لقد أسرف خصوم الحلاج في بغضه وتجريحه، وأسرفت الخلافة العباسية في اضطهاده وتعذيبه، وأسرفت إسرافا جنونيا وحشيا فيما أعدت من عذاب غليظ عنيف ليوم مصرعه، وفيما أقامت من ستار حديدي لحجب سيرته عن الحياة، وفيما اصطنعت لتشويه تراثه في التاريخ.
فأسرف أنصاره أيضا في حبه وتقديسه، وفي الحديث عن أسراره ونفحاته وعلومه وعجائبه؟!
ومن ثم انطلق الخيال الأسطوري التاريخي، يوشي هذه الصورة العجيبة المتناقضة، ويريق عليها مزيدا من الجمال، ومزيدا من الغموض!
ثم أخذ ينسج حولها مشاهد ملونة متنافرة، تتعاقب وتتواكب، حافلة بأروع ما في الدنيا من عظمة الروح والإيمان حينا، وبأقسى ما في قاموس الضلال من إلحاد ومروق أحيانا.
وبعد مرور قرابة ألف عام على المأساة الحلاجية، لا يزال النبأ العظيم يتساءل فيه الناس وهم مختلفون!
ولقد فتنت بسيرة الحلاج كما فتن بها غيري، وصاحبته طويلا في تقلباته ومعارجه، وناجيته وذهبت معه في انطلاقاته، وتحسست ما في عواطفه وقلبه، وحاولت أن أدنو من شوقه ووجده، وثورته وتفكيره، وأن أجد الخط الروحي الخفي، الذي يربط ما بين المتناقضات التي تزخر بها حياة رجل يذيبه ويحرقه الوجد الملح العنيف، فينطلق في الفلوات والمقابر والآفاق، مذهولا مأخوذا، حتى يتذوق في نشوة رياضاته مقاما من مقامات القرب، ويرى نورا من أنوار الأنس والقدس، ويغرق في بهاء القرب، وأنوار الأنس، ويسبح ويسبح في معارج حبه، حتى يذهل عن نفسه، وعن وجوده، وعن كل ما يحيط به، فلا يرى في الكون الفسيح، إلا وجه الله القريب الحبيب، الذي يذوب أمام سبحات أنواره، كل شيء، فلا يبقى إلا هو، ذو الجلال والإكرام، الأول والآخر، والظاهر والباطن.
وهو مع هذا الوجد المحرق، وبعد هذا الفناء المذهل، يطيل التأمل والتفكر، في واقع الأمة الإسلامية، فيرى انحرافها عن رسالتها، وابتعادها عن عبادتها، فيطلق صيحة الثورة على الخلافة المنحرفة، وينشر الدعوة، ويعد العدة، لإقامة حكومة الأقطاب الروحانيين، التي يسوس أمرها الأولياء والأبدال، والتي تحيل الكون إلى محاريب للصلاة والتأمل، وذكر الله.
ولقد عانيت من قبل تجربة الدراسات الصوفية، وأعلم ما تحتاجه من جهد، وما يصاحبها من إرهاق، فهي لا تزال بكرا لم تمهد سبلها، ولم تعبد طرقها.
وأشهد أننى لم أجد رهقا ونصبا، في دراسة صوفية، كما وجدت في دراسة الحلاج، فقد تمزق تاريخه، وتبعثرت آثاره!
وأشهد أيضا أنني لم أجد متاعا للقلب، وأنسا للنفس، وزادا للتفكير، كما وجدت في هذه الدراسة.
صفحة غير معروفة