أى تريك زجاجة الخمر القذى من قدامها وهى قدام القذى من ذاقها أى الحمر أو الزجاجة، أى خمرها يتمطق، أى يمتص فمه وشفتيه للذتها، وقل من دون الله بمعى من دون أولياء الله، وأن المراد بشهدائكم فصحاء العرب ليشهدوا أن ما آتيتم به مثله. فإن العاقل لا يرضى لنفسه أن يشهد بصحة ما اتضح فساده، لرجوع ذلك عليه بالذم، إذا نسب إلى الجهل وعدم التمييز، فليسوا بشاهدين لكم، وقد اعترف الفصحاء بإعجاز القرآن، وكان قد تحدى الله به من حيث تأليفه ومعانيه وإخباره بالغيب، وكان فى زمان هاجت فيه فحول الشعراء، وفصحاء الكلام، فتحداهم بتأليفه كما تحداهم بمعانيه وإخباره بالغيب، وعجزوا كلهم وانكشفوا. وقد قال الوليد بن المغيرة فى وصف القرآن والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أصله لغدق وإن أعلاه لمثمر... والله أعلم. والآية نص فى أنهم كاذبون فى ادعائهم الإتيان بمثله إذ قال { إن كنتم صادقين } وقال
فإن لم تفعلوا...
إلخ الآية. والصدق الإخبار المطابق للواقع سواء طابق اعتقاد المتكلم أم لا، وقيل بشرط أن يطابق الاعتقاد عن دلالة أو أمارة. وقيل هو مطابقته لاعتقاد المتكلم، سواء كان اعتقاده حقا أو خطأ. فالأول مذهب الجمهور، والثانى مذهب الجاحظ، والثالث مذهب النظام. فالكذب على الله عدم مطابقته للواقع، سواء طابق الاعتقاد أم لا. وعلى الثانى عدم مطابقته للواقع مع اعتقاد أنه غير مطابق. وعلى الثالث عدم مطابقته اعتقاد المتكلم، ولو كان خطأ ولا واسطة بين الصدق والكذب إلا فى مذهب الجاحظ المذكور ويوصف المتكلم والكلام بالصدق والكذب، ومرادى بمطابقة الإخبار مطابقة حكمه، فان الصدق والكذب راجعان أولا إلى الحكم، وراجعان إليه بالذات، أعنى أنهما يرجعان إليه بلا تفرع على شىء، ولو تفرعا فى الرجوع إليه على شىء لم يكن رجوعهما أولا، وهما راجعان إلى الإخبار ثانيا، راجعان إليه بالواسطة، وذلك أن الإخبار إنما يقع بعد الحكم، فهو ثان بواسطة الحكم.
ومرادى بالحكم هنا العزم على إثبات شىء، يقطع النظر عن كونه صدقا أو كذبا. ومرادى بالواقع فى قولى المطابق للواقع ونحوه ما فى نفس الأمر. وإن شئت ففسر الواقع بما هو بحاله الذى عند الله، بحسب معتاد الناس، وإن شئت فقل هو الخارج الذى يكون بنسبة الكلام الخبرى. فالخارج فى مقتضى قولك قام زيد هو القيام الماضى. وفى قولك يقوم هو القيام أو المستبقل. والنسبة التامة تعليق أحد الأمرين بالآخر، بحيث يحسن السكوت. كقام زيد. والناقصة تعليق أحد الأمرين بالآخر، حيث لا يحسن السكوت كغلام زيد وإن قام زيد. والنسبة إما ثبوتية أو سلبية يعتقدها المتكلم إما صادقا فيها أو كاذبا. وهذه النسبة الذهنية. والسامع بجزم بالنسبة إنها موجودة مع قطع النظر عما فى اعتقاد المتكلم، إما موافقة لنسبة المتكلم فصدق، وإما مخالفة فكذب. وقول القائل السماء فوقنا فصدق عند الجمهور، ولو اعتقد أنها تحتنا لمطابقته الواقع. وقوله تحتنا كذب، ولو اعتقده لعدم مطابقة الواقع. وأما على قول الجاحظ فقولك السماء فوقنا معتقد أنها قوقنا صدق، وقولك معتقدا أنها تحت كذب. وأما على قول النظام فقولك السماء تحتنا معتقدا أنها تحتنا صدق. فقولك فوقنا غير معتقد أنها فوقنا كذب. والمراد بالاعتقاد الحكم الذهنى الجازم أو الراجح، فيعم العلم وهو حكم جازم لا يقبل التشكيك. والاعتقاد المشهور وهو حكم جازم يقبله. والظن وهو الحكم بالطرف الراجح، فكل ذلك صدق. فيخرج الموهوم فإنه كاذب لأنه الحكم بخلاف الطرف الراجح، فليس بصدق عند النظام لخلوه من الاعتقاد المذكور، الذى هو الحكم الذهنى الجازم أو الراجح، وأما المشكوك فكذب أيضا لعدم ذلك الاعتقاد فيه، أيضا لأن الشك التردد بين الطرفين بلا ترجيح. وإذا كان الكلام الكاذب خبرا فكيف لا يكون كلام الشك خبرا، مثل أن تقول قام زيد، مع الشك، فلا يقال المشكوك ليس صدقا ولا كذبا، واستدل النظام بقوله تعالى
إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون
لأن الله - جل وعلا - نسبهم إلى الكذب فى قولهم { إنك لرسول الله } مع أنه مطابق للواقع إذ لم يعتقدوا أنه رسول الله، فسماه كذابا إذ قالوه من غير أن يعتقدوه. وأجيب بأنه إنما نسبهم إلى الكذب فى ادعائهم اعتقاد رسالته، ولا شك أن هذا الادعاء غير صحيح، لأنهم لم يعتقدوها. وهذا الادعاء مستفاد من المقام، لا من خصوص قولهم { نشهد } لأنه ليس بإخبار بل إنشاء فضلا عن أن يقال إن قولهم { نشهد } غير مطابق للواقع.
وأجيب أيضا بأن المعنى إنهم لكاذبون فى المشهود به، وهو الرسالة، إذ لم يثبتوها فى اعتقادهم، فإثباتهم إياها بألسنتهم كذب إذ لم يوافقها اعتقادهم، فهم عالمون بأنهم كاذبون فأخبرنا الله سحبانه بهذا الكذب الذى صدر منهم، وعلموا به ولو كان فى نفس الأمر صدقا، لمطابقته الواقع الذى هو ثبوت الرسالة عند الله. وإن قلت هل يصح أن يجاب أيضا بأن المعنى إنهم لكاذبون فى تسمية قولهم { إنك لرسول الله } مع عدم اعتقادهم رسالته شهادة، لأن موافقة القلب للنطق مشروطة فى الشهادة؟ قلت لا يصح أن يجاب بذلك لأن نسمية ما ليس شهادة باسم الشهادة خطأ لا كذب لأن التسمية ليست إخبارا. ولو قلت مشيرا إلى السماء هذه الأرض ممطرة، لكنت خاطئا فى تسيمة السماء أرضا، لا كذبا لأنك أردت السماء الحق. وإنما تكون التسمية كذبا، حيث جعل فيها كلام تام مثل قولك هذا الهيكل العلوى أرض، واسم هذا الهيكل العلوى أرض لأن سلمنا تسمية التسمية كذبا على الإطلاق إذا خالفت الواقع لتمنعن اشتراط موافقة القلب للنطق فى اسم الشهادة بل نشرطها فى المشهود به. وأجيب أيضا بأن التكذيب راجع إلى حلف المنافقين وزعمهم أنهم لم يقولوا لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا لأن الآية نزلت بعد وقوع هذا منهم. وتبقى أربعة أقسام لا تسمى صدقا ولا كذبا عند الجاحظ المطابقة مع عدم اعتقادها، والمطابقة بدون اعتقاد أصلا، وعدم المطابقة مع اعتقاد المطابقة، وعدم المطابقة بدون اعتقاد أصلا، وأما الصدق فالمطابقة مع اعتقادها وأما الكذب فعدهما مع اعتقاد عدمها فهذه ستة أقسام فالصدق والكذب بتفسير الجاحظ أخص منهما بتفسير الجمهور والنظام، واستدل الجاحظ بقوله تعالى
افترى على الله كذبا أم به جنة
لأن الكفار حصروا إخبار النبى - صلى الله عليه وسلم - بالحشر فى الافتراء والإخبار حال الجنة على سبيل منع الخلود ، ولا شك أن المراد بقولهم { أم به جنة } أن الإخبار حال الجنة، غير الافتراء لأنهم أتوا به قسيما للافتراء، ولا شك أن الإخبار حال الجنة غير الصدق أيضا إذ لم يعتقدوا الصدق بل اعتقدوا عدمه، ولا شك أنه ليس معنى قوله { أم به جنة } أم صدق فنحصل فى الجملة افتراء. وإخبار حال الجنة وصدق وجعل عدم اعتقاد الصدق دليلا على عدم إرادتهم كونه صدق لا على عدم كونه صادق فضلا عن أن يعترض بأنه لا يلزم من عدم اعتقاد الصدق عدم الصدق وأجيب بأن معنى { أم به جنة } أم لم يفتروا فعبرو عن عدم الافتراء بالجنة لأن المجنون لا افتراء له، لأن الافتراء هو الكذب عن عمد، ولا عمد للمجنون فعدم الافتراء المعبر عنه بالجنة قسيم الافتراء، والافتراء أخص من عدم الافتراء.
والمراد بعدمه الكذب بلا عمد، فيكون ذلك حصر للكذب فى نوعين الكذب عن عمد والكذب بلا عمد. ولو سلمنا أن الافتراء بمعنى مطلق الكذب عمدا أو بلا عمد، لقلنا إن المعنى أقصد الافتراء أى الكذب أم لم يقصد، بل كذب بلا قصد لما به من الجنة، وتفسير الافتراء بكذب العمد لا بمطلق الكذب صح عن أئمة اللغة، ودل له استعمال العرب، فإن قلت فهل يشترط فى الإخبار القصد، وإن لم يكن القصد لم يسم الكلام إخبارا فلا يسمى كلام المجنون ونحوه كالنائم والساهى ممن لا قصد له إخبارا لأنه لا قصد فيه يعتد به، فيكون مرادهم حصره فى كونه خبرا كذبا أو ليس بخبر لصدوره حال الجنة، فلا يثبت خبر ليس صادقا ولا كاذبا، قلت الذى عندى تسمية اللفظ المفيد من المجنون ونحوه كلاما، لظهور أن مرجع التسمية به إلى التلفظ. وقد تلفظ وركب وأفاد. ولو اشتهر عدم تسمتيه كلاما، ولا يسمى عندى إخبارا لأن مرجع التسمية بالإخبار الصدق والكذب، ونحو المجنون لا يسمى صادقا ولا كاذبا بالعدم قصده، وهذا معروف فى القلب معتاد، وإذا أطلق على كلامه الصدق، فعلى معنى الاتفاق، وإذا أطلق عليه الكذب فعلى معنى الخطأ وعدم الاتفاق.
صفحة غير معروفة