القرآن في التأويل الصوفي1
(1) القرآن في التأويل الصوفي
أيها السيدات والسادة، أهلا بكم، في هذه المحاضرة الثالثة، في برنامج الباحث المقيم، وأنا أريد أن أستأنف في هذه المحاضرة، بناء على ما طرحته في المحاضرتين السابقتين، أن أستأنف زاوية أخرى في تعامل النص التراثي مع القرآن. في الزاوية الأولى رصدت تعامل المتكلمين المعتزلة وخصوم المعتزلة. ثم رصدت كيف تأسس البحث اللغوي حول مفاهيم التأويل، وحول مفهوم المجاز. وكان هذا السؤال الذي طرحته على نفسي منذ فترة طويلة، ماذا لو غادرنا مجال العقل وقمنا بسياحة في مجال الروح والتجربة الصوفية؟
سأتجنب في هذه المحاضرة قدر الإمكان شيئا لاحظت أنه عسر في المحاضرات السابقة وهو النصوص الكلاسيكية؛ لأن النصوص الكلاسيكية نصوص صعبة في القراءة، وبالتالي سأحاول أن أقدم قرآتي للنصوص دون التعرض للنصوص ذاتها، خاصة نصوص محيي الدين بن عربي الذي يمثل التصوف؛ لأنها نصوص على درجة عالية من التعقيد، وعلى درجة عالية من البناء المركب، بحيث يصعب في الاستماع إلى محاضرة أن يركن الإنسان إلى قراءة نص.
لماذا ابن عربي؟ أعتقد أن القرن السادس، ابن عربي توفي عام (638) هجريا، القرن السادس يمثل في رأيي اكتمال التجربة الحضارية الإسلامية. يعني الإنجازات الأساسية في بنية هذه الحضارة كانت قد تمت بالفعل، إن في مجال الأدب أو في مجال البحث اللغوي، أو في مجال الدراسات المرتبطة بالقرآن أو الحديث النبوي أو الفقه. في جميع المجالات كانت قد اكتملت سواء في مشرق العالم العربي أو في مغرب العالم العربي. ابن رشد يمثل أيضا هذا الاكتمال على المستوى الفلسفي؛ ولذلك أنا قلت ما بعد ابن رشد. ابن عربي التقى ابن رشد في صباه، حين كان صبيا لم يكتمل شاربه بعد ولم تنبت لحيته بعد، وهو لقاء يمكن أن نتعرض له في سياق المحاضرة؛ لأنه لقاء رمزي على درجة عالية من الأهمية.
يمثل ابن عربي حلقة الوصل. وهذه النقطة الثانية بين التراث الإنساني السابق، وبين التراث الإنساني اللاحق، التراث الإنساني السابق، سواء كنا نتحدث عن اللاهوت بمعناه العام، أو اللاهوت في الفكر اليهودي أو اللاهوت في الفكر المسيحي، أو التراث الفلسفي من أرسطو حتى أفلوطين، الزرادشتية، المانوية. يصعب صعوبة حادة أن نتعقب أصول الأفكار عند ابن عربي، ذلك أنه استوعب كل هذا التراث، وتمثل كل هذا التراث، ثم صاغه في نسق فلسفي، جعل من الصعب جدا تتبع هذه المؤثرات. وكل المحاولات التي بذلت كانت محاولات جزئية، أي إنها تأخذ هذه الفكرة. يبلغ ابن عربي درجة من صهر الأفكار - إذا تذكرتم مسألة الصهر اللغوي - إنه صهر هذه الأفكار حتى إنه يوظف مصطلحات تنتمي إلى الفلسفة، تنتمي إلى الإشراق، تنتمي إلى القرآن، كما سنرى. التراث الإنساني السابق استوعبه ابن عربي، التراث الإنساني اللاحق، هناك دراسات قام بها «أسين بلاسيوس» المستشرق الإسباني حول تأثير ابن عربي في «الكوميديا الإلهية» مثلا. هناك دراسة المستشرق الياباني «توشيكو إيزوتسو» حول العلاقة بين ابن عربي والتاوية، والفكر التاوي. طبعا «أوزوتسو» لم يتكلم عن تأثير وتأثر، وإنما قام بعلاقة مقارنة مما يشي ويوحي بأن رصيد ابن عربي رصيد يصعب تتبعه، ويجعل من تتبعه محاولة في معظم الأحيان لا تفسر ابن عربي، يعني هذه عناصر دخلت وصنعت بنية فكر ابن عربي.
استيعاب الخطاب الصوفي السابق: هذه نقطة هامة جدا، استيعاب الخطاب الصوفي السابق تفسيرا وتأويلا. كثير من المتصوفة السابقين على ابن عربي لا نفهمهم فهما تاما إلا إذا قرأنا ابن عربي، وهناك دراسة هامة أيضا قام بها «أسين بلاسيوس» أراد أن يدرس ابن مسرة الجبلي، فلجأ إلى نصوص ابن عربي التي تعكس قراءة ابن عربي لابن مسرة الجبلي. فدرس هذه النصوص وأعاد بناء فكر ابن مسرة الجبلي، ثم تبين تأثر ابن عربي بابن مسرة الجبلي. هذه مسألة معقدة أن تأخذ فكرة من مفكر معين، وترى تأثير هذا المفكر على المفكر الذي أخذت المادة منه. هذه دراسة على درجة عالية من المهارة في التتبع والاستنتاج، ثم في محاولة كشف الأثر الذي تركه ابن مسرة الجبلي في ابن عربي. كثير من المتصوفة السابقين على ابن عربي نحتاج إلى ابن عربي لكي نفهمهم، خاصة إذا كانت كتابتهم غابت.
طبعا تأثير ابن عربي في المتصوفة اللاحقين له، يعني لا أريد أن أذكر جلال الدين الرومي، وشيخ الدكتور يوسف - يعني يوسف زيدان - «الجيلي». ومن هنا أهمية ابن عربي بشكل عام. إنه حلقة الوصل هذه في التراث العربي الإسلامي.
لماذا الآن؟ لأن أي دراسة أو أي محاولة بحثية علمية إنما تنبع من سؤال يقترن باللحظة التي يمارس فيها الباحث بحثه، أنا درست ابن عربي في السبعينيات. تأويل القرآن عند ابن عربي كان موضوع أطروحتي للدكتوراه في السبعينيات، وكتبت كتابا آخر عن ابن عربي في بداية الألفية. لكن سؤال السبعينيات الذي انطلقت منه لدراسة ابن عربي ليس هو بالضبط سؤال الألفية الثانية الذي انطلقت منه لقراءة ابن عربي مرة أخرى. سؤال السبعينيات كان مرتبطا كما قلت، بكيف يمكن تغطية التراث العربي الإسلامي من جميع اتجاهاته المتعددة؛ لأنه لا يمكن أن نقيم أي نسق فكري، إلا إذا نظرنا للتراث العربي الاسلامي في كليته. هذا كان سؤالي في السبعينيات، بعد أن درست المعتزلة ودرست المتكلمين. كان سؤالي: ماذا لو قمنا بسياحة في الفكر الصوفي؟
سؤال الألفية الثانية مختلف: يعني أنا كتبت كتاب هكذا تكلم ابن عربي، قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر، لكن من يقرأ المقدمة يدرك أن هناك، لا أقول توقعا إنما هناك، الحادي عشر من سبتمبر اعتبرت نقطة فاصلة في تاريخ العلاقة بين العالم الغربي والعالم الإسلامي، كأنها هي التي صنعت هذا، هي في الواقع نتيجة وليست مقدمة.
صفحة غير معروفة