مفهوم النص
هناك ما أسميها المخاتلة الدلالية، الخداع الدلالي، والمخاتلة ليست خداعا مقصودا، وإنما هي بين الخداع المقصود وبين اضطراب الفهم. من أجل هذا أسميتها المخاتلة الدلالية. معنى كلمة نص في التراث غير مفهوم النص في الدراسات الحديثة، أو في الفكر الحديث. كلمة نص في التراث تدخل في متتالية من الكلمات الدلالية، تبدأ بالنص، الواضح، المؤول، الغامض، المتشابه. فالنص أحد الأبعاد الدلالية. «النصوص عزيزة» هكذا يقول القدماء جميعا، علماء الكلام والتصوف وعلماء أصول الفقه، النصوص بهذا المعنى، النص هو الواضح وضوحا جليا يفهم بمجرد أنك تعلم اللغة، يعني جميع الناس تفهمه، تفهم المعنى المباشر لمجرد أنهم يتحدثون اللغة. هذا هو النص. «النصوص عزيزة» أي نادرة. هناك تقسيم للنصوص إلى قطعي وظني. القطعي والظني يتراوح بين بعدين. قطعي الثبوت أو ظني الثبوت، هذا بعد. وقطعي الدلالة وظني الدلالة. قطعي الدلالة وهو النص، ولا أريد أن أدخل في التعريفات الكثيرة جدا لمعنى القطعي ومعنى الظني، ومعنى الثبوت ومعنى الدلالة. هذا التمييز الرباعي، هذا تقسيم رباعي وليس تقسيما ثنائيا؛ لأن النص قد يكون قطعي الثبوت ظني الدلالة، لا يمكن أن يكون ظني الثبوت قطعي الدلالة؛ لأنه لو كان ظني الثبوت، يعني وصلنا من طريق ظني؛ فلا يمكن أن تكون الدلالة على هذا المستوى من الثبوت. قطعي الثبوت قطعي الدلالة هو النادر جدا، حتى إن السيوطي - القرآن طبعا كله في منظومة الفكر الإسلامي قطعي الثبوت، لكن ليس كله قطعي الدلالة - السيوطي وهو في القرن الحادي عشر يقول:
حرمت عليكم أمهاتكم
ليس قطعي الدلالة، لماذا؟ لأنك لا بد أن تفترض محذوفا في الكلام
حرمت عليكم أمهاتكم
وما دام هناك محذوف في الكلام تنتفي قطعية الدلالة.
كما قلت كلمة «نص» تقع في هذا المحور، النص، الواضح، المؤول، الغامض أو المشكل، المتشابه. يعني بين قطبين؛ الوضوح التام والغموض التام، بينهما درجات من الوضوح والغموض. من هنا عبارة «لا اجتهاد لما فيه نص»، هذه عبارة تراثية لا يمكن أن تفهم إلا من خلال كلمة النص في التراث، لكن تقال أحيانا ويقصد بها القرآن كله، ويقصد بها السنة كلها. هذا هو الذي أسميه التلاعب الدلالي، المخاتلة الدلالية. هي عبارة صحيحة في سياق الدلالة التراثية، ولا بد أن يوضع أيضا جانبها «النصوص عزيزة». لا تطلق وحدها هكذا في الفضاء، فيتوهم المستمع أو يتوهم المتكلم أن كل القرآن ليس فيه اجتهاد، وأن الاجتهاد إنما يكون في الفقه وفي آراء الفقهاء ... إلخ. هذه مخاتلة دلالية وخداع دلالي ناتج عن عدم التمييز بين مجال الدلالة اللغوية لهذه الجملة، وبين مجال فهمنا الحديث حين نقول النص. نحن نطلق النص على كتاب كامل؛ النص القصصي، النص الشعري، النص القرآني. حين نقول النص القرآني نتحدث عن مجمل القرآن.
وأنا أقترح الانتقال من النص إلى الخطاب؛ لا بد أن أضع تعريفات أولية للفرق بين النص وبين الخطاب. النص بنية مستقلة بذاتها، بنية كاملة مستقلة بذاتها، تتضمن مفهوم المؤلف، القصد، والقارئ الضمني. ولا يجب أن تستبعد مفهوم الفضاء الثقافي اللغوي الذي يسمى السياق. لكن هناك مؤلف وهناك قصد. نفترض أن المؤلف يمتلك قصدية ما من تأليف هذا النص ومن إذاعة هذا النص ومن نشر هذا النص. لكن المؤلف، وقصدية المؤلف لا تعمل في فراغ، تعمل في الفضاء الثقافي اللغوي الذي ينتمي إليه المؤلف، وتخيل كاتب النص للقارئ الذي سيقرأ الكتاب. هذا يسمى القارئ الضمني؛ لأن كلا منا، وهو يكتب، في ذهنه القارئ الضمني، سواء اعترف بذلك أم أنكر.
النص يتضمن مفهوم التناص (intertextuality)
ليس هناك نص ينبع من فراغ كامل، وفراغ تام. إذا طبقنا هذا المفهوم على القرآن، سنجد أنفسنا في مشكلات لاهوتية، في مشكلات لغوية كثيرة جدا. لا نستطيع أن نقول إن الله هو مؤلف القرآن. الله متكلم بالقرآن، القرآن كلام، قول، وحي، تنزيل، هدى، بيان، يعني في تعريف القرآن بنفسه هناك تعريفات كلية، وهناك تعريفات وظيفية. وكلها تحولت إلى أسماء، التعريف الوظيفي أنه هدى وأنه بيان. التعريف الكلي أنه قرآن، أنه كلام، أنه وحي. مفهوم التناص معناه أن هذا النص له علاقة بالنصوص السابقة عليه، سواء على مستوى البنية أو على مستوى التناص. في القرآن؛ القصص القرآني، في معظمها، هذه القصص القرآنية توجد في العهد القديم. ومشكلة التناص هي التي دفعت الباحثين الغربيين إلى أن ينشغلوا بهذه المشكلة منذ القرن السادس عشر، والسابع عشر، والثامن عشر والتاسع عشر. ماذا أخذ القرآن من العهد القديم؟ وما هي الأخطاء - هكذا يقول المستشرقون - التي وقع فيها القرآن أو محمد حين ربط بين أحداث تاريخية لا رابط بينها وفقا لنظريتهم؟ هذا البحث كله قائم على أن القرآن نص أيضا. وفهم القرآن باعتباره نصا لا يدرك مثلا أن القصص القرآني، في النص القرآني باستثناء سورة يوسف مشتت في السور. القرآن لا يسرد القصة، قصة موسى وفرعون، أو قصة نوح، لا يسردها سردا كليا في سياق كلي واحد. لم يتنبه الفكر، حتى المستشرقون لهذا، ولم يتنبه الكثير من المفكرين المسلمين الكلاسيكيين لهذا. وحاولوا أن يعيدوا ترتيب القص القرآني بجمع هذه المتناثرات مع بعضها لكي يروا أو يقوموا بمقارنة بين القصص القرآني وبين القصص التوراتي. لم تدرس هذه الظاهرة إلا مع تلميذ أمين الخولي، ومحمد أحمد خلف الله في «الفن القصصي في القرآن». وفي «الفن القصصي في القرآن» يقف محمد أحمد خلف الله متأثرا ، ضد هذا الموقف الاستشرافي، ويقول: إن كل وحدة سردية وردت في سورة هي وحدة سردية مستقلة قائمة بذاتها، وإن محاولة أن تجمع هذه الوحدات السردية لتبني منها وحدة سردية متكاملة، أنت تحاول أن ترد القرآن إلى التوراة. وهذا يطرح سؤالا مهما جدا، ليس عندي إجابة عنه، ونخاف من طرحه. سيأتي هذا السؤال في سياقه. •••
صفحة غير معروفة