فاقشعر بدن إدورد وانتصب شعر رأسه، وما درى نفسه إلا وهو واقف على قدميه وصرخ. - يا للعجب! ألويزا ابنة عمتي؟ - نعم، إن التي أولعت بها يا سيدي اللورد ابنة عمتك. - هنئت بك يا لويزا وهنئت بي، هنئني يا سيدي الشيخ الخادم الأمين لأبي والرسول السعيد لي، قبلني كثيرا يا سيدي العم كابن سيدك كما حملتني صغيرا، فإن سعادتك مقرونة بسعادتي.
فقبله الشيخ وضمه إلى صدره، وذرف دمعتين على خديه.
ثم جلس إدورد وهو كمن يرتاب فيما سمع، ولكن كل لمحة من ملامح الشيخ كانت تدفع ريبه، وكل حرف من حروف الحكاية كان ينطبق على معاملة خاله له؛ ولذلك كان يتهلل ويبش كأن شمسا تشرق عن جبينه، وبعد افتكار قليل قال: أتظن خالي لم يزل يحفظ الأوراق عنده؟ - أرجح ذلك جدا؛ لأنه عاقل ومهما يكن متغيظا منك فلا يبلغ غيظه هذا إلى حد غيظه من اللايدي بنتن التي شمخت عليه وجرحت عزة نفسه برفضها إياه، بل بالأحرى يفضل أن يعلن نسبك لأنه يغيظ اللايدي بنتن إذ تعلم أن ابن أخيها هو ابن أخت المستر هوكر الذي خذلته. ولا أظن أن خالك يتغير قلبه عليك إلى درجة أن يحرمك مجدا عظيما بلا حرج ولا إثم منك. - وأنا أظن كذلك؛ لأنه يحبني حبا شديدا، ولكن أتظنه يمنحني الورق بلا تردد أو بلا شرط إذا طلبته منه؟ - هذا ما لا أدريه. - أخاف أن يشترط علي أن أتزوج أليس. - ربما يفعل. وماذا يضرك أن تتزوجها؟ - أواه! ليتني أقدر، فإني أودها وأجلها، ولكني أحب لويزا ابنة عمتي. أحبها وحدها فماذا أفعل؟
وأشرق وجه إدورد عند قوله «ابنة عمتي.» وقال في نفسه: «أحقيق أنا ابن خال لويزا؟ ما أسعدني! حسبي أن أكون ابن خالها.» - إذن لا أظنك وأنت الكاتب الشاعر تعجز عن إقناعه والحصول على الورق. - أخاف أن يغضب ويحتد فيمزق الورق إذا أصررت على عدم موافقته. - إذا لاحظت أنه على وشك الاحتداد، فأقصر الحديث معه ولاطفه ودعه إلى فرصة أخرى. - وبعدئذ؟ - تفتكر بأسلوب آخر. - إذن الآن أستودعك الله إلى عهد قريب فأخبرك النتيجة. - أرجوك أن تكتم أمري لئلا ينقم علي خالك فيؤذيني. - لا تخف، لا أظنك مسئولا عن شيء البتة، ولا أظن أن دعوى خالي بتسمم أبي تجاوزت الفندق الذي هربت منه.
ثم مضى إدورد والفرح يستفزه عن الأرض، ولا ريب أن القارئ الكريم يتوقع أن أول ما يقصده مقابلة لويزا وكذا كان.
الفصل الثامن عشر
موعد فلقاء
في ذلك المساء ظهرت اللايدي لويزا بنتن في مقصورة من مقاصير الملعب الملكي (الأوبرا)، فاجتذبت كل الأبصار إلى شعاع جمالها الباهر، سرحت نظرها في جميع جهات الملعب، والابتسام يتدفق من بين شفتيها كينبوع نور. تنقل نظرها على كل المقاصير ثم على الكراسي إلى أن استوقفته «وردة صفراء» في صدر إدورد وهو بالقرب من مقصورتها، وقد علم القارئ أن الوردة الصفراء في صدر إدورد كانت للدلالة على أنه يحتاج إلى مقابلة لويزا لأمر كما اتفقا. فرأته ناظرا إليها وفي محياه وميض سرور أشد تألقا من المعتاد، فابتسمت له ابتسامة خصوصية، وصارت تفكر في: ماذا عسى أن يكون مراده من لقائها بعدما قابلته بالأمس؟ وكانت كل هنيهة تلتفت به فتراه ناظرا إليها، ووجهه يهل حبورا وأمائر اللهفة بادية في أسارير وجهه كأنه قلق. فحارت في أمره وخطر لها ألف خاطر إلا خاطر أنه قريبها، فغمزته أن يلاقيها في مقصورة اللايدي جنستون صديقتها، وفي أثناء إرخاء الستار انتقلت إلى تلك المقصورة وهي قريبة من مقصورتها، وفي الحال كان إدورد في الباب، فحيا اللايدي جنستون ومن معها وهي من أعز صديقاته؛ لأنها صديقة لويزا.
فاغتنمت لويزا فرصة التهاء البقية بالحديث، وهمست: ما الخبر؟ شغلت بالي. أراك فرحا قلقا. - ولا عجب لو رأيتني مجنونا من الفرح. - ماذا ماذا؟ قل لأن الفرصة قصيرة جدا. - لا وقت الآن يا لويزا. أين أراك غدا؟ - في مونتمار من الصبح انتظرني عند بوابة الحديقة من الداخل، فإني أدعها غير موصدة كالعادة. ولكن قل لي ما الخبر؟ - مفرح جدا، وهو مقلق لك إذا عرفته من غير تفاصيله. - وجهله أشد إقلاقا، فقل قبل أن أمضي. - أنا ابن خالك يا لويزا، وأنت ابنة عمتي.
فظنته يمزح في قالب الجد، وقالت مبهوتة: ماذا تقول؟ - كما سمعت. - أتهذي؟ - وإن قرأت ذلك بعد أيام في «التيمس» وسائر الجرائد أتقولين إني أهذي؟
صفحة غير معروفة