هذا، أو يقترحون دينا يتبدل في كل فترة تبدلا آليا كلما تبدلت معارف الأمم في مختلف الأزمنة أو مختلف البلدان.
ومهما نسترسل في تصور المقترحات التي تخطر للمترددين والمعطلين، فلا نخال أننا منتهون إلى مقترح يرونه ويراه غيرهم اقرب إلى التصور وأيسر من الدين في تاريخه المعهود؛ فإن أطوار التدين كما نشأت من أقدم عصورها إلى اليوم لا تزال أقرب إلى المعقول من كل مقترح ذكرناه على ألسنتهم بين هذه الفروض.
فالنخبة المختارة من كبار العقول لا تحتاج إلى تعاليم الدين كما تحتاج إليه طوائف البشر من الجهلاء أو صغار العقول، وقد يتنزه أبناء النخبة المختارة عن الخرافة في آونة محدودة، ولكنهم لن يتنزهوا عنها في كل آونة مع التسليم بتطور العلم وتطور الإدراك الذي يستفيد من جملة العلوم.
أما أن يتساوى الناس تساويا آليا في كشف حقائق الكون، من أول عهد البشر بالتدين إلى آخر عهدهم المقدور لهم من الحياة الأرضية؛ فإنما هو نكسة بهم إلى حالة لا فرق بينها وبين أحوال الجماد أو أحوال الآلات التي لا عمل فيها لاجتهاد الروح ولا لتربية الضمير.
وأما أن تتبدل العقائد في كل لحظة تتغير فيها مدركات العلوم ومدركات المعرفة على العموم، فتلك حالة نحاول أن نتصورها في أطوار الجماعات فلا نرى أنها قابلة للتصور في جماعة واحدة تعيش من أسلاف إلى أخلاف مئات السنين، أو ألوف السنين، اللهم إلا إذا تصورنا عقول هذه الجماعة وضمائرهم في صورة الصفحات التي تنقلب صفحة بعد صفحة حين تعرض على قرائها وهم يريدون تقلبها أو لا يريدون.
كل هذه الصور يقترحها من يشاء، ولا يكلف نفسه أن يتمادى مع صورة منها في التخيل، أو يعالج تطبيقها في الواقع إذا استطاع، وما هو بمستطيع.
ونكاد نقول عن نشأة التدين بين جماعات البشر كما نشأ في عالم الواقع: إنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، لولا أننا نرى أن الزمان المتطاول قد يمكن فيه اليوم ما لم يكن ممكنا بالأمس، وقد يمكن فيه غدا ما ليس بممكن في يومنا هذا ولا في الأيام التي سلفت، وقد يمكن فيه عند قوم في العصر الواحد ما يتعذر على آخرين في العصر نفسه ... إلا أننا ندين بقول القائلين: «إنه ليس في الإمكان أبدع مما كان» إذا نظرنا إلى تطور الدين نظرة تحيط بأطواره كلها في جميع الأزمنة وبين جميع الأقوام.
وينبغي أن نذكر أن التعبير الرمزي والعقيدة الإيمانية لازمتان من لوازم الشعور الديني لا تنفصلان عنه، ولا يتأتى لنا أن نفهم ظواهره وخوافيه ما لم نكن على استعداد لتفسير هذا التعبير وقبول ذلك الإيمان.
ولسنا نقبل التعبير الرمزي والعقيدة الإيمانية ترخصا مع الدين وحده برخصة لا نلتمسها مع سائر المدركات الحسية أو النفسية؛ لأننا نعلم أن التعبير الرمزي والعقيدة الإيمانية لازمتان من لوازم تكوين الإنسان في مدركات حسه ومدركات نفسه، على اختلاف الأساليب ومعارض الإدراك.
فأي إدراك للإنسان أصدق عنده من إدراك العيان؟ وما هي حقيقة هذا الإدراك إن لم يكن في صميمه تعبيرا رمزيا نضع له من الأسماء ما ليس بينه وبين الواقع مطابقة غير مطابقة الرمز للحقيقة التي ترمز إليها؟ فنحن نسمي الألوان بأسمائها، ثم نرجع إلى حقائقها فلا نعلم لها حقيقة في الواقع إلا أنها ذبذبات كما يقال في أمواج الأثير، ولا نعلم للأثير من حقيقة في الواقع غير أنه - كما يقال - فرض نقول به؛ لأننا لا نريد أن نقول بفرض العدم أو بفرض الفضاء والخلاء.
صفحة غير معروفة