وهم بأمره يعملون
وقال قبله
لا يسبقونه بالقول
ومن اعترض على أحد فقد سبقه بالقول، بمعنى صدر عن مراده، وكذلك ليس قولهم ذلك طعنا فى بنى آدم، على العموم، لأن ذلك بهتان. ولا فى من يعصى ويفسد ويتوب، لأن ذلك غيبة. بل إما طعن فيمن لا يتوب، وبغض له فى ذات الله لا انتصار لهم، وإما غير طعن بل مجرد تعجب وطلب لعلم السبب، لتزول شبهتهم، كما يسأل المتعلم والجاهل عما يعترض فى قلبه مما لا يجوز اعتقاده، ولم يشكا فى الدين، ولكن يجيبهما العالم. فكذلك هم تكلموا بتعجب ليخبر الله - جل وعلا - بالحكمة التى تلاشت فيها المفاسد والسفك، حتى اقتضت خلق من يفسد ويسفك، بدل من لا يعصى طرفة عين. وإن قلت من أين علموا أن بنى آدم يفسدون ويسفكون؟.. قلت قالوا ذلك قياسا على الجن لأنهم رأوهم فى الأرض قد أفسدوا وسفكوا، وعلموا ذلك منهم حتى قتلوهم بأمر الله - جل وعلا - كما مر. فقاسوا عليهم بنى آدم لأن الله - جل وعلا - أخبرهم أنه يسكنهم الأرض كما أسكن الجن فيها، وليسو مخلوقين فى غير الأرض. ثم أسكنوا الأرض كالملائكة، أو لأن الله أخبرهم أنه يخلقه من أشياء متضادة، كالماء الحار والبارد، والملح والعذب، والتراب الخشن واللين، فعلموا أن هذه الأشياء تتدافع وتتنافر فتحصل منها المفاسد والسفك، أو علموا أنه لا قوة واحدة تدعو للعبادة، وهى القوة العقلية، وقوتين شهوية وعصبية مؤديتين للمعصية، والواحد لا يقوى على اثنين. فتعجبوا ما الحكمة فى استخلافه مع أن الحكمة لا تقتضى خلقه فضلا عن استخلافه، لما فيه من القوتين الشهوية والعصبية، وأخبرهم الله بأنهم يكون منهم الإفساد والسفك، أو تلقوا ذلك من اللوح المحفوظ. أو ركز فى عقولهم أن المعصية من خواصهم، أو أعلمهم الله أنها من خواصهم، أو تلقوها من اللوح، أو قال الله لهم جل وعلا { إنى جاعل فى الأرض خليفة } بعدما خلقه من أشياء متضادة، وعلموا أنه مخلوق منها. وذلك قبل نفخ الروح أو بعده، فقالوا ذلك لعلمهم أن الأخلاط تؤدى للتنافر، فيحصل بها الحقد والغضب كما علمت، أو لما روى أن الله - تعالى - خلق النار، فخافت الملائكة وقالوا لمن خلقت هذه النار؟ قال لمن عصانى فلما قال { إنى جاعل فى الأرض خليفة } قالوا هذا الخليفة يكون منه من خلقت لهم النار. فهذه أوجه محتملة. قال ابن زيد وغيره إن الله تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكون من ذريته قوم يفسدون ويسفكون، فقالوا ذلك تعجبا من استخلاف الله من يعصيه، أو تعجب الملائكة إلى آخر تعديد نعمة تعم الناس كلهم، لأن خلق آدم وإكرامه وتفضيله على الملائكة بأن أمرهم بالسجود له إنعام يعم ذريته، أو تعجبا من عصيان من يستخلفه الله، وينعم عليه بالاستخلاف ومن استخلاف من يعصيه.
وقال أحمد بن يحيى تغلب رأت الملائكة وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم من الدماء فى الأرض، فجاء قولهم { أتجعل فيها.. } الآية. على جهة الاستفهام المحض،هل هذا الخليفة يا ربنا على طريقة من تقدم من الجن أم لا؟. وقال قوم كان الله تعالى قد أعلم الملائكة أنه يخلق فى الأرض خلقا يفسدون ويسفكون الدماء. فلما قال لهم سبحانه بعد { إنى جاعل فى الأرض خليفة } قالوا ربنا أتجعل فيها؟ على جهة الاسترشاد. هل هذا الخليفة هو الذى كان أعلمهم به سبحانه قبل أو غيره. والاستفهام على القولين حقيقى لا تعجبى. وأما قول ابن جرير الطبرى قولهم أتجعل فيها ليس بإنكار لفعله - عز وجل - بل الاستخبار هل يكون الأمر هكذا؟ فليس جاريا على الاستفهام الحقيقى كم قد يتوهم، بل تعجبى لأنهم علمو أن الأمر يكون هكذا. فقالوا هل يكون الأمر هكذا؟ وقيل إن العبد المخلص فى حب سيده يكره أن يكون له عبد آخر يعصيه فكان سؤالهم على وجه المبالغة فى إعظام الله - جل وعز - وهذا أيضا غير خارج عن التعجب كما قد يتوهم، ويجوز أن يكون الاستفهام حقيقيا بطريق آخر غير ما تقدم، وهو أن يتسلط على القيد الذى هو الحال المقرونة بالواو فى قوله { ونحن نسبح بحمدك } ولا نشرك كما يشرك جنس الخليفة. { ونقدس لك } كأنهم قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ ونحن باقون على التسبيح والتقديس؟ أم نتغير عن هذا الحال؟ وقولهم نحن نسبح بحمدك.. إلخ على هذا الوجه استخبار على بقاء التسبيح والتقديس. وأما على أوجه التعجب والاستفهام غير هذا الوجه، فهو تمدح ووصف لحالهم، كقول يوسف إنى حفيظ عليم. وهو أيضا حال. وماضى سفك يسفك، بفتح الفاء، وقرئ يسفك. بضم الفاء، وماضيه، مفتوح الفاء، كذلك. وقرئ يسفك، بضم الياء وإسكان السين وكسر الفاء، مضارع أسفك بالهمزة بمعنى المجرد منها وقرئ يسفك بضم الياء وفتح السين وكسر الفاء مشددة، وهذا عندى للمبالغة لا لموافقة المجرد. وقرئ يسفك بالبناء للمفعول وإسكان السين، ورفع الدماء. وعلى هذه يكون الرابط محذوفا، أى من يسفك فيهم الدماء. والسفك صب الدم أو الدمع فى اللغة. والمراد هنا الأول. كما صرح به لفظ الدماء. والسبك فى الجواهر المذابة كالفضة، يقال سبكت الفضة بمعنى أذبتها وأفرغتها فى قالب من القوالب.. والسبك الصب من أعلى والشن بالشين والسين، فى الصب من فم القربة ونحوها، وسننت التراب صببته، بالسين، وسننت الماء على وجهى متفرقا، بالسين، صببته. وإن صببته فى الأرض مثلا متفرقا فبالشين. والتسبيح عن الشىء الإبعاد عنه، أى نبعدك عما لا يليق بك من الصفات، يقال سبح فى الأرض والماء إذا ذهب فيهما إلى مكان بعيد إلى أمام أو تحت.
والأصل نسبحك فحذفت الكاف. أو نسبح لك، على أن اللام تأكيد، أو على تضمين نسبح معنى تخضع، والتسبيح حقيقة فى الذهاب فى الماء فقط، مستعار فى غيره. وبحمدك متعلق بمحذوف جوازا حال من الضمير فى نسبح، أى ملتبسين بحمدك، والباء للإلصاق المجازى، إذ بمعنى مع أى ثابتين مع حمدك، ومعنى الالتباس والاصطحاب المقارنة بلا فصل يفتتحون الحمد عقب ختم التسبيح، قال قتادة تسبيحهم قولهم سبحانه على عرفه فى اللغة، وبحمدك معناه نصل التسبيح بحمدك، فتراه صرح بالوصل به بعده، ولم يتكلف اتحاد الوقت. وروى البخارى ومسلم عن أبى ذر
" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل أى الكلام أفضل؟ فقال " ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده سبحانه الله وبحمده " "
فتراه أشار إلى تسبيحهم بحمده هو قولهم سبحانه الله وبحمده، فترى الحمد بعد التسبيح متصلا به. وأما أن يجعل أحدهما بالقلب والآخر باللسان ليتحد الوقت فتكلف، ويأتى كلام فى ذلك. وقال ابن عباس وابن مسعود تسبيح الملائكة صلاتهم. ولك تعليق بحمدك نسبح أى ننزهك بالثناء عليك. فإن التلفظ بلفظ الثناء تنزيه له - تعالى - والتقديس أيضا الإبعاد. قدست الله أبعدته عن النقص، وقدس عمرو فى الأرض أبعد فيها. والتقديس بمعنى التطهير مجاز مفرع على معنى الإبعاد، واللام للتأكيد، والأصل ونقدسك. ويجوز أن يكون قولهم يحمدك تبرأ عن الحول والقوة إلى الله، كأنهم قالوا نسبحك بإذنك وتوفيقك إيانا إلى المعرفة والتسبيح، ويناسبه تكبير التسبيح بالتنزيه، وتفسيره بالصلاة، قال أبو ذر قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم
" ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله تعالى سبحانه الله وبحمده "
وعنه صلى الله عليه وسلم
صفحة غير معروفة