وكانت النبوة صناعة وراثية يتلقاها الأبناء من الآباء كما جاء في سفر الملوك الثاني : «إذ قال بنو الأنبياء لأليشع هو ذا الموضع الذي نحن مقيمون فيه أمامك قد ضاق علينا فلنذهب إلى الأردن.»
وكانت لهم خدمة تلحق بالجيش في بعض المواقع كما جاء في سفر الأيام الأولى حيث قيل: إن داود ورؤساء الجيش «أفرزوا للخدمة بني آساف وغيرهم من المتنبئين بالعيدان والرباب والصنوج.» •••
وهؤلاء المئات من المحسوبين على النبوة لبثوا بين قبائل إسرائيل وقرا فادحا لا يصبر القوم على تكاليفه المرهقة إلا لمنفعة ينتظرونها من زمرة المتنبئين الذين يثبت لهم صدقهم، وليست هذه المنفعة إلا الاعتماد حينا بعد حين على بعض المتنبئين في الكشف عن الخبايا والإنذار بالكوارث المتوقعة، وأهم ما كان يهمهم من هذه الكوارث أن يحذروا غضب «يهوا»؛ لأنهم جربوا أنه أقدر على النقمة من سائر الأرباب.
وحدث ما لا بد أن يحدث في هذه الحالة من الإسفاف بالكشف الروحي تسخيرا له في المطالب اليومية على حسب الحاجة إليه في حينه؛ فبدلا من أن يكون الكشف الروحي لمحة من لمحات الصفاء ترتفع فيها حجب الهوى والضلالة عن البصيرة فتدرك ما لا تدركه في عامة أوقاتها؛ أصبح هذا الكشف صناعة ملازمة لكل من يدعي النبوة بحق أو بغير حق، ووجب على النبي في عرفهم أن يكون مستعدا بكراماته ومعجزاته كلما أرادها أو أريدت منه، وروى القوم من أنباء هذا الاستعداد ما يشبه الاستعداد للمباراة بين فرق الرياضة من الطرفين المتقابلين، وقد ثبتت لهم غلبة أنبياء يهوا على أنبياء البعل على أثر مباراة من هذه المباريات بينهم في التنبؤ والإنذار بالأخطار.
جاء في كتاب الملوك الأول: أن «إيزابل» امرأة آخاب ملك إسرائيل قتلت مئات من أنبياء «يهوا»، فلم ينج منهم غير خمسين خبأهم أحد الوزراء المخلصين للدين، ثم ظهر النبي «إيليا» متحديا للملك قائلا كما جاء في الإصحاح الثامن عشر من الكتاب المذكور: ... ولما رأى آخاب إيليا قال له آخاب أأنت هو مكدر إسرائيل؟ فقال: لم أكدر إسرائيل بل أنت وبيت أبيك بترككم وصايا الرب وبسيرك وراء البعليم . فالآن أرسل واجمع إلي كل إسرائيل إلى جبل الكرمل وأنبياء البعل أربع المائة والخمسين، وأنبياء السواري أربع المائة الذين يأكلون على مائدة إيزابل. فأرسل آخاب إلى جميع بني إسرائيل وجميع الأنبياء إلى جبل الكرمل، فتقدم إيليا إلى جميع الشعب وقال: حتى تعرجون بين الفرقتين؛ إن كان الرب هو الله فاتبعوه، وإن كان البعل فاتبعوه، فلم يجبه الشعب بكلمة، ثم قال إيليا للشعب: أنا بقيت نبيا للرب وحدي وأنبياء البعل أربعمائة وخمسون رجلا، فليعطونا ثورين فيختاروا لأنفسهم ثورا واحدا ويقطعوه ويضعوه على الحطب، ولكن لا يضعون نارا وأنا أقرب الثور الآخر وأجعله على الحطب، ولكن لا أضع نارا، ثم تدعون باسم آلهتكم وأنا أدعو باسم الرب، والإله الذي يجيب بنار فهو الله، فأجاب جميع الشعب وقالوا: الكلام حسن.
فقال إيليا لأنبياء البعل: اختاروا لأنفسكم ثورا واحدا وقربوا أولا؛ لأنكم أنتم الأكثر، وادعوا باسم آلهتكم، ولكن لا تضعوا نارا. فأخذوا الثور الذي أعطي لهم وقربوه ودعوا باسم البعل من الصباح إلى الظهر قائلين: يا بعل أجبنا. فلم يكن صوت ولا مجيب، وكانوا يرقعون حول المذبح الذي عمل، وعند الظهر سخر بهم إيليا وقال: ادعوا بصوت عال؛ لأنه إله لعله مستغرق أو في خلوة أو في سفر أو لعله نائم فيتنبه. فصرخوا بصوت عال وتقطعوا حسب عادتهم بالسيوف والرماح حتى سال منهم الدم، ولما جاء الظهر وتنبئوا إلى حين إصعاد التقدمة ولم يكن صوت ولا مجيب ولا منغ، قال إيليا إلى جميع الشعب: تقدموا إلي. فتقدم جميع الشعب إليه فرمم مذبح الرب المتهدم ثم أخذ إيليا اثني عشر حجرا بعدد أسباط بني يعقوب الذي كان كلام الرب إليه، قائلا: إسرائيل يكون اسمك، وبنى الحجارة مذبحا باسم الرب، وعمل قناة حول المذبح تسع كيلتين من البذر، ثم رتب الحطب وقطع الثور ووضعه على الحطب وقال املئوا أربع جرات ماء وصبوا على المحرقة وعلى الحطب. ثم قال: ثنوا. فثنوا، وقال: ثلثوا. فثلثوا، فجرى الماء حول المذبح وامتلأت القناة أيضا ماء، وكان عند إصعاد التقدمة أن إيليا النبي تقدم وقال: أيها الرب إله إبراهيم وإسحاق وإسرائيل ليعلم اليوم أنك أنت الله في إسرائيل، وأني أنا عبدك وبأمرك قد فعلت كل هذه الأمور، استجبني يا رب استجبني ليعلم هذا الشعب أنك أنت الرب الإله، وأنك أنت حولت قلوبهم رجوعا. فسقطت نار الرب وأكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب ولحست المياه التي في القناة، فلما رأى جميع الشعب ذلك سقطوا على وجوههم وقالوا: الرب هو الله، الرب هو الله. فقال لهم إيليا: أمسكوا أنبياء البعل ولا يفلت منهم رجل. فأمسكوهم فنزل بهم إيليا إلى نهر قيسون وذبحهم هناك، وقال إيليا لآخاب: اصعد واشرب لأنه حس دوي مطر. فصعد آخاب ليأكل وليشرب، وأما إيليا فصعد إلى رأس الكرمل وخر إلى الأرض، وجعل وجهه بين ركبتيه وقال لغلامه: اصعد تطلع نحو البحر. فصعد وتطلع وقال: ليس شيء. فقال ارجع سبع مرات. وفي المرة السابعة قال: هو ذا غيبة صغيرة قد كف إنسان صاعد من البحر. فقال: اصعد قل لآخاب اشدد وانزل لئلا يمنعك المطر. وكان من هنا إلى هنا أن السماء اسودت من الغيم والريح، وكان مطر عظيم فركب آخاب ومضى إلى يذرعيل، وكانت يد الرب على إيليا فشد حقويه وركض أمام آخاب حتى تجيء إلى يذرعيل.
وقد صاحبت القوم هذه الفكرة عن النبوة الحاضرة عند الطلب منذ أوائل عهودهم إلى أواخر عهدهم بالأنبياء قبل ظهور السيد المسيح؛ فلم تكن النبوة عند القوم في هذه العهود كافة إلا صناعة مرادفة صناعة التنجيم، أو لصناعة الفراسة المنذرة بالكوارث المتوقعة؛ فهي إما استطلاع للخبايا أو صيحة فزع من نقمة «يهوا» الذي تعودوا أن يعاقبهم بالمصائب الحسية كلما انحرفوا عن سنته، وأشركوا بعبادته ربا آخر من أرباب الشعوب التي ينازعونها وتنازعهم على المرعى والمقام.
وما يكون للقوم أن يفهموا من النبوة معنى غير معناها هذا؛ لأنهم قد تعلموا من أحبارهم وكتبة أسفارهم أن أنبياءهم قد حلوا في محل العرافين العائفين، والسحرة والرقاة الذين ينقلون أقوال الآلهة في غير بني إسرائيل؛ فهؤلاء جميعا لا يصدقون ؛ لأنهم ينقلون المعرفة من أرباب غير «يهوا» رب إسرائيل، وأما شعب إسرائيل فقد قيل لهم: «... فيقيم لك الرب إلهك نبيا من وسطك من إخوتك مثلي له تسمعون، حسب كل ما طلبت من الرب إلهك في حوريب يوم الاجتماع قائلا: لا أعود أسمع صوت الرب إلهي! ولا أرى هذه النار العظيمة أيضا لئلا أموت. قال لي الرب قد أحسنوا فيما تكلموا؛ أقيم لها نبيا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه، وأما النبي الذي يطغى فيتكلم باسمي كلاما لم أوصه أن يتكلم به، أو الذي يتكلم باسم آلهة أخرى فيموت ذلك النبي، وإن قلت في قلبك كيف نعرف الكلام الذي يتكلم به الرب مما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصر؛ فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب بل بطغيان تكلم به النبي، فلا تخف منه.» (18 سفر التثنية). •••
وهكذا وقر في أخلاد الشعب من أحباره وعلمائه إلى عامة جهلائه أن الكشف على الغيب مرادف لمعنى النبوة، وأن وقوع الخبر هو امتحان الصدق الوحيد الذي يمتحن به الأنبياء الصادقون فيما يتحدثون به عن الإله، وأن الفرق بين أنبيائه وبين السحرة والعرافين والرقاة في الأمم الأخرى إنما هو فرق بين أناس يحسنون الكشف عن الغيب، وأناس يخطئون في هذه الصناعة؛ لأنهم ينقلون أنبياءهم عن آلهة كاذبة لا تستحق العبادة.
وإنه لمن المتفق عليه بين أتباع الديانات الكتابية أن بني إسرائيل لم يعرفوا النبوة على مثال أتم وأكمل من نبوة موسى الكليم، ومع هذا كان أرفع ما تصوروه من معنى وحي الله إليه - عليه السلام - أنه كان يخاطبه فما إلى فم وعيانا بغير حجاب، وفي ذلك يقول كاتب الإصحاح الثاني عشر من سفر الخروج إن الله «نزل في عمود سحاب ووقف في باب الخيمة ودعا هارون ومريم فخرجا كلاهما فقال: اسمعا كلامي، إن كان منكم للرب فبالرؤيا أستعلم له وفي الحلم أكلمه، وأما عبدي موسى فليس هكذا، بل هو أمين في كل شيء، فما إلى فم وعيانا أتكلم معه لا بالألغاز.»
صفحة غير معروفة