واستطاع نداؤه في هذه المرة أن يوقظه فتحرك رأسه، واضطرب شاربه كأنه جناحا نسر يخفقان، قال بلسان ثقيل متلعثم: من؟ - وصلنا يا صاحب السعادة. - وماذا تريد؟ - عفوا يا صاحب السعادة، تفضل بالنزول لتصعد إلى مخدعك.
ففتح الباشا عينيه المحمرتين وكأن النور اللطيف الذي ينير المكان آذاهما، فأغمضهما بسرعة وتحسس بيده ذراع زوجه العاري كأنه قربة مملوءة بالمياه، وقال بصوته الثقيل: يا هانم .. زينب هانم.
فشهقت المرأة شهقة قوية لو أصاب تيارها الباشا لابتلعته، وقالت بتبرم وسخط: من؟ - وصلنا. - وماذا تريد يا باشا؟ - تفضلي لنصعد إلى مخدعنا. - أصعد؟! .. أنا لا أستطيع أن أتحرك، فكيف لي بالصعود؟! - ما العمل؟ .. هل نقضي الليل في السيارة؟ - ولم لا؟ .. المقعد وثير لين كالفراش، وهاك ضجعة مريحة، فما معني التعب؟
فقال الباشا للسائق وهو ما يزال مغمض الجفنين: يا حسن .. اذهب أنت .. سننام ها هنا.
فارتبك السائق وقال بتحرج: العفو يا صاحب السعادة .. هذا غير طبيعي، وسيرى البواب في الصباح ويرى الخدم.
فانثنى إلى زوجه قائلا: يا هانم هذا غير طبيعي، وسيرى البواب في الصباح ويرى الخدم. - ومن الذي يكلمك؟ - السائق. - أف .. لا تضايقني .. ماذا يهمنا من البواب أو الخدم أو السائق؟
فقال الباشا للسائق بنفس اللهجة: أف .. لا تضايقني ... ماذا يهمنا من البواب أو الخدم أو السائق؟
فسكت الرجل، ولكن لم تطاوعه نفسه على الذهاب فوقف ينتظر، أما الباشا فأخرج منديله وجفف عرقه، وقال وهو يفك ربطة عنقه: الدنيا شديدة الحرارة.
فاعتدلت المرأة في جلستها، ولم تلبث أن صاحت: يا لطيف! - ما لك؟ - المقعد يميد بي كأني في أرجوحة!
وأرادت أن تمسك بشيء، فوقعت يدها المتخبطة على شارب الباشا فتألم الرجل، ونزع شاربه من كفها وهو يقول ضاحكا: دعي شاربي .. وهل تحسبينه حبل الأرجوحة؟ - أنا في غاية التعب. - شربت كثيرا يا زينب هانم .. شربت أكثر مما ينبغي لك! - وماذا كنت أستطيع أن أفعل سوى ذلك؟ الكل كان يشرب رجالا ونساء .. أنت نفسك شربت كثيرا يا باشا. - أنا متعود على الشرب يا هانم .. أنا أستطيع أن أشرب حانة كاملة في ليلة واحدة! - ومع ذلك لم تتمالك أعصابك الليلة .. وعلا صوتك بالضحك على غير عادتك، بل وضحكت مني أنا يا ناقص! - كيف ذلك؟ .. هذا مستحيل. - مستحيل! ألا تذكر ساعة خروجنا من البوفيه؟ .. كنت تسير ورائي فنظرت إلينا عديلة هانم، تلك المرأة الوقحة، وقالت: «كان الله في عون إبراهيم باشا؛ فهو زوج ومروض.» وضحك جميع المدعوين، وضحكت أنت أيضا! - أنا لا أذكر هذا. - طبعا لأنك لم تكن في وعيك، ومع ذلك فأنت تزعم أنك تستطيع أن تشرب حانه في ليلة واحدة .. أليس كذلك؟ ولكني انتقمت منك فضحكت منك مع الضاحكين بعد ذلك مباشرة. - وكيف كان ذلك؟ - كان جماعة من الحاضرين يتعجبون لنحافة قدك، فاعتذر الأميرالاي فتحي بك عن صغر حجمك بقوله: «إن شاربك الثقيل يعوق جسمك عن النمو.» فضحكت مع الضاحكات والضاحكين .. واحدة بواحدة. - يا له من ضابط وقح! - أنت المسئول عن جعلنا أضحوكة في كل مكان .. لماذا لا تقص شاربك؟ - أقص شاربي! هل جننت يا هانم؟! - وما وجه الجنون في هذا؟! .. إنه حمل ثقيل على جسمك الرقيق. - أيكون الرجل رجلا بجسمه؟! - أيكون رجلا بشاربه؟ - معلوم، انظري إلى مثلك، فأنت امرأة ولك جسم فيل .. ولكن هل توجد امرأة بشارب؟ - الحق أقول لك إني هممت مرة بقص شاربك في أثناء نومك .. لولا الخوف! - وما الذي أخافك؟ - أشفقت من أن يصبح زواجنا لاغيا. - ولمه؟ هل أنت زوجي أم زوج شاربي؟ - الحقيقة أنك بغير هذا الشارب تغدو غلاما لم يبلغ السن القانونية للزواج؟ - هذا هذر سكارى، والأولى بك أن تنحفي جسمك الهائل؛ فضخامته الشاذة هي المدعاة الحقيقية إلى السخرية .. ألم تري صديقاتك الليلة؟ .. كلهن نحيفات اللهم إلا راضية هانم، وهي على كل حال لا تزن نصف وزنك. - أنت المسئول عن وزني. - أنا؟!
صفحة غير معروفة