بعد هذا الحاجة إلى تأسيس العقل، بعد أن كثر الصخب وكثر الجدل، وطرحت إجابات مختلفة لنفس الأسئلة، ودخل النص القرآني كعامل من عوامل دعم هذه الإجابات. وأصبح النزاع أحيانا نزاعا حول معنى هذه الآية أو تلك الآية، هنا تطور الأمر بالحاجة إلى تأسيس معيار يحكم النقاش، وهو الحاجة إلى تأسيس العقل، وهذا ما قام به المعتزلة.
بعد تأسيس العقل كانت الحاجة إلى التأويل؛ ما الذي يفصل بين هذه الاختلافات في الأفهام؟ كل قراءة وكل استشهاد هو نمط من التأويل. وكل استشهاد مغاير هو نمط من تأويل مغاير. ويحدث ذلك في الفضاء الإسلامي الآن بطريقة مزعجة. أصبح القرآن كأنه موضوع في الجيوب تطلع الآية من الجيب، ويقسم فيها وجه (أعني في الحوارات العامة، وليس في الحوارات الأكاديمية). الحاجة إلى تأسيس نظرية في التأويل، هذا يؤدي إلى ابتداع استراتيجيات في التأويل، وهنا وجد المعتزلة وتابعهم في ذلك جميع الفرق، وجد المعتزلة في الآية السابعة من سورة آل عمران، وجدوا فيها مبدأ؛ هناك محكم، وهناك متشابه. هناك واضح، وهناك غامض، وبالتالي لا بد من رد المتشابه إلى المحكم أو الغامض إلى الواضح، وسنرى إلى أي حد اتفقوا على المبدأ واختلفوا في التطبيق.
ثم بعد ذلك إبداع آليات التأويل، وهو المجاز، كيف تطور مفهوم المجاز؟ لأن مفهوم المجاز كمفهوم لغوي لم يكن موجودا في الثقافة العربية. المجاز بالمعنى اللغوي هو المعبر، جاز يجوز أي عبر، المجاز هو المعبر، ويقال المجازة على الطريق الذي يصل بين طريقين. كما يقال المفازة على الصحراء بنوع من الأمل ألا يهلك فيها الإنسان. هي مهلكة لكن اللغة العربية مثل كل لغات الأرض تستخدم التضاد لأسباب كثيرة جدا كما يقال للأعمى بصير، هذا هو الأدب اللغوي أيضا.
هنا آخذكم برحلة إلى تطور هذه المفاهيم، وتبلور هذه المفاهيم؛ لأنه حين ندخل في قضية التأويل دون أن نفهم هذه المقدمات. يمكن ببساطة أن نصدر أحكاما على التأويل، وأهمها طبعا أحكام الانحراف، إنما إذا فهمنا الأساس المعرفي؛ فقد نتفق مع الأساس المعرفي وقد نختلف؛ لأنه لا يمكن الحكم على أي نسق فكري بأخذ النتائج والاتفاق معها والاختلاف معها. ليس هذا هو منهج النقاش العلمي، منهج النقاش العلمي هو الاتفاق والاختلاف مع الأسس التي أفضت إلى الوصول إلى هذه النتائج في هذا البحث أو ذلك. والتكفير كأداة من أدوات الرفض هو يعتمد ليس على مناقشة الأسس الفكرية لأي نسق فكري، وإنما فقط على النتائج التي يمكن اختصارها، ثم يتم إصدار الأحكام عليها.
بعد هذا نتكلم عن الآباء المؤسسين لعلم الكلام، وأنا أخذت وصف الآباء هذا من يوسف زيدان في مناقشة معه من قبل، أنا كنت أسميهم علماء الكلام الأوائل، لكنه وضع هذا المصطلح وأنا أعجبني هذا المصطلح «الآباء المؤسسين لعلم الكلام». سنجد أن معظمهم تم قتلهم، ذبحوا. معبد الجهني، وهو أول القائلين بالقدر كما يقال: القدر بمعنى أن الإنسان قادر، بمعنى نفي القدر، أن الإنسان مسئول على فعله. أعود مرة أخرى إلى مسألة من يستخدم المصطلح. يستخدم المصطلح للدلالة على المعتزلة؛ لأنهم ينفون القدر، ويستخدمه المعتزلة للدلالة على من يؤمنون بالقدر. ففي قراءتنا في النص التراثي لا بد دائما أن نتساءل عن السياق الذي يستخدم فيه المصطلح. كان هناك نوع من محاولة الاستيلاء على المصطلحات، فمن هنا القدرية والقدر والقدرة، سنجد كثيرا من الدلائل على أن المقصود بالقدرية هم الذين ينفون القدر؛ يعني ينفون أن أعمالنا الإنسانية تجري بقدر الله، وإنما هي أعمالنا الإنسانية تجري بقدرنا، بإرادتنا. قتله عبد الملك بن مروان عام ثمانين هجريا.
غيلان الدمشقي، قتله هشام بن عبد الملك، عصر عبد الملك بن مروان، هو عصر بناء الدولة، عصر بناء الدولة هو دائما عصر العواصف؛ إذن لكي تبني الدولة في العصر القديم يجب القضاء على كل أشكال المعارضة.
الحسن البصري لم يقتل، توفي عام 110 هجريا، وهو صاحب أول رسالة في القدر، والرسالة كان هناك تشكيك في نسبتها إلى الحسن. ولكن العلامة «فان إستس» الألماني أثبت أن هذه الرسالة صحيحة النسبة إلى الحسن البصري، أثبت بأدلة كثيرة جدا في كتاب له على درجة عالية من الأهمية لم يترجم إلى اللغة العربية بعد، خمسة مجلدات عن تاريخ علم الكلام.
الجعد بن درهم، أيضا من القدرية، لكنه أول من قال بخلق القرآن، ذبحه خالد القسري عام 120 هجريا.
لماذا لم يذبح الحسن البصري؟ وهذا سؤال على درجة عالية من الأهمية؛ لأن ذبحه كان سيكلف الدولة كثيرا؛ يعني معبد الجهني، وغيلان الدمشقي، وجعد بن درهم، لم يكن لهم هذه الكاريزمية التي كانت للحسن البصري. جهم بن صفوان قتل في ثورة الحارث بن سريج في عصر هشام بن عبد الملك عام 128 هجريا.
من مجمل الأقوال التي نجدها في كتب المقالات عن هؤلاء الآباء المؤسسين لعلم الكلام والاعتزال، سنجد مقولة خلق القرآن، وهي من مقولات المعتزلة التي على أساسها بعد ذلك نعرف أن المأمون سيقيم محاكمات وما يسمى بعصر المحنة، محنة خلق القرآن. معبد الجهني قدريا، غيلان الدمشقي مرجئا. الصراع كان حول أمرين أساسيين؛ الأمر الأول: هو علاقة الفعل الإنساني بالإنسان، وعلاقة الفعل الإنساني بالإرادة الإلهية. وهناك من ضمن هؤلاء الآباء المؤسسين الأوائل أكدوا أن الإنسان مسئول عن عمله، ربما جهم بن صفوان يختلف عنهم في هذا الأمر، آمنوا بقدرة الإنسان ومسئولية الإنسان عن فعله.
صفحة غير معروفة