وانقلب جو المحكمة إلى ما يشبه جو محاكم التفتيش التاريخية، ويواصل الخطيب البغدادي روايته على لسان - زنجي - فيقول:
26 «وكان يخرج إلى حامد في كل يوم دفاتر مما حمل من دور أصحاب الحلاج، ويجعل بين يديه، فيدفعها إلى أبي، ويتقدم إليه بأن يقرأها عليه، فكان يفعل ذلك دائما.
فقرأ عليه في بعض الأيام من كتب الحلاج، والقاضي أبو عمر حاضر، والقاضي أبو الحسين بن الأشناني، كتابا حكى فيه أن الإنسان إذا أراد الحج ولم يمكنه، أفرد في داره بيتا لا يلحقه شيء من النجاسة، ولا يدخله أحد، ومنع من تطرقه.
فإذا حضرت أيام الحج طاف حوله طوافه حول البيت الحرام، فإذا انقضى ذلك، وقضى من المناسك ما يقضي بمكة مثله، جمع ثلاثين يتيما وعمل لهم ما يمكنه من الطعام، وأحضرهم إلى ذلك البيت، وقدم إليهم الطعام، وتولى خدمتهم بنفسه، فإذا فرغوا من أكلهم وغسل أيديهم، وكسا كل واحد منهم قميصا، ودفع إليه سبع دراهم أو ثلاثة - الشك مني - فإذا فعل ذلك قام له مقام الحج!
فلما قرأ أبي هذا الفصل التفت أبو عمر القاضي إلى الحلاج، وقال له: من أين لك هذا؟ قال: من كتاب الإخلاص للحسن البصري، فقال له أبو عمر: كذبت يا حلال الدم ... قد سمعنا كتاب الإخلاص للحسن البصري بمكة، وليس فيه شيء مما ذكرته؟!
فلما قال أبو عمر يا حلال الدم، قال له حامد: اكتب بهذا، فتشاغل أبو عمر بخطاب الحلاج، فأقبل حامد يطالبه بالكتابة بما قاله، وهو يدافع ويتشاغل إلى أن مد حامد الدواة من بين يديه إلى أبي عمر، ودعا بدرج فدفعه إليه، وألح عليه حامد بالمطالبة بالكتابة إلحاحا لم يمكنه معه المخالفة! فكتب بإحلال دمه، وكتب بعض من حضر المجلس.
ولما تبين الحلاج الصورة قال: ظهري حمي، ودمي حرام، وما يحل لكم أن تتأولوا علي، واعتقادي الإسلام، ومذهبي السنة، وتفضيل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وطلحة والزبير، وسعد وسعيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي عبيدة الجراح، ولي كتب في السنة موجودة في الوارقين، فالله الله في دمي!
ولم يزل يردد هذا القول، والقوم يكتبون خطوطهم، إلى أن استكملوا ما احتاجوا إليه، ونهضوا عن المجلس، ورد الحلاج إلى موضعه الذي كان فيه.
ورفع حامد ذلك المحضر إلى والدي، وتقدم إليه أن يكتب إلى المقتدر بالله - الخليفة - بخبر المجلس، وما جرى فيه، وينفذ الجواب عنها، فكتب الرقعتين، وأنفذ الفتوى إلى المقتدر بالله.»
وبذلك تمت مهزلة دامية من أعجب مهازل التاريخ، بل من أبشع مآسيه!
صفحة غير معروفة