واحمر وجهه من لهجتها، ونظر إليها من قدمها إلى رأسها، كأنه يفحصها بلا إعجاب، ثم قال: «تقريبا يعني إيه؟»
وغاظتها نظرته الجريئة الوقحة، ولهجته الشديدة الآمرة، كان هو كذلك دائما؛ جريئا وقحا معتدا بنفسه مغرورا، لكنها لم تضق به كما ضاقت هذه المرة. كانت في العام الماضي لا يهمها شيء سوى أن تتفرج، وكانت تقبل الناس على علاتهم وبأخطائهم وعيوبهم؛ لأنهم كانوا لا يهمونها في شيء، لكنها اليوم، وبعد أن أحبت وتزوجت، يهمها زوجها وتهمها سعادتها، وهي لا تسمح لأي رجل أن يكلمها بلهجة شديدة آمرة، إلا زوجها في أوقات غضبه فقط ويعتذر بعدها، ولكن هذا الرجل من يكون؟ ذلك الشاب المستهتر الذي قابلته في الصيف الماضي، والذي لا مبدأ ولا عمل له، الذي يظهر على البلاج في موسم الصيف، كما يظهر التين الشوكي في شهر يوليو، والبلح في سبتمبر، مجرد كائن حي يمشي على رجليه، ويكسو صدره شعر أسود ويلبس في أصبعه الصغير خاتما من الماس، وأبوه كان باشا أيام الباشوات.
واحمر وجهها من الغيظ، وهي تراه يثني جسمه الطويل، ويجلس في برود بجانبها على الرمل، وانتفضت واقفة على ركبتيها، وهي تقول بشدة: «تسمح تقوم من هنا!» وأصابه برود أشد لثورتها، فأجاب بهدوء وعناد: «مش قايم!»
ولم يشعر إلا ويدها ترتفع، وتهوي على وجهه في لطمة قوية، وهي تأمره بلهجة حادة كالكرباج: «اتفضل قوم بسرعة!»
واحمر نصف وجهه الذي أصابته اللطمة، واصفر النصف الآخر، ونظر إليها نظرة ارتعدت لها مفاصلها، نظرة فيها دهشة وشر وحقد، نظرة رجل مصاب في كرامته، إلى أبعد حدود الإصابة، وفرد جسمه الطويل، وقام في تثاقل، ومشى خطوتين ثم استدار إليها، وقال في صوت متغير غريب: «لازم أدفعك تمن الصفعة دي!»
ودق قلبها بعنف، لماذا يقول هذا؟ وماذا يملك حتى يستطيع أن يفعل ضدها شيئا، ويغرمها ثمنا أي ثمن؟ وغاب لون الدم من وجهها وارتعشت أصابعها في الرمل، وأحست بيد قوية تمسك قلبها، لقد تذكرت الصورة، الصورة التي التقطت لها، وهي جالسة بالمايوه، وبجوارها ذلك الشاب يوشوشها في أذنها، كانت أيامها تحيا في فكرة معينة عن الحياة، تريد أن تعيش فيها فترة، وقد انتزعت نفسها من بين البشر لتتفرج عليهم، وهي ليست منهم، فماذا يضرها من صورة أو آلاف الصور؟ مجرد ورقة عليها رسومات! لكنها الآن تحس شيئا آخر.
صحيح أنها ورقة، ولكنها تسجل جزءا من حياتها، تسجل موقفا لها مع رجل، يستطيع من يراها، أن يحكي عنهما ألف قصة وقصة. وشعرت بالخوف فتذكرت الموت، وقالت لنفسها: الناس تموت كل يوم، واليوم الذي يفوت لا يعود مرة أخرى أي أنه يموت. ولكن هذا غير صحيح؛ الماضي قد لا يموت، قد تسجله أشياء تافهة مثل ورقة أو صورة، فيبعث حيا من جديد، ورقة حقيرة صغيرة، يذيبها قليل من ماء البحر، لكنها تقف أمامها كأنها ثلاثون يوما كاملة، بكل دقائقها وثوانيها، وكل حوادتها وشخصياتها ومفارقاتها، هذه الورقة في جيب هذا الرجل المغرور، إنها سلاح يمكنه أن يستعمله ضدها، والرجل الحقير لا يلهب حقارته مثل إهانة امرأة له.
وقضت هند صباحا سيئا، تفكر في الصورة وتتصور الرجل، وهو يعطي زوجها الصورة، ويحكي له قصة حب خرافية، وأي قصة حب يمكن أن تركب على صورة رجل وامرأة يتهامسان، وفجأة، أحست هند بيد على كتفها فانتفضت، كان هو زوجها وقد عاد ومعه السندوتشات وزجاجة بيرة، ووضع الأشياء وهو يقول لها باسما: «إنتي نمتي وللا إيه؟»
وابتسمت في إعياء، وهي ترد مازحة كعادتها: «إيه.» وضحك زوجها وهو ينظر في عينيها: «دمك خفيف، عمرك ما تنسي النكتة دي أبدا.»
ونظرت إليه هند بعناية، كأنها تراه لأول مرة وتفحصه، وتفتش في عينيه ويديه، عن مدى حبه لها وثقته فيها. رأت عينيه الباسمتين ويديه الهادئتين الواثقتين فهدأت، إنه حسين، زوجها الذي أحبته، والذي يملأ حياتها، ويستولي على قلبها، وتحس بكل الرجال إلى جانبه كأنهم نساء. وأعادت النظر إلى عينيه ويديه، إنه رجلها وحبيبها، ولكن ماذا يكون من أمره إذا رأى الصورة؟ وأحست بالقبضة تمسك قلبها، وسمعته يقول باسما: «ياللا يا هند قربي، أنا مت من الجوع!»
صفحة غير معروفة