فنظرت إليه بعينيها الصافيتين متسائلة حيرى، فقال لها الرجل باقتضاب مفيد: جاءك رجل يطلب يدك.
وذكرت لتوها رجل الفيلا، ودق قلبها بعنف، ولاحت في عينيها نظرة ارتياع، فهتفت به منكرة : يا خبر .. كيف تفاتحني بهذا يا أخي؟!
فقال الرجل بهدوء ووقار وحزم: ولم لا؟! .. أصغي إلي .. أين أبونا وأين أمنا؟ الحزن إذا زاد عن حده صار معصية لإرادة الله، فلينظر الأحياء إلى حياتهم، أما الأموات فلهم رحمة الله عوض عن الدنيا وما فيها؛ فليس هو في حاجة إلى حزنك. كلا ولن يغني عنه وفاؤك، فتدبري أمرك بعين الحكمة.
وضمت زوج شقيقها صوتها إلى صوته، وتكلمت بمثل حماسته وأكثر، فقالت نعيمة لنفسها: لقد تحالفا معا، ولعلهما يرحبان بالرجل كي يريحهما منها؛ فما من شك في أنها عالة ثقيلة عليهما وأنها ضيقت عليهما البيت، فاستمسكت بهذا الخاطر وأدارته في نفسها حتى ملأها، وكانت في الحقيقة اقتنعت بكل ما قاله أخوها من أنها لن تقيم على الحزن إلى الأبد، وأن حياتها أولى بالرعاية من موت الآخرين، ولكنها أبت أن تفكر في غير هذا الخاطر الذي توهمته توهما أو فرضته فرضا وآمنت به بعناد، بل جعلت - فيما بينها وبين نفسها - تلوم أخاها على برمه بها؛ الأمر الذي ربما أجبرها على اختيار ما لا تود، أما شقيقها فاستدرك يقول: ولا تخشي لومة لائم؛ فالرجل على استعداد تام لتأجيل الزواج حتى ينتهي العام.
وتركها بلباقة إلى أفكارها ثم كر عليها مرة أخرى صباح اليوم الثاني وسألها عما ترى .. ورأت نعيمة أن تلوذ بالصمت، فطاب أخوها نفسا وأدرك أنها وافقت، وسارت الأمور في مجراها الطبيعي. ولما جاء يوم جمعة بعد الخطوبة ذكرت القبر والزيارة المعتادة وتساءلت حيري: هل يجوز أن يراها في الطريق الذي تعود أن يراها فيه .. أليس الوفاء للقبر خيانة له؟ .. لشد ما يشق على الإنسان قطع عادة عزيزة، ولكن ما جدوى الزيارة الآن؟ .. لقد رضيت باستقبال حياة جديدة؛ فأولى لها أن تأخذ نفسها بالرضاء والقبول. نعم حسبت يوما أن ذاك القبر سيكون قبلتها إلى الأبد، ولكنها لم تعمل حسابا للزمن؛ الزمن الذي يذيب الصخور ويفتت الصروح ويغير وجه البسيطة، أليس بقادر أن يمسح عن قلبها شجونه؟ وقرأت هذه المرة الفاتحة على البعد، وقالت لنفسها إن البعد لن يمنع رحمة الله من أن تؤنس الثاوي في قبره، ومضت الحياة في يسر فانتصف العام وتوجه قلبها وجهة جديدة، فاطرح الحزن وأشرق بنور أمل جديد، وتطلع للغد بعين ملؤها الرجاء والحب. وجاءتها المكافأة وهي على تلك الحال فلم تفكر في تجديد القبر المهدم ولا في غرس الفناء المعفر، ولا عاتبتها نفسها على إهمالها. والحق أنها كانت عن ذلك في شغل من أمر جهازها الجديد وإعداد ثياب الحياة الزوجية الجديدة، وزاد من انشغالها عجز أخيها عن مساعدتها المساعدة الجدية التي تريدها، فناءت بحمل ثقيل رفعت المكافأة عن كاهلها بعضه لا كله، حتى ذكرت يوما فناء المقبرة الذي اقترح الدافن عليها مرة أن تبيعه أو تبيع نصفه.
وغلبها الوجوم للذكرى العابسة إلا أن الوجوم ذهب لحال سبيله، ولبثت تفكر في ذاك الاقتراح القديم، وتمنت لو تستطيع أن تسرق خطاها إلى الدافن وتحدثه بأمره .. ولكنه كان تفكيرا عقيما لأن المدفن لم يعد ملكا لها فلا تستطيع التصرف في قرش من ثمنه .. ولعل هذا ما ملأ نفسها أسفا، إلا إنها التمست أسبابا أخرى لهذا الأسف فجعلت تلوم نفسها على قسوة أفكارها وتلعن الحياة التي تقضي سنتها بأن يكون موت الوفاء عين الحكمة أحيانا.
وقبل أن ينتهي العام بأربعة أشهر قال لها الرجل الصبور وقد اطمأن إلى ظفره بقلبها: ما جدوى الانتظار هذه الأشهر الأربعة؟! ألا ترين أننا في أواسط الصيف وأنه يحسن بنا أن نمضي شهر العسل في رأس البر؟
فخفضت عينيها كي لا يقرأ فيهما ما أرادت كتمانه، وصمتت لحظات كأنها مغرقة في تفكير عميق، ثم تمتمت بصوت خافت: ليكن ما تشاء.
المرض المتبادل
فرغ الطبيب من الكشف على الزائر الخامس في صباح ذلك اليوم، ولبث ينتظر المريض السادس، فدخلت سيدة مقنعة رشيقة القامة وسفرت عن وجه غاب جماله البهي خلف تجعدات الألم كوردة بيضاء سفا عليها عجاج الخمسين، وقد بادرته هاتفة: الغوث أيها الطبيب!
صفحة غير معروفة