ويتخطف الناس من حولهم
لكن بالبناء للفاعل، بخلاف يتخطف الناس فإنه للمفعول، وفى تلك القراءات كلها مبالغة غير قراءة الجمهور ومجاهد، والفعل فى الجمع متعد. { كلمآ أضآء لهم مشوا فيه } كل ظرف زمان أساغ ظرفيتها كونها مضافة لمصدر نائب عن اسم الزمان، وما مصدرية أى كل إضاءته، أى كل زمان إضاءته، وهو متعلق بمشوا وضمير أضاء وضمير فيه عائدان إلى البرق، ويقدر مضافان فى الثانى، أى مشوا فى مطرح نوره، أو الظرفية التى أفادتها فى مجازية لا حقيقة، فلا يقدر شىء، أو يقدر واحد، أى فى نوره، وإن قدرنا هكذا فى مطرحه كانت حقيقة أيضا، ومفعول أضاء محذوف، أى كلما أضاء لهم مومضا أو شياشجره، أى نوره مشوا فى مطرح نوره، فالهاء عائدة إلى البرق، ويجوز عودها إلى الوضع الذى أضاء لهم المحذوف، ويجوز كونه لازما أى كلما ظهر لهم البرق ولمع مشوا فيه، ويدل له قراءة ابن أبى عبلة كلما أضاء لهم بترك الهمزة الأولى والهاء للبرق، ويجوز عود ضمير أضاء إلى الله على الأوجه كلها، وجملة مشوا مستأنفة أو حال من البرق أو من ضميره فى يخطف، وفيه الأوجه السابقة فى يكاد البرق.
. إلخ، وعلى الاستئناف فهو يأتى كأنه قيل ما يفعلون فى حين خوف البرق وحين خفته فقال { كلمآ أضآء لهم مشوا فيه }. { وإذآ أظلم عليهم قاموا } والجملة هذه معطوفة على مشوا فيه، فعلى أن الظروف والفضلات لسن من الجملة، فالمعطوف قاموا على أنها منها فالمعطوف إذا وشرطها وجوابها، فإذا تقرر هذا علمت أن جواب إذا ونحوها قد يكون له محل، ويدل على ظرفية كل مقابلته بإذا الظرفية ، وإنما قال مع الإضاءة كلما، ومع الإظلام إذا، لأنهم حراص على المشى، فكلما أمكنت لهم مشية بادروها، وليس القيام عند الإظلام بهذه المنزلة، ومعنى قاموا. وقفوا وتركوا المشى، كقولك قامت السوق أى سكنت، ضد قامت بمعنى نفقت، وقولك قامت بمعنى سكنت لانتهائها، وقام الماء جمد وترك المشى الحابس، وكأنه قيل وإذا أظلم عليهم قاموا، وزعم بعض أن الإقامة عند الإظلام مراد تكريرها، وأن ترك ذكر تكريرها استغناء بذكره فى الإضاءة، أو لاستفادته من الإظلام، فإن تكرير الإضاءة لا يتحقق إلا بتكرير الإظلام، وهذا الوجهان لا حاجة إلى ذكرهما، أما الأول فلأنه لا دليل عليه، وأما الثانى فلأنه ظاهر صريح الأخذ من بعض اللغة، فلا يحسن أن يجعلا مقابلين لما ذكرته أولا ولا رادين له، فإنما ذكرته أولا هو أنه ذكر اللفظ الذى هو نص مسوق لمجرد التكرير، لأنه لا تسلم دلالتها عليه، وإذا كان المعنى عليه فالمفيد له المقام لا هى، وأظلم لازم وضميره للبرق، ويجوز كونه متعديا فضميره للبرق، أو لله، أى أظلم الله عليهم ممشاهم، أو أظلمه عليهم البرق بسبب خفاء به، والمتعدى من ظلم بمعنى كان لا ضوء فيه، ويشهد للتعدى قراءته يزيد بن قطيب أظلم بالبناء للمفعول ثم ظهر لى أنه يحتمل أن يكون فى قراءة لازما كما يقال مر يزيد فليس نصا فى التعدى، والنائب على كل حال هو قوله { عليهم } سواء كان لازما أو متعديا بالجواز نيابة الظرف عن فاعل متعدى إذا لم يذكر مفعوله، ويحتمل على بعد أن يكون متعديا ونائبه ضميره عائد إلى الممشاء المدلول عليه بالمقام إذ لم يتقدم له ذكر، وجاء متعديا فى قول حبيب بن أوس
هما أظلما حالى ثمت أجليا ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب
فحالى مفعول أظلم، ويحتمل أيضا كونه ظرفا فيكون أظلم لازما، وهو من المحدثين لا يستشهد بكلامه فى اللغة والنحو والصرف ونحو ذلك، لكنه عند قومنا ثقة من علماء العربية، فيجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه، كما يقال ذلك فى سيبويه ونحوه، يقال لو لم يرووا مثل ما قالوا عن العرب ولم يستمعوا نظيره لما قالوه. وبحث التفتازانى بأن مبنى الرواية على الوثوق والضبط، ومبنى القول على الدراية والإحاطة بالأوضاع والقوانين، والإتقان فى الأول لا يستلزم الإتقان فى الثانى، والقول بأن قوله بمنزلة نقل الحديث بالمعنى ليس بسديد، بل هو بعمل الراوى أشبه، وهو لا يوجب السماع، والمحدث بإسكان الحاء وفتح الدال الشاعر الذى أحدثه الله - جل وعلا - بعد الصدر الأول من الإسلام، كحبيب بن أوس والبحترى وأبى نواس، ولا يستشهد بكلامهم لأنهم بعد فساد الألسنة، ويقابلهم الجاهليون كامرئ القيس وزهير، والمخضرمون وهم من أدرك الجاهلية والإسلام كحسان ولبيد، والمتقدمون من أهل الإسلام كالفرزدق وجرير، ويستشهد بكلامهم، أو المحدث، بفتح الحال والدال المشددة من يلهمه ويلقى الغيب فى روعه، أعنى فى قلبه كأن أحدا يكلمهم ويخبرهم، والمحدث، بفتح الحاء وكسر الدال المشددة، من اعتنى بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العلماء ينطق به ويعلمه الناس، وهما فى البيت عائد إلى الدهر والعقل، وحالاه حاله الدنيوى والدينى، ومعنى أجليا كشفا ومعنى عن وجه أمرد أشيب عن وجهى وأنا شاب فى السن شيخ أشيب فى تجربة الأمور، وأشيب فى غير وقت الشيب لمقاساة الشدائد، فنفى ذلك تجريد وأسند الإظلام إلى العقل والدهر، لأن العاقل لا يطيب له عيش والدهر يعادى كل فاضل. والله أعلم. واختلف المفسرون فى المقصود فى التمثيل فى الصيب المذكور، فقال الجمهور مثل الله سبحانه وتعالى بالصيب لما فيه من الإشكال على المنافقين من حيث إنهم فى ظلمات الكفر والمعاصى، وما فيه من الوعيد والزجر وهو الرعد، وما فيه من الحجج الباهرة هو البرق، وتخوفهم وروعهم وحذرهم وهو جعل أصابعهم فى آذانهم، وفضح نفاقهم واستشهار كفرهم، وتكاليف الشرع التى يكرهونها من نحو الجهاد والزكاة هى الصواعق، وعن ابن مسعود أن المنافقين فى مجلس رسول الله - صل الله عليه وسلم - كانوا يجعلون اصابعهم فى آذانهم لئلا يستمعوا القرآن فيميلوا إلى الإيمان، فضرب الله المثل لهم وهو وفاق لتأويل الجمهور، وفى رواية عنه كلما صلحت أحوالهم فى زروعهم ومواشيهم وتوالت عليهم النعم قالوا دين محمد دين مبارك، وإذا نزلت بهم مصيبة أو أصابتهم شدة سخطوا وثبتوا فى نفاقهم، وعن ابن عباس كلما سمع المنافقون وظهرت الحجج آنسوا ومشوا معه، فإذا نزل من القرآن ما يشق عليهم قاموا، أى ثبتوا على نفاقهم، وعن مجاهد كان المنافقون إذا أصابوا فى الإسلام رخاء طابت أنفسهم وسروا، وإذا أصابتهم شدة لم يصبروا ولم يرجوا عافيتها، وعن الحسن البرق نور الله، وعن ابن عباس نور القرآن وهما متقاربان أو واحد، وقيل المطر هو القرآن لأنه حياة القلوب، كما أن المطر حياة الأرض، والظلمات ما فى القرآن من ذكر الكفر والشرك والنفاق والرعد ما خوفوا به من الوعيد، وذكر النار والبرق ما فيه من الهدى، والبيان والوعد ذكر الجنة.
يسدون آذانهم لئلا تميل قلوبهم إلى الإيمان، لأنه عندهم كفر والكفر موت، وقيل المطر الإسلام، والظلمات ما فيه من بلاء ومحن، والرعد ما فيه من الوعيد والمخاوف فى الآخرة، والبرق ما فيه من الوعد، يجعلون أصابعهم فى آذانهم إذا رأوا فى الإسلام شدة هربوا حذرا من الهلاك
والله محيط بالكافرين
لا ينفعهم الهرب { يكاد البرق } دليل الإسلام يأخذ أبصارهم إلى الإسلام، ويزعجهم إلى التدبر الحق، لولا ما سبق من الشقاوة، كلما أضاء لهم تركوا بلا شىء مشوا فيه على المسالمة بإظهار كلية الإيمان، وقيل إذا نالوا غنيمة وراحة فى الإسلام ثبتوا وقالوا إنا معكم، وإذا رأوا شدة تأخروا، وقيل شبه الإيمان والقرآن وما أتى الإنسان من المعارف التى هى بسبب الحياة الأبدية، بالصيب الذى هو حياة الأرض وما اختلطت من الشبه المبطلة، واعترضت دونها من الاعتراضات المشكلة بالظلمات وما فيها من الوعد والوعيد بالرعد، وما فيها من الآيات الباهرة بالبرق، وتصاممهم عما يسمعون من الوعيد بحال من تهوله الرعد فيخاف صواعقه فيسد أذنه عنها، مع أنه لا خلاص لهم منها، وهو معنى قوله { والله محيط بالكافرين } وتحركهم لما يلمع لهم من رشيد يدركونه، أو رفد تطمح إليه أبصارهم، بمشيهم فى مطرح ضوء البرق كلما أضاء لهم، وتحيرهم وتوقفهم فى الأمر حين تعرض لهم شبهة أو تعن لهم مصيبة بتوقفهم إذا أظلم عليهم، وقيل شبه أنفسهم بأصحاب الصيب وإيمانهم المخالط للكفر والخداع يصيب فيه ظلمات، ورعد وبرق بحيث إنه وإن كان نافعا فى نفسه لكنه لما وجد فى هذه الصورة عاد نفعه ضرا، وشبه نفاقهم حذرا من نكايات المؤمنين وما يطرقون به من سواهم من الكرة بجعل الأصابع فى الآذان من الصواعق حذر الموت، من حيث إنه لا يرد من قدر الله شيئا، ولا يخلص ما يريد بهم من المضار، وشبه تحيرهم لشدة الأمر وجعلهم ما يأتون وما يذرون، بأنهم كلما صادفوا من البرق خفقة انتهزوها فرصة، مع خوف أن يخطف أبصارهم فخطوا خطوات يسيرة، ثم إذا خفى وفتر لمعانه بقوا متقيدين لا حراك لهم، كما شبه ذوات المنافقين بالمستوقدين، وإظهارهم الإيمان باستيقاد النار، وما انتفعوا به من حقن الدماء وسلامة الأموال والأولاد وغير ذلك، بإضاءة النار ما حول المستوقدين، وزوال ذلك عنهم على القرب بإهلاكهم وإفشاء حالهم، وإبقائهم فى الخسار الدائم والعذاب السرمدى، بإطفاء نارهم وإذهاب نورهم، وذلك تشبيه مفردات بمفردات، وتخريجها على الاستعارة المركبة التمثيلية أولى كما مر، وهى إن يشبه كيفية منتزعة من مجموع تضامت أجزاءه وتلاصقت حتى صارت شيئا واحدا، بأخرى مثلها، ومن تشبيه مفرد بمفرد قول امرئ القيس بن حجر الكندى
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها العناب والحشف البالى
شبه قلوب الطير الرطب بالعناب واليابسة بالحسف البالى، ومن التمثيلية قوله جل وعلا
صفحة غير معروفة