ومر في طريقه إلى القهوة بمطعم كان يتناول به عشاءه في بعض الأحايين، فرأى على طواره مائدة ملأى بما لذ وطاب، يجلس إليها رجل وامرأة متقابلان يأكلان مريئا ويشربان هنيئا، وعلى بعد يسير جلس جماعة من غلمان السبل عرايا إلا من أسمال بالية، تغشى وجوههم وبشرتهم طبقة غليظة من غبار وقذارة؛ فلم يرتح لما بين المنظرين من تنافر، وشاركته حريته عدم ارتياحه فأبت عليه أن يمر بالمطعم مر الكرام، ولكن ما عسى أن يصنع؟ قال له فؤاده بعزم ويقين: «ينبغي أن يأكل الغلمان مع الآخرين.» ولكن الآكلين لا يتنازلان عن شيء من هذه الدجاجة أمامهما بسلام، هذا حق لا ريب فيه، أما إذا رمى بها إلى الأرض فتلوثت بالتراب فما من قوة تستطيع أن تحرمها الغلمان؛ فهل ثمة مانع يمنعه من تحقيق رغبته؟ .. هيهات، وربما كان التردد ممكنا في زمن مضى، أما الآن ... واقترب من المائدة بهدوء، ومد يده إلى الطبق وتناول الدجاجة، ثم رمي بها عند أقدام العرايا، وتحول عن المائدة وسار إلى حال سبيله كأنما لم يأت أمرا نكرا، غير عابئ بالزئير الذي يلاحقه مفعما بأقذع السباب والشتائم، بل غلبه الضحك على أمره، فاسترسل ضاحكا حتى دمعت عيناه، وتنهد بارتياح من الأعماق، وعاوده شعوره العميق بالطمأنينة والثقة والسعادة.
وبلغ القهوة فمضى إلى كرسيه واطمأن إليه كعادته، بيد أنه لم يستطع هذه المرة أن يشبك راحتيه حول ركبته ويستسلم لسكوته المعهود. لم تطاوعه نفسه؛ فقد فقدت قدرتها على الجمود، أو برئت من عجزها عن الحركة فنبا به مجلسه، حتي هم بالنهوض، إلا أنه رأى - في تلك اللحظة - شخصا غير غريب عن ناظريه، وإن لم تصله به أسباب التعارف. كان من رواد المقهى مثله، وكان جسما ضخما وأوداجا منتفخة، يسير مرفوع الرأس في خيلاء، ملقيا على ما حوله نظرة ترفع وازدراء، تنطق كل حركة من حركاته وكل سكنة من سكناته بالزهو، كأنما يثير الخلق في نفسه ما تثيره الديدان في نفس رقيقة مرهفة الحس، وكأنه يراه لأول مرة. بدا له قبحه وشذوذه عاريا، فغالبته هذه الضحكة الغريبة التي ما انفكت هذين اليومين تعابثه، ولم تفارقه عيناه، وثبتت خاصة على قفاه يبرز من البنيقة عريضا ممتلئا مغريا. وتساءل؛ أيتركه يمر بسلام؟ معاذ الله، لقد ألف داعي الحرية، وعاهده ألا يخالف له أمرا. وهز منكبيه استهانة، واقترب من الرجل فكاد يلاصقه، ورفع يده وهوي بكفه على القفا بكل ما أوتي من قوة، فرنت الصفعة رنينا عاليا، ولم يتمالك نفسه فأغرب ضاحكا، ولكن لم تنته هذه التجربة بسلام كأختها السابقة، فالتفت الرجل نحوه في غضب جنوني، وأمسك بتلابيبه وانهال عليه ضربا وركلا حتى خلص بينهما بعض الجلوس. وفارق القهوة لاهثا، ومن عجب أنه لم يستشعر الغضب ولا الندم؛ وعلى العكس من ذلك ألمت بحواسه لذة عجيبة لا عهد له بها من قبل، وافتر ثغره عن ابتسامة لا تزايله، وفاضت نفسه بحيوية وسرور يغشيان أي ألم، ولم يعد يكترث لشيء غير حريته التي فاز بها في لحظة من الزمان، وأبى أن يغيب عنها ثانية واحدة من حياته؛ ومن ثم ألقى بنفسه في تيار زاخر من التجارب الخطيرة بإرادة لا تنثني وقوة لا تقهر. صفع أقفية، وبصق على وجوه، وركل بطونا وظهورا، ولم ينج في كل حال من اللكمات والسباب؛ فحطمت نظارته، ومزق زر طربوشه، وتهتك قميصه، ونغضت ثنيتاه، ولكنه لا ارتدع ولا ازدجر، ولا انثنى عن سبيله المحفوف بالمخاطر، ولا فارق الابتسام شفتيه، ولا خمدت نشوة فؤاده الثمل؛ ولو اعترض الموت طريقه لاقتحمه غير هياب.
ولما آذنت الشمس بالمغيب عثرت عيناه المتجولتان بحسناء مقبلة متأبطة ذراع رجل أنيق المنظر، ترفل في ثوب رقيق شفاف، تكاد حلمة ثديها تثقب أعلى فستانها الحريري، وجذب صدرها الناهد عينيه فزادتا اتساعا ودهشة، وهاله المنظر، وكانت تقترب خطوة فخطوة حتى باتت على قيد ذراع.
وكان عقله - أو جنونه - يفكر بسرعة خيالية، فخطر له أن يغمز هذه الحلمة الشاردة! إن رجلا ما فعل ذلك على أية حال، فليكن هذا الرجل. واعترض سبيلهما، ومد يده بسرعة البرق وقرص! آه لقد انهالت عليه اللطمات واللكمات، وأحاط به كثيرون، ولكنهم في النهاية تركوه! لعل ضحكته الجنونية أخافتهم، ولعل نظرة عينيه المحملقتين أفزعتهم. تركوه على أية حال. ونجا ولم تكد تزداد حالته سوءا! وكان لا يزال به طموح إلى مزيد من المغامرات، ولكن لاحت منه نظرة إلى ملابسه، فهاله ما يرى من تمزقها وتهتكها. وبدلا من أن يأسى على نفسه راح يذكر ما دار بخلده صباح اليوم أمام المرآة، فلاحت في عينيه نظرة غائبة، وعاد يتساءل؛ لماذا يدع نفسه سجينا في هذه اللفائف تشد على صدره وبطنه وساقيه؟! وناء بثقلها، وشعر لوطأتها باختناق، فغليت مراجله، ولم يستطع معها صبرا، وأخذت يداه تنزعانها قطعة قطعة، بلا تمهل ولا إبطاء، حتى تخلص منها جميعا؛ فبدا عاريا كما خلقه الله، وعابثته ضحكته الغريبة، فقهقه ضاحكا، واندفع في سبيله.
الزيف
كان التياترو مكتظا بالنظارة، حيث كانت تمثل رواية البخيل لموليير، وكان جمهوره كالمعتاد خليطا من طلاب التسلية ومحبي الظهور ومدعي الفن وعشاق الخيال. وكان علي أفندي جبر، المترجم بوزارة الزراعة، بين الجالسين في الصفوف الأمامية، وكان يتتبع التمثيل بين اليقظة والنوم، واضعا خده على يده، ومسندا مرفقه إلى مسند المقعد. وكان قد طالع في بعض المجلات عن الرواية ما جعله يظنها آية من آيات الكوميدي، فجاء التياترو بنفس تواقة إلى الضحك والسرور، وسرعان ما خاب رجاؤه وفترت حماسته، وكاد يستسلم للنعاس، ولكن الأقدار أرادت أن تتبرع بتعويضه عن خيبته؛ ففي أثناء الاستراحة دنا منه النادل وانحني على أذنه، وقال باحترام وتأدب: هل للبك أن يتفضل بالذهاب إلى البنوار رقم واحد؟
ثم ذهب إلى حال سبيله، ونظر علي أفندي إلى البنوار رقم واحد فرأى الستار الأبيض مسدلا عليه، فأدرك أن به «حريما»، وقام من توه وغادر الصالة، وقصد إلى البنوار وهو يضرب أخماسا في أسداس، وطرق الباب مستأذنا، فسمع صوتا رخيما لا يعرفه يقول: تفضل.
فتردد لحظة سريعة لأنه أدرك - لدى سماعه الصوت الغريب - أن في الأمر خطأ، ولكنه كان من الرجال الذين تغلبهم على نفوسهم في محضر النساء جسارة غير محدودة، وحب للمجازفات، وثقة بالنفس وطيدة، فاقتحم الباب غير هياب، وصار وجها لوجه أمام السيدة الجالسة. وكانت في الأربعين ممتلئة الجسم ناضجة الأنوثة، يزين وجهها العاجي حسن تركي ممصر، ويدل على طبقتها العالية ثوبها الأنيق ونظرتها الرفيعة وحليها الثمينة، وقد بهر الرجل أمام روعة الحسن، وانحنى باحترام وهو يقول في إشفاق: «وا أسفاه، ستعلم السيدة بالخطأ وسرعان ما تنتهي المقابلة!» ولكن خاب ظنه لأن السيدة ابتسمت إليه تحييه كأنه هو المعني، وقالت برقة تعرفه بنفسها: أرجوك ألا يسوءك إقلاقي لراحتك .. أنا أرملة المغفور له علي باشا عاصم!
يسوءه! ينبغي أن يعد نفسه من المحظوظين في هذه الدنيا؛ لأن سيدة كتلك السيدة تقول له مثل ذلك الكلام بتلك اللهجة الرقيقة! ترى لماذا دعته لبنوارها؟ فهو لا يذكر أنه رآها من قبل، وإن كان يعلم علم اليقين أنه قرأ اسمها في بعض الأخبار الخاصة بالجمعيات النسائية، وخيل إليه غروره أنها ربما رأته من حيث لم يرها، وأنها ربما وقع في نفسها منه - كما حدث لغيرها، وإن كن لسن من نوعها - ما علقها به؛ فإذا صدق حدسه - والدلائل تجمع على صدقه - فهي تدعوه كما دعت قديما امرأة العزيز فتاها!
وأحس بنشوة فرح وزهو، وقال للمرأة بكل رقة وهو ينظر إليها كما ينظر الإنسان إلى شيء ثمين يملكه: العفو يا صاحبة السعادة .. خادمك.
صفحة غير معروفة