وحملقت في وجهه لحظة، وقلت: «الفراغ؟ إنه في الأرض، لقد ودعته منذ ساعات!» فقال غاضبا: «هراء، إنه في الزهرة، لقد ودعته أنا منذ دقائق!» فقلت له في غضب: «بل إنه في الأرض.» فقال في ثورة: «بل إنه في الزهرة!» قلت: «في الأرض.» قال: «في الزهرة!» قلت: «في الأرض.» قال: «في الزهرة!» وصفعني على وجهي. فتحت عيني، ورأيت الطبيب واقفا بجواري، يخبط بيديه على وجهي في صفعات لينة، وسمعته يناديني باسمي سهير ... سهير، مبروك يا ستي، خلاص العملية.
وتقلبت في الفراش مذهولة، أحس أن رأسي قد أصبح في ثقل الكرة الأرضية، وقلت في غضب: «في الأرض! في الأرض ...»
وسألني الدكتور ضاحكا: «إيه هو اللي في الأرض يا سهير؟» فقلت وأنا أتثاءب من أثر المخدر: «الفر... الفر... ا... ا... غ.»
لا شيء
كانت أنثى، في أنوثتها دفء، وفي جاذبيتها لهب. وكانت حرة لا يمتلكها رجل؛ لأنها تمتلك رجالا كثيرين يحبونها ولا تحبهم، وكلما أحبوها لم تحبهم، وكلما لم تحبهم أحبوها.
وكانت ذكية لم تبع نفسها لرجل؛ فكل امرأة مثلها يمتلكها زوج كالأسد، يراقبها ويحاسبها، وقد يصفعها أو يركلها، ثم يخرج يشكو منها لامرأة أخرى، ويبكي كالطفل بين يديها، لم تقبل أن تعيش مع الأسد وهو يزأر، وانتظرت في بيتها كالملكة ليأتيها الطفل الشاكي الباكي، وكم من أطفال اشتكوا وبكوا بين يديها، وكانت امرأة لكنها لم تكن نمرة. كان لها قلب ينبض أحيانا، وإن تراكم عليه غبار الطرق المتربة التي تسير فيها؛ فلم يكن لديها وقت لتنفض الغبار عن قلبها؛ لأنها مشغولة كرجال الأعمال وملاك الأطيان، تمتلك أطيانا من الرجال لا حد لها، من كل صنف، وكل طبقة، وتعرف كيف تجعلهم يضعون رءوسهم على حجرها، ويتنفسون بهدوء واستسلام، ثم يذرفون الدموع ويشتكون.
ولم تكن تسمع شكواهم؛ لأنها كانت تسرح دائما، تنظر بطرف عينها إلى الحياة بأستاذية وكبرياء؛ فالحياة تحت قدميها، كل شيء فيها موجود عندها في العربة، في الثلاجة، في الدولاب، على الرف، أو في جيب رجل، كل شيء سهل الحصول عليه من أي مكان، قريب أو بعيد. ليست في الحياة مسافات ولا مستحيلات عندها، الحياة التي تذل الملايين من النساء مثلها، وتربطهن في البيوت كالماشية، يغسلن جوارب أزواجهن، وتنصهر بشرتهن الرقيقة أمام نار الطهو والشي، وبعد أن يلتهم كل زوج الطعام الشهي، ويبدل الجورب المتسخ، ويصدر الشخطة أو التكشيرة، يفر من البيت والزوجة إلى الحياة ... إليها!
وتتلقاهم باسمة ناعمة معطرة؛ فهي لا عمل لها إلا أن تتزين وتتعطر، وتدلك ساقيها ويديها.
وكم تمنت هذه الحياة الخاملة، بلا واجبات من زمن طويل، حينما كانت في السابعة عشرة من عمرها، فتاة صغيرة تتعلم الآلة الكاتبة؛ لتحصل على عمل، وفي أول شهر قبضت فيه ماهيتها، خفق قلبها ولمعت عيناها من الفرح، وهي تخفي الستة جنيهات، بعد أن عدتها عشر مرات في بطانة حقيبتها، وضغطت عليها تحت إبطها، حتى لا يخطفها أحد الصبيان الذين يقفزون على سلم الترام، وأول ما وصلت بيتها أخرجت الجنيهات الستة لأمها، وهي تنظر في عينيها لتشبع نفسها من السعادة الضخمة، التي تحسها وتراها، واغرورقت عينا أمها بالدموع، وهي تحتضنها وتقبلها قائلة: «ربنا يخليك يا فريدة يا بنتي، خلاص ربنا فرجها علينا، وعوضنا بك عن المرحوم!»
ومن يومها وفريدة تحس أنها تفتح بيت المرحوم أبيها، وأنها تعول أسرتها، وأصبحت تثق في نفسها، كما يثق في نفسه أي رجل يفتح بيتا ويعول أسرة، ورفعت رأسها وهي تمشي؛ لتشعر العالم أي مسئولية ترعاها، وأي أهمية لوجودها. وحينما كان يعاكسها في الطريق شاب رقيع، كانت تنظر إليه شذرا، كأنها تتعجب من جرأته على معاكستها، هي التي تقبض ماهية وتعول أسرة. أو حينما توشك على دهسها عربة تتعجب، كيف لا يحترم الناس حياتها ويقدرون وجودها؛ لأنه إن ضاع يضيع معه وجود أسرة بأكملها.
صفحة غير معروفة