ولم يقل أحد مثل مقالة هذه الفرقة؛ إلا أن قوما من المجبرة قالوا في القرآن قريبا من قول هذه الفرقة؛ في أن القرآن ليس بمسموع ولا هو كلام، ولا هو حروف، وقالوا: هو قديم، وهو معنى في النفس. فاحتج عليهم السيد أبو طالب عليه السلام في التبصرة في كتاب الهادي فقال: وأيضا فإن كلامه تعالى لا يخلو من أن يكون من جنس الكلام المعقول فيما بيننا، وهو أن يتركب من جنس الأصوات والحروف، أو مخالفا لذلك. فإن كان من جنس الأصوات والحروف وإلا لم يكن يدرك الأجسام والأعراض، فلا شبهة في حدوثه، وإن كان مخالفا لذلك لم يصح أن يكون كلاما وأن يفهم به شيء، فالمثبت لكلام مخالف للكلام المعقول فيما بيننا، فإنه في حكم من يثبت جسما مخالفا للأجسام المعقولة فيما بيننا، ويثبت مع الله تعالى جسما قديما مخالفا لسائر الأجسام. ومن يزعم أن الكلام معنى في النفس، وأن الحروف المسموعة دلالة عليه، فهو في التجاهل بمنزلة من يزعم أن الصوت معنى في النفس، وأن المسموع منه دلالة عليه؛ وأن اللون معنى في النفس، والمرئي منه دلالة عليه، فتبين جهل من يقول بهذه المقالة، وقد قال الله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه}[التوبة:6]. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه سمع خفق نعل وهو يصلي، وهو ساجد، فلما فرغ من صلاته قال: ((من هذا الذي سمعت خفق نعله ))، فقال أنا يا رسول الله، قال: ((فما صنعت؟)) قال: وجدتك ساجدا فسجدت [معك]، قال: ((هكذا فاصنعوا، ولا تعتدوا بها ، ومن وجدني قائما أو راكعا أو ساجدا فليكن معي على حالتي التي أنا عليها)) فبين أنه سمع خفق النعل، وخفق النعل هو غير النعل.
وقول من يقول: إن كلام الله لا يسمع مكذب لكتاب الله، وقد قال الهادي إلى الحق عليه السلام في كتاب المسترشد: فلما سمعت حاسة الأذن صوتا علم السامع أنه له مصوتا منه كان، ومن بعد خروجه من حلقه بان لسامعه. وهذا عكس ما قالوا: من أن المتكلم يسمع ويعلم الكلام، وقد قال الله تعالى: {ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن}[النور:31]، فبين أن الجسم معلوم، وأن الصوت مسموع، وقد قال تعالى: {فلما أحس عيسى منهم الكفر }[آل عمران:52]، بمعنى سمع منهم الكفر، فصح أن الكلام محسوس، وفي هذا بيان لمن كان له قلب، ولا يمتنع أن نقول: سمعنا زيدا يتكلم، بمعنى أنا سمعنا الكلام منه، وأنه مسمع، وهذا معنى قول الله تعالى: {إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان }[آل عمران:193].
صفحة ٩٩