فلما بعث النبي - صلوات الله عليه - بالدعوة الإسلامية لم تكن للمرأة منزلة مرضية ولا حقوق مرعية في وطن من أوطان الحضارة أو البداوة، فدحض الإسلام عنها هذه الوصمة، وخولها من الحقوق ما يساوي حقوق الرجل في كل شيء إلا في حق القوامة:
الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم (النساء: 34)،
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة (البقرة: 228). •••
وهذا الذي عنيناه بالمساواة بين الحقوق والواجبات؛ لأن المساواة بين الرجل والمرأة في جميع الكفايات والأعمال أمر لم يقم عليه دليل من تكوين الفطرة ولا من تجارب الأمم، ولا من حكم البداهة والمشاهدة، بل قام الدليل على نقيضه في جميع هذه الاعتبارات. ولم تتجاهل الأمم فوارق الجنسين إلا كان تجاهلها لها من قبيل تجاهل الطبيعة التي تضطر من يتجاهلها إلى الاعتراف بها بعد حين، ولو من قبيل الاعتراف بتقسيم العمل بين جنسين لم يخلقا مختلفين عبثا بعد أن غبرت عليهما ألوف السنين، وأخرى أن يكون طول الزمن مع تطور الأحوال الاجتماعية سببا لاختصاص كل منهما بوظيفة غير وظيفة الجنس الآخر، ولا سيما في الخصائص التي تفترق فيها كفاية الحياة البيتية وكفاية الحياة الخارجية، فإن طول الزمن لا يلغي الفوارق، بل يزيدها ويجعل لكل منها موضعا لا يشابه سواه.
إن تكوين الفطرة في مسألة النسل التي هي قوام حياة الأسرة يفرق بين الذكر والأنثى تفرقة لا سبيل في الإغضاء عنها في حياة النوع الإنساني على الخصوص؛ فإن وظيفة النسل طليقة في الرجل يصلح لها ما صلحت بنيته طول حياته إلى السبعين وما بعد السبعين، ووظيفة التناسل في المرأة مقيدة بالحمل مرة واحدة في كل عام، وقلما تصلح لها المرأة بعد الخامسة والأربعين أو الخمسين في أكثر الأحوال.
وفي تجارب الأمم شواهد ملموسة على الفارق الأصيل بين الجنسين في الكفاية العقلية والكفاية الخلقية؛ فإن المرأة على العموم لا تساوي الرجل في عمل اشتركا فيه، ولو كان من الأعمال التي انقطعت لها المرأة منذ عاش الجنسان في معيشة واحدة؛ لا تطبخ كما يطبخ، ولا تتقن الأزياء كما يتقنها، ولا تبدع في صناعة التجميل كما يبدع فيها، ولا تحسن أن ترثي ميتا عزيزا عليها كما يرثي موتاه، وهي منذ بدء الخليقة تردد النواح وتنفرد بأكثر مراسم الحداد. ومن اللغو أن يقال إن هذه الفوارق إنما نجمت من عسف الرجل واستبداده، فإن الرجل لم يكن ينهى المرأة أن تطبخ وأن تخيط الثياب وأن تتزين أو ترقص أو تترنم بالأغاني والأناشيد، ولو أنه نهاها فاستطاع أن ينهاها في بيتها وفي الدنيا الرحيبة لقد كان ذلك منه دليلا على غلبة العقل والإرادة لا ريب فيه.
وندع الإرادة في كل شيء ونتأمل الغريزة الجنسية المركبة في إناث جميع الأنواع، فهل من المجهول الخفي أن الأنثى تكتم إرادتها ولا تجهر بها وأنها تتصدى للذكر حتى يلتفت إليها؟ وهل من المجهول الخفي أن أصوات الذكور تغلظ وتقوى بعد بلوغ النضج لانفرادها بالدعاء الجنسي، واقتران هذا الدعاء بالنمو في كل قوة تكفل لها الغلبة والسبق في صراع الانتخاب الجنسي؟ وهل مما يستطاع ادعاؤه هنا أن هذه الفوارق الأصيلة قد خلقها ذكور الحيوان، ولم تكن عن حكمة عميقة في بنيان الجنسين، ينقاد إليها الذكور كما ينقاد إليها الإناث؟
وإذا اعتبرنا مسألة القوامة من وجهة «إدارية» بحتة، واعتبرنا أن الأسرة هيئة لا غنى لها عن قيم يتولاها، فمن يكون هذا القيم من الزوجين؟ أتكون القوامة للمرأة أم تكون للرجل؟ أتكون حقوق الأبناء في ذمتها أم تكون في ذمته؟
إن هذه الأمور من وقائع الحياة التي لا ترحم من يتجاهلها، ولا تحلها تحيات الأندية ولا جعجعة الفروسية الكاذبة في بقاياها المتخلفة من عصورها المنقرضة، وما كان للمرأة في أحسن حالاتها في تلك العصور المنقرضة من مكانة غير مكانة العشيقة في قصص الغرام ... كأنما هي مباهاة الفارس بشجاعته تعلو به في كل موقف له مع المخلوقة الضعيفة أن يكون كموقفه مع الأنداد والنظراء.
ولا نحب أن نغضي عن الباعث الذي يتذرع به من ينكرون قوامة الرجل لادعاء المساواة بين الجنسين؛ فإنهم يتذرعون لدعواهم هذه باضطرار المرأة إلى الكدح لنفسها أحيانا في ميدان العمال طلبا للقوت ولوازم المعيشة. فهذه - ولا مراء - حالة واقعة تكثر في المجتمعات الحديثة كلما اختلت فيها وسائل العيش، وتأزمت فيها أسباب الكفاح على الأرزاق. ولكننا نراهم كأنهم يحسبونها حالة حسنة يبنون عليها دعائم المستقبل، ولا يحسبونها حالة سيئة تتضافر الجهود على إصلاحها وتدبير وسائل الخلاص منها، وما هي في الواقع إلا كالحالة السيئة التي دفعت الآباء والأمهات إلى الزج بأطفالهم في ميدان الكفاح على الرزق، فأنكرتها القوانين وحرمتها أشد التحريم، ولم تجعلها حجة تسوغ بقاءها وتقيم عليها ما تستتبعه من النظم الحديثة في الأسرة أو في الحياة الخارجية. •••
صفحة غير معروفة