فابتسمت ابتسامة دلت على أنها سرت للقلق الذي بعثه هذا السؤال، وأجابته: نعم لي .. ولكنهم لم يجاوزوا عهد الطفولة، ولو كان الأمر كما تتوهم ما أوجب أدنى خوف أيها الرعديد الغيور .. والآن هات فمك أودعك ... وهيا نقول معا هذه الكلمة المروعة التي تفزع لها القلوب: «أستودعك الله.»
من الغد يصبح لنا في قنا حبيبان عزيزان؛ حبيبة القلب عائدة، وصديق الصبا وزميل عهد الدراسة الأستاذ أحمد مرزوق المدرس بمدرسة قنا، ولكنه بينما يتصل بصديقه بالكتابة فهو محروم بحكم الظروف من تمام هذا الاتصال الروحي بحبيبته؛ لأن حبهما ما يزال سرا خفيا لما يدر بأمره الأهل.
وانقضت أربعة أيام على سفر عائدة، ثم وصله منها كتاب جاء فيه : «حبيبي حسني، أعجب لهذه الوحشة كيف تجثم على صدري وأنت معي .. نعم أنت معي لم تفارقني لحظة سواء في ضجيج النهار أو في سكون الليل؛ معي وأنا أرسل الطرف من نافذة القطار أشاهد الحقول الممتدة وأشجار النخيل المبعثرة؛ معي وأنا بين أهل عمي أتلقى الأحاديث وأرد عليها، وأضاحك هذا وأسمع لذاك؛ معي في كل مكان وكل حين، فلا عجب لنفسي بعد ذلك أن هزها الحنين إليك، أو استشعرت وحشة وضيقا في البعد عنك، أو ألهبها الشوق عذابا وجوي.
وأرجو ألا تتهمني بالتكاسل عن الكتابة إليك؛ فبيت عمي عامر بالأطفال، وهم لا يتركونني لحظة أخلو إلى نفسي؛ وقد انبعثت كلمات هذا الكتاب من شعوري، وامتلأ بها عقلي، وتمثلت في حواسي، وحفظتها عن ظهر قلب قبل أن تؤاتيني الفرص فأسطرها لك خلسة على ضوء القمر المتسلل من نافذة حجرتي، والعيون قد أغمضها عني المنام .. فاعذرني إن تأخرت عنك رسائلي، وارجع إن شئت إلى قلبك؛ فاعتقادي أنه يملي عليك عن لساني ما أحب أن أقوله لك دائما.
أما عن قنا فجوها دافئ جميل، وخلا ذلك فنحن في منفى، ولولا ما يربحه أبي فيها من صحة وعافية ما تركته يسكن إليها لحظة من الزمان.»
فأخذ من الكتاب كل ما استطاع أن يمنحه من العزاء والسلوة والسعادة.
وكان صديقه مرزوق لا ينقطع عن مراسلته وإن خلت كتابته من الطرافة والجدة؛ فهي التحيات المحفوظة وبث الأشواق والتلهف على إدبار العام الدراسي وإقبال العطلة الصيفية، إلا أنه أضاف إلى هذه المحفوظات في آخر خطاب ما نصه: «طالما قلت لك إني أعيش في قنا كما عاش أبونا آدم قبل أن يخلق الله منه أمنا حواء. لا يقع بصري على وجه امرأة قط، وإن كنت أرى أحيانا بعض الأصدقاء يشيرون إلى كتلة من الثياب السوداء الملفوفة تسير كعمود من الدخان الكثيف، وأسمعهم يقولون: انظر إلى هذه المرأة.
ولكن وقع بالأمس ما يعد حدثا تاريخيا في حياة قنا؛ إذ حضر الدكتور سامي حسني مفتش الصحة إلى البستان العمومي وفي صحبته غادة جميلة سافرة الوجه، فهز البلد وزلزل كيانه. إنه رجل جسور لا يعبأ بآراء المتزمتين، وتجده دائما على استعداد للرد على تطفل المتطفلين بما يجعله مثلا وعبرة، ولم يلبث أن شاع الخبر وملأ الأسماع؛ فهرع الموظفون من مدرسين ومهندسين وكتبة إلى البستان وهم يسوون أربطة الرقبة ويحكمون أوضاع الطربوش على رءوسهم؛ فلو رأيت البستان حينذاك لحسبته حديقة غناء في مصر الجديدة أو قصر النيل.
إنها شابة جميلة تحمل في طياتها عطر القاهرة المعبق، فليهنأ قفر قنا بهذا العطر العذب.»
فخفق قلبه لدى مطالعة الكتاب، ولم يداخله أدنى شك في معرفة صاحبة الشخصية الجميلة التي أثارت لوعة الشباب في قنا.
صفحة غير معروفة