ولو أن النقاد الدينيين كلفوا أنفسهم أن يتتبعوا أسباب التشريع في الأديان الكتابية الكبرى لعلموا أنها قامت بقيام تلك الأديان في ظروف تحتم النظر في التشريع، كما تحتم النظر في الاعتقاد، ولعلموا أن أديان الحضارات الأولى التي استغنت عن وضع نصوص القوانين لم تكن لتستغني عنها لولا أنها نشأت في دول عريقة الحكومات والأحكام، ومن أعرق تلك الحضارات الأولى حضارة مصر وحضارة بابل وحضارة الهند وحضارة الصين؛ فهذه جميعا قد ظهرت فيها الكهانة مجاورة للدولة صاحبة القوانين والأحكام، ولم تخلص العقائد فيها مع ذلك من الامتزاج بالقوانين في مصادرها وأسانيدها يوم كان كل أمر مقدس واجب الطاعة مستمدا من الأوامر الإلهية، ولكن رسالة الدين هنا لم تكن منعزلة عن رسالة الدولة في عقائدها ولا في شرائعها، فلما قامت رسالة الأنبياء من دعاة الأديان الكتابية قامت بمعزل عن الدولة، بل قامت ثائرة على الدول من حولها، فوجب لها مع العقائد تشريع يتناول أحوال المعاش وأحكام المعاملات.
ويصدق هذا القول على الأديان الكتابية الثلاثة بغير استثناء للمسيحية التي يخطر لبعضهم أنها تعمدت أن تقصر الدين على العقائد والوصايا دون القوانين والمعاملات.
فالواقع أن السيد المسيح قد جاء مؤيدا لشرائع العهد القديم، ولم يجئ مبطلا لها أو معطلا لأحكامها؛ جاء متمما للناموس ولم يجئ هادما للناموس، وكان العالم من حوله مكتظا بالشرائع الدينية والشرائع الدنيوية: للهيكل شرائعه، من أراد أن يتبعها ويعمل بها فذلك إليه، وللدولة شرائعها، من أراد أن يتبعها ويعمل بها فذلك إليه، ومن هنا استطاع المسيح أن يقول للذين تعمدوا أن يحرجوه في مسألة الضرائب: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله.» فلم يجد من لوازم رسالته أن يثور على شرائع الدولة ولا على شرائع الدين. ولما جاءه المكابرون من اليهود بالمرأة الزانية ليأمر برجمها ويصطدم من ثم بسلطان الهيكل، رد عليهم كيدهم بإحراجهم كما أحرجوه، فقال لهم: «من لم يخطئ منكم فليرمها أولا بحجر.» فلم يقل إن حكم الرجم باطل، ولم يأمر به فيقيم الحجة عليه لأصحاب السلطان في هيكل العبادة والشريعة ، وكانت ثورته في لبابها ثورة على الرياء في دعوى الأمناء على الشريعة الدينية، ولم تكن ثورة على الأحكام والنصوص كما وردت في كتب العهد القديم. •••
أما الديانة الكتابية الأولى، فمهما يكن الرأي في نصوص شرائعها اليوم، فقد كان التشريع فيها يوم الدعوة إليها لازما كلزوم الدعوة إلى العقيدة أو الوصايا الأخلاقية: كان موسى عليه السلام يقود شعبا بغير دولة إلى أرض يقيمون فيها حكما غير الحكم الذي خضعوا له في موطنهم الذي تركوه من أرض الدولة المصرية، فلم تكن رسالته رسالة عقيدة وحسب، ولم يكن قيام العقيدة ميسورا بغير قيام القانون.
وكل نقد يوجه إلى أحكام المعاملات يمكن أن يوجه مثله إلى العقائد والوصايا؛ لأن التحجر وسوء الفهم غير مقصورين على الأعمال والتطبيقات، أو سبيلهما إلى العقائد النظرية أيسر من سبيلهما إلى الوقائع العملية؛ إذ كانت الوقائع العملية مما يضطر المخطئ إلى الشعور بخطئه، وليس في العقائد النظرية ما يضطر المعتقد إلى الشعور بالخطأ من أول وهلة، إلا إذا تغير شعوره وتغير وجدانه فارتفع بنفسه وبأحوال معيشته من الخطأ إلى الصواب.
ولمن شاء أن يشير إلى المعاملات في كتب الشرائع السماوية كما يشاء، ولكنه يحيد عن جادة الإنصاف إذا اختص الشريعة الإسلامية بنقده كأنها الشريعة الكتابية الوحيدة التي تعرضت للمعاملات؛ فإن الشريعة المنسوبة إلى موسى - عليه السلام - قد تناولت من أمور المعيشة ما هو اليوم من شئون الأطباء، وتناولت من تشريع الجزاء والعقاب أحكاما لا يقرها اليوم أحد من المؤمنين بها، وإن كان من المؤمنين بإيحاء الشريعة من الله إلى كليم الله.
فمن الشئون التي كان يتولاها الكاهن تمحيص أعراض العلل والأدواء وعزل المصابين بها وإعلان نجاستهم على الملأ؛ لاعتقادهم أن المرض الخبيث المعدي نجاسة منافية للطهارة الدينية أو ضربة من الضربات الإلهية، ويشرح كتاب اللاويين في الإصحاح الثالث عشر منه مثلا من ذلك فيقول في بيان المعاملة الواجبة للمصابين بالبرص:
إذا كان إنسان قد ذهب شعر رأسه فهو أقرع. إنه طاهر. وإن ذهب شعر رأسه من جبهة وجهه فهو أصلع. إنه طاهر. لكن إذا كان في القرعة أو الصلعة ضربة بيضاء ضاربة إلى الحمرة فهو برص مفرخ في قرعته أو في صلعته كمنظر البرص في جلد الجسد، فهو إنسان أبرص. إنه نجس. فيحكم الكاهن بنجاسته. إن ضربته في رأسه. والأبرص الذي فيه الضربة تكون ثيابه مشقوقة ورأسه يكون مشقوقا، ويغطي شاربيه وينادي: نجس، نجس! كل الأيام التي تكون الضربة فيها يكون نجسا. إنه نجس يكون وحده خارج المحلة ...
وكان الكاهن يتولى من شئون الطعام والشراب ما هو ألصق بالمعيشة اليومية من شئون الطب ومعاملة المصابين بالعلل والسقام؛ فالكاهن هو الذي يزكي الطعام المباح ويستولي على نصيب المعبد منه، وإليه المرجع في التمييز بين الأطعمة المطهرة والأطعمة النجسة من لحوم الحيوان.
وتناولت الشريعة معاملات الجزاء والعقاب في الجرائم التي تقع من الناس، وفي الإصابات التي تقع من الحيوان ويجزى بها الحيوان كما يجزى بها صاحبه في بعض الأحيان. ومن أمثلة ذلك عقاب الثور الذي ينطح إنسانا كما جاء في الإصحاح الحادي والعشرين من سفر الخروج:
صفحة غير معروفة