الحياة شاقة لا لذة فيها، إني أدرس وأنا قلق، وأصحح مئات الكراسات، ثم أذاكر كأنني تلميذ من التلاميذ، فمن يصدق بعد هذا أني أوشك أن أختم شهر العسل؟ وكيف أطمع في أن تطيب لي الحياة .. وما يخفي شيء عن عيني زوجتي؟ فهي تعلم بمتاعبي جميعا. وقد أقنعتها بضرورة سفري في بعثة، فاقتنعت ووعدت بدورها بإقناع والدها؛ فكلانا لا يمكن أن يتذوق طعم الحياة الحلو إذا استغرقني ذاك التيار العنيف من العمل والقلق وعدم الثقة بالنفس .. ومع هذا فلشد ما يحسدني أناس على زيجتي وعلى الدرجة السادسة!
7 نوفمبر:
حضر درسي اليوم مسيو روبير مفتش اللغة الفرنسية.
وكنت أتوقع حضوره بين يوم وآخر أستفز حنانه القلق، لقد أمكنني أن ألزم التلميذ طاهر - ابن الفرنسية - حد الصمت، ولكن كيف أنجو من مخالب هذا المفتش؟ .. وجاء الرجل واختار موقفه في نهاية الفصل، وجعلت أشرح الدرس بعناية فائقة مختلسا - بين حين وآخر - النظرات من وجهه المعتصم بلحيته السوداء المجللة بالمشيب، فلم أستطع أن أنفذ من عينيه الجامدتين إلى حقيقة مشاعره، ورأيته يتحرك متمهلا ويفحص بعض الكراسات، فمضى قلبي يروح معه ويجيء، ثم نظر نحوي وقال بصوت مرتفع: «مسيو.» فأمسكت، واتجه نظري نحوه وقد تملكني الارتباك، فطلب إلي أن أوجه إلى التلاميذ أسئلة عن الموضوع، فصدعت بالأمر حامدا الله على أنه لم يدعني إلى محادثته علانية، ثم وجهت عدة أسئلة في لهجة مضطربة، خصصت التلميذ طاهر بأكثرها.
وفي نهاية الدرس خلا الرجل بي، وحدجني بنظرة ثاقبة ثم سألني عن مؤهلاتي، فأهاج سؤاله دمي وأجبته بالحقيقة، فلم يخف دهشته، واعتذرت عن الواقع بأني لا ينقصني إلا التمرين على الكلام، فقال لي بلهجة باردة: «ولكن يا سيدي ليس المدرس إلا معلم كلام.» فغصصت بقوله وسكت.
وفي هذه الساعة التي أكتب فيها تجلس زوجي إلى أبيها تلح عليه في وجوب سفري بالبعثة.
15 يونيو:
أما هذا فيوم عصيب سأذكره ما حييت؛ ففي صباحه كان امتحان الإملاء للغة الفرنسية، وفي مسائه كان الامتحان الشفوي، وكان علي أن أقف على منصة أنا ونفر من المدرسين الفرنسيين لنملي على الممتحنين، فاتخذت مكاني مضطرب النفس خافق القلب لا أدري كيف يعلو صوتي بنطق كلمات لا أحسن نطقها على مسمع من المدرسين الفرنسيين والمراقبين ورئيس اللجنة. وشعرت بحرارة تلفح وجهي ورأسي، وأوشكت جسارتي أن تخونني، وكان ترتيبي في الإلقاء الثاني بعد مسيو بوابيه مباشرة، فقست المسافة التي تفصل بيننا بعيني وأرهفت سمعي، وألقيت به إليه لألتقط حركاته الصوتية التقاطا دقيقا. وبدأت الإملاء فاستجمعت انتباهي في أذني اليمنى متناسيا ما حولي، وأملى الرجل عبارته الأولى فحاكيته مخرجا مخرجا، ولكن الظاهر أن صوتي لم يرتفع للدرجة المطلوبة ولم يتضح كما ينبغي؛ لأني سمعت ضجة من حولي وأصواتا تهتف بي: «مرة ثانية من فضلك.» فتميزت من الغيظ والحنق؛ لأنه لم يبق في رأسي من النطق الصحيح إلا أصداء، واضطررت إلى الإعادة مخاطرا.
وتكرر الإملاء فالإصغاء فالترديد فالعذاب، وما لبثت أن أدركت أن أنظار بعض المراقبين متجهة صوبي، فتضاعف اضطرابي وحرجي، ولمحت واحدا منهم يبتسم ابتسامة تدل على الهزء والسخرية، فغلى دمي، وتركت المنصة أخيرا في حالة إعياء وألم شديدين.
ولم يمض على عذابي هذا بضع ساعات حتى عدت مرة أخرى إلى المدرسة لأمتحن الشفوي، وكان الممتحنون مقسمين إلى لجان، تتكون كل لجنة من مدرسين، وعرفت أني في لجنة «ج»، ووجدت زميلي ينتظرني بها، وهو شاب فرنسي في مقتبل العمر، فحييته بلطف وابتسمت إليه ما وسعني اللطف والتودد، ولم يداخلني شك في عجزي عن لعب هذا الدور الجديد، فرأيت أن أظفر بوسائل أخرى .. جالست الشاب وقدمت له سيجارة فاخرة، وطالعته بنظرة منكسرة حزينة، فسألني عما بي فأخبرته بأني متعب مريض. وهكذا فعلت كما يفعل التلاميذ الكسالى استدرارا لرحمة الممتحنين وتساهلهم. ولما بدأ الامتحان قدمت له سيجارة أخرى، وطلبت إليه أن يعفيني من امتحان المناقشات رحمة برأسي مكتفيا بأن أمتحن التلاميذ في المطالعة، وقبل الشاب بسرور، وأخرجت علبة السجائر الفاخرة، ووضعتها على حافة القمطر مفتوحة ثم دعوت فراشا وطلبت القهوة.
صفحة غير معروفة