يحظون بقبول أعظم مما يلقاه هو من الرأي العام، ولم يحظ بأول فوز له إلا بعد جهد دام خمسة عشر عاما، وبعد أن اضطر هذا الشاعر التراجيدي الأول لمدينة أثينا، إلى أن يتبارى مع منافسيه في نفس المجالات التي تخصصوا فيها. وإن فرونيخوس هو الذي أدرك الإمكانيات التراجيدية للموضوعات المستقاة من التاريخ المعاصر، الذي قد تكون أشجانه دورا يقابل سقوط طروادة، وهو الذي صور الاستيلاء على ميليتوس
Miletus
كأمر متوقع يساعده على وضع مسرحية من كارثة الفرس التي حدثت قبل بداية تلك المسرحية، وقبل المنظر المخصص للشرق. وقد تناول أيسخولوس هذا الموضوع بنظرة سيكولوجية عميقة، وبأثر إخباري أكثر، وقوة أعظم لتصوير روح أمة بأسرها. ومن المحتمل جدا أن يكون فرونيخوس قد سبقه في تناول أسطورة الدانائيات
Danaïds . «شاعر وارث لشاعر، كما في حالتك الآن.»
تتكون أهم تجديدات أيسخولوس الشكلية في دور الكوروس، وقبل كل شيء آخر، في إضافة الممثل الثاني. فإن زيادة ممثل آخر على الممثل الواحد لدى ثيسبيس، قد جعلت أيسخولوس المؤسس الحقيقي للدراما؛ إذ جعل بالإمكان تنازع الإرادات المتعارضة، وحول الفعل إلى شخصيات أكثر كمالا، وأضاف تقدما جوهريا في الفعل الدرامي. فأصبح في المشهد الواحد ثلاثة أشخاص (من بينهم متعهد الكوروس) متكلمين. أما في المسرحيات الأبسط فترجح كفة عنصر الكوروس على كفة العنصر الدرامي. والكوروس هو العنصر الرئيسي في مسرحية «المتضرعات»، كما هو أيضا، إلى حد ما، في «الفرس» فغدا الكوروس عاملا حيويا في الاقتصاد الدرامي، في «الأوريستيا». ولا تزال مسرحية «المتضرعات»، تراجيدية عتيقة «مقمطة بثياب عهد الرضاع»، بينما نرى «الأوريستيا» تراجيدية كاملة النضج ... لم يتردد ذلك الشاعر، في شيخوخته، في الاعتراف بأهمية إضافة الممثل الثالث التي ابتكرها سوفوكليس الجريء في أول قفزة له نحو الشهرة. فقال، وهو في السبعين من عمره وكان لا يزال لين الطباع: «إنه لمن الممتع للعجوز أن يتعلم.» وقد حسنت أعماله الأخيرة أعماله المبكرة. وإن حياته لسجل للتقدم المطرد للموهبة الشعرية التي توحي بها عبقرية من أعلى طراز، وذلك، على الأقل، في محيط الصنعة المسرحية. ويمكن مقارنة ذلك التقدم بتقدم أعظم كتاب المسرحيات الإنجليز الذين كانت أعمالهم الأولى إعادة صقل أعمال غيرهم من كتاب المسرحيات.
كان المصدر الرئيسي لقصص أيسخولوس، الخزانة العظمي لشعر البطولة، وتضم كمية ضخمة من شعر الأبطال. وكان في حياته على صلة بمؤلف الإلياذة
Iliad
والأوديسة
Odyssey - وهاتان منظومتان، مادتهما أساطير العصور القديمة بعد أن هذبها ذوق الشعراء المنشدين المتجولين، وزاد فنهم في طولها، متقربين إلى الميول الشعبية، وملتمسين قدسية الأشعار من وجود آلهة المعتقدات القومية والنماذج البشرية المعتبرة مثلا عليا لأمتهم ... عاش أيسخولوس في دنيا البطولة تلك كما يعيش الكاتب المسرحي الحديث في دنيا عصره وجيله. جاء هوميروس إلى أثينا بعزيمة جديدة منذ أن تقرر تلاوة أشعاره في العيد البان أثيني، الذي كان يقيمه أو يحييه بيزيستراتوس ... اجتاح طرق التفكير في العصور القديمة تيار من شعر الأبطال، معظمه أساطير أيونية
lonic ، محاذيا اتساع أفق الخيال إذ ذاك، فكان أيسخولوس، هو وبندار، أول من لاحظ إمكانيات جديدة للفن الشعري، يمكن أن تشع روحا جديدة على ذلك العصر. فواجهت قيود الحياة الناشئة عن العادات والقانون والدين، في قوم معظمهم من الزراع؛ بخيال أقاربهم غير المحدود، في الجانب الآخر من بحر إيجة. فأثار هوميروس، قبل غيره من الشعراء المسنين، نشاط عقل أيسخولوس ... قيض لأساطير شاعر البطولة القومي المليء بالروح الأتيكية الحديثة المولد، ولم تعكر صفوه، بعد، روح النقد ولا روح السخرية الناشئتان عن تطور الفكر الموضوعي في عصر يوريبيديس، قيض لها أن تصير وسيلة لخلق عالم يشرف فيه الرب على شئون البشر ويديرها. كانت الأساطير المقتبسة من هوميروس لحمة وسداة نسيج مؤلفات أيسخولوس؛ ولم تكن، كما هي الحال في بندار، عنصرا مساعدا استخدم لأغراض التوضيح والزخرف استعمل أيسخولوس الأسطورة للتعليم والتهذيب والرقي، فلقيت ترحيبا واسعا في قالبها التراجيدي لدى الرأي العام كالذي لقيه شعر البطولة، وأوسع مما لقي الشعر الشجوي أو أشعار الكوروس الغنائية. وتتخلل روح البطولة طريقة أيسخولوس في تناول موضوعاته. فلديه اتساع بطولي ونشاط بطولي وتصوير بطولي. ولكن ذلك كله لا يشير إلى أي عنصر آخر غير مادة البطولة التي يقرر أيسخولوس، وهو مدرك أنه مدين لملك الشعراء المنشدين، بأن مسرحياته ليست سوى لقيمات من مائدة هوميروس العظيمة، كما لو كان أحد الأبطال الذين خصصت لهم بعض فتات الطعام، تبعا للخيال السائد وقتذاك. والحقيقة أن أيسخولوس قد منح الدراما طابعها التراجيدي، بأن فتح أمامها مجال شعر الأبطال.
صفحة غير معروفة