعظم شهادة أتلقاها اليوم، وهو يمدني بقوة جديدة، ويحمسني على استكداد قريحتي في النظم.
عند ذلك قصرت مس بنتن الحديث، كأنها انتبهت إلى أنها تطرقت فيه إلى ما وراء الحد السائغ لمثلها أن تجامل صديقا جديدا، فاستأنفه أخوها المستر روبرت قائلا لصديقه: أفكرك يا عزيزي إدورد مذ الآن بحفلة الأنس، التي ستنعقد من الأصحاب والأقارب في قصر كنستون يوم الإثنين القادم، وبعد غد تنتهي إليك رقعة الدعوة، فإن بدا أي مانع لحضورك أرجو منك أن تزيله؛ فإني أحسب أن وجودك معنا ركن من أركان الحفلة؛ لأني سأكلفك بمحاضرة بعض المدعوات عند اللزوم. - لا أنسى ولن أنسى يا عزيزي روبرت ذلك اليوم السعيد المنتظر، بل أترقبه بصبر، وسيان أرسلت لي رقعة الدعوة أو لم ترسلها، فإني أنضم إليكم وأكون كواحد من البيت. - إني أسر جدا بدالتك هذه يا إدورد وأبادلك مثلها؛ ولهذا أجتنب أن أشكرها لك لأني أعتبر أن الشكر والدالة متنافيان فلا يجتمعان.
عند ذلك دنا أحد أصدقاء إدورد، فمال هذا إليه بعد إذ اعتذر من آل بنتن وانحنى لهم، وعما قليل أخذ الحشد يفرغ من المنتدى جماعات وأفرادا.
صفحة غير معروفة