واعلم أن العرض لا بد له من شبح؛ لأنه لا يقوم بنفسه، وشبحه في حال الكلام المتكلم، وشبحه بعد ذلك الهواء؛ لأن الله قد فطر الهواء على حمل الأصوات إلى الآذان السامعات؛ لأن العرض لا يقوم بنفسه ولا يقطع المسافة. وكذلك المصوت لا يقطع المسافة أيضا بنفسه ولا يدخل في أذن السامع ولا ينتقل إليه، فلما لم يمكن ملاصقة المصوت لأذن السامع ولا انتقاله إليه، ولم يمكن قيام العرض بنفسه من غير شبح ولا قطع لمسافة؛ لم يبق إلا أن الهواء هو الذي حمله وهو شبحه.
ومن هاهنا غلط قوم من الزيدية وهم المطرفية فإنهم قالوا: إن السامع لم يسمع الصوت، ولكنه يسمع المصوت ولا يسمع عندهم الكلام، وقالوا: لا يسمع القرآن وإنما يسمع القارئ. وقال بعضهم: ليس القرآن بحروف وإنما هو معنى في النفس. وقالوا: لم يفارق قلب الملك. وقالوا: هذا القرآن إنما هو حكاية عنه ودليل عليه.
وعلتهم (في ذلك) أن القرآن عرض، والعرض لا يجوز عليه البقاء، وأنه إجالة الألسن، وأنه لا يقوم بنفسه، ولا يقطع المسافة، وأن الحروف كانت قد حصلت مع الناس قبل نزوله. فصح أن الحروف بزعمهم هي الحكاية دون المحكي. واستدلوا على أنه لا يسمع الكلام، وإنما يسمع المتكلم بقول الله تعالى: {إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان }[آل عمران:193]، ولقول الله تعالى: {قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم}[الأنبياء:60].
صفحة ٩٢