نأخذ أشكالا متعددة، الفن شكل من التواصل مع هذا المنظور، الشكل محاولة للوصول إلى وحدة العالم والإنسان. يعني مثلا استخدام المجاز في الشعر، ما هو المجاز؟ المجاز يربط عالم الإنسان وعالم الحيوان وعالم الطبيعة، حتى في الأمثلة القديمة حينما نقول إن «واحدة زي القمر» ليه احتجت إلى شيء طبيعي من أجل الكلام عن الجمال. هذا معناه أن فيه إدراك لصلة بين الكائنات؛ روح ما. وروح هنا ليس بالضرورة بالمعنى الديني، روح ما تربط هذا العالم، وكل ما الإنسان يدرك هذا الترابط كل ما يبقى إنسان أرقى، وكل ما ينكر هذا الترابط ويتصور أنه سيد العالم والمتحكم فيه أو عبد فيه أو أشياء أخرى تتحكم فيه، تقل مرتبة إنسانيته، يعني الإنسان يكتسب إنسانيته كلما أدرك هذه الروابط. هذا ما يمكن أن نسميه الروحانية، وهي جذر الأديان والإنسان بطبيعته من حقه أن يعيش في عالم مأنوس، وليس في عالم عدم.
هنا العقلانية المتشددة التي أسميتها العرجاء، وأحيانا أسميتها الليبرالية العوراء؛ لأنه الليبرالية هي التي تستبعد اتجاهات داخل نفسها، كأنك تحكم على إنسان أنه ليس ليبراليا؛ يعني فيه مفاهيم حداثية مثل العقلانية والليبرالية ممكن هي «كمان» تتحول إلى أديان بالمعنى السلبي لكلمة دين، أي تتحول إلى دوجما. المسألة التي تشغل كثيرا من الفلاسفة في العالم الآن، وشغلت الفلاسفة المسلمين، والمفروض أن تشغلنا أيضا، هي الصلح بين العقلانية والدينية، الصلح بين العلمانية وبين الإيمانية؛ بمعنى أن العلمانية التي تستبعد الروحانية هي بالضبط مثل الروحانية التي تستبعد العلمانية. بمعنى أن فيه نوافذ مختلفة وهي في النهاية نوافذ وليست أبوابا مغلقة، هنا أنا مضطر أستخدم المجاز مرة ثانية.
مشغول أنا بهذه القضية جدا جدا، ورائدي فيها ابن رشد، أنا في وقت من الأوقات كتبت عن ابن رشد أنه «تلفيقي». وأنا الآن أقول لا، ابن رشد لم يكن تلفيقيا، وبعض الناس قالوا عنه إنه كان نصابا. لكن ابن رشد كان له ثلاث مسئوليات، كان فيلسوفا وكان طبيبا وكان قاضيا، وهذه ثلاث مهام صعبة جدا. يعني القاضي يحكم في مصائر الناس، والطبيب يعالج أجساد الناس، والفيلسوف يحاول ينظر لهذا كله. فمسئولية باهظة، غير أن تكون فيلسوفا فقط أو قاضيا فقط أو طبيبا فقط. وهذا أرجعني إلى مسئولية المفكر، فيه نوع من المسئولية يجعل المفكر متواضعا، ويبحث عن حل ويعمل عملية جراحية قد تكون مؤلمة فكريا، لا يجريها بخشونة وإنما يعملها برقة. يعني فتح باب الحوار مع الناس خصوصا مع الإنسان العادي يشغلني جدا جدا الآن؛ لأنه في مناسبات كثيرة جدا أضطر أن أقول «حاجات» يبدو أنها تجرح شعور المؤمن العادي بالرغم من أني ليس عندي أي نية إني أجرح شعور المؤمن العادي، أنا «عايز» أفتح أفقه من خلال إيمانه وليس من خارج الإيمان، والإيمان انفتاح وليس انغلاقا. ولما الإيمان يصبح انغلاقا يصبح ضد طبيعته؛ لأن الإيمان هو انفتاح الإنسان على عوالم خارجه، حين يؤمن الإنسان فهو يؤمن بشيء داخله فقط، ولكن داخله وخارجه. هذا كله أجري فيه حوارا مع تلاميذي ، وهم ليسوا مسلمين، ويكون حوارا مثمرا جدا جدا.
وأقرأ «حاجات» في التراث الإسلامي زي «حي بن يقظان» ولا أقرأها كرواية فلسفية فقط، ولكن أقرأها كسرد، وكسرد فيها من الغنى بغض النظر عن قصد المؤلف أن السرد له قوة وسحر تجعله قادرا على أن يوحي بدلالات ربما لم تدر في خلد المؤلف. والقرآن فيه جزء كبير منه، له طبيعة سردية، ويستخدم البنية السردية ليس فقط في القصص، وإنما في أجزاء أخرى من القرآن.
هذا سؤال لا يهم المسلمين فقط، ولكنه سؤال يهم العالم كله؛ لأن العقلانية في وقت من الأوقات، خصوصا العقلانية الأوروبية كانت بترا، ضد الكنيسة، ضد الغيبيات، ضد الدين. وضعت الدين كله في سلة الغيبيات، ووضعت الغيبيات كلها في الأوهام والأساطير. الآن نحن نعود إلى أن الأسطورة ليست أوهاما، إنما الأسطورة تعبير رمزي عن وعي، كل هذا ينعكس على قراءتي للقرآن، فهي ليست قراءة مغلقة ولكن هي قراءة مفتوحة، لم أعد مغرما بالتأويل الذي كنت مغرما به وأنا شاب، تأويل المعتزلة مثلا يد الله فوق أيديهم يعني قدرة الله.
العودة بالإيمان إلى نضارته، التي لا تنكر العقلانية، ولا تنكر الانفتاح، ولا تنكر الفكر. والإيمان نفسه هكذا انفتاح وليس انغلاقا، وحينما يتحول إلى انغلاق بفعل المؤسسة وبفعل الدوجما وبفعل عوامل كثيرة جدا تقتل الإيمان نفسه. حين أقرأ ابن رشد «تاني» وأقرأ بعض أفكار الفلسفة الإسلامية مرة أخرى أحس فيها بروح إيمانية على درجة عالية جدا من العقلانية، وعقلانية تحتفي بالإيمانية، لكن فهمت خطأ. يعني الفارابي وابن رشد حينما يضعان الفيلسوف والنبي على درجة تقريبا متقاربة، الفرق بين النبي والفيلسوف أن النبي يتصل بعالم الغيب، بالمخيلة، والفيلسوف يتصل بالعقل، فيكون الناتج مقولات فلسفية عند الفيلسوف، فهي لا تحتمل التأويل، إنما بالمخيلة يكون الناتج سردا، يحتاج إلى التأويل. وتفسيرهم «هايل»؛ لأن النبي يخاطب الناس كلهم. أما الفيلسوف فيكلم الفلاسفة. ولكي تكلم الناس كلهم فلا بد من لغة غنية جدا. أحاول قراءة التراث الإسلامي بعين أخرى، عين ترى إلى أي مدى كان الفيلسوف المسلم مشغولا بهذه القضية، وليس التوفيق بين العقل والدين بالمعنى التجريدي. قضية الإيمان جزء عميق من الفكر الفلسفي، عدم استبعاد الإيمان من إطار العقلانية، وعدم تجريد العقلانية من بعدها الإيماني. - دراستك لابن عربي في رسالتك للدكتوراه - فلسفة التأويل عند ابن عربي - وبين كتابك «هكذا تكلم ابن عربي»، وبينهما مقالتك في مجلة الهلال سنة 92 عن «المسكوت عنه في خطاب ابن عربي» هي نفس النقلة؟ - دراسة الدكتوراه طبعا دراسة أكاديمية تسعى أن تضع ابن عربي في سياق الفكر الإسلامي، وفي سياق المرحلة التاريخية التي عاش فيها، سياق الأندلس وسياق التصوف. فيه أكثر من سياق لابن عربي، وبالتالي: ما هي الأدوات التأويلية التي استخدمها في فهم القرآن؟ ابن عربي لا يمكن استيعابه في رسالة دكتوراه. وأنا طوال الوقت أرجع له وأنا في هذا السؤال حول العقلانية والروحانية، أرجع إليه؛ لأن ابن عربي عمره ما أنكر العقل، واللقاء بينه وبين ابن رشد هو لقاء متخيل أو على الأقل ليس عندنا دليل على حدوثه «هل وجدتم عندكم ما وجدناه؟ فقال له نعم، فابتهج الفيلسوف، وبعد ذلك قال: لا، فحزن، وبعد ذلك قال له بين نعم ولا» حتى القصة فيها كثير من عناصر السرد القابل للكشف والتأويل.
ابن عربي عمره ما أنكر العقل، والعقل ضروري جدا، وهذا موجود في حي بن يقظان، لا يمكن أن تصل إلى عمق الإيمان من غير عقل، وفي رأيي أنهم لا يقولون إن العقل يقف هنا، لا، العقل يوصلك إلى بداية الأفق، وكأن العقل يفتح لك الأفق، الأفق الذي يوسعه الإيمان جدا. ولهذا في دراستي الثانية - يعني هكذا تكلم ابن عربي - ركزت على هذا الفهم عند ابن عربي، وركزت بغير أن أخلق من ابن عربي يوتوبيا. عندي في الكتاب فصل وأنا أحب هذا الفصل جدا أسميته «ضغط التاريخ». هو كفيلسوف يحاول أن يحلق في المثل الأعلى، لكن التاريخ يرجعه إلى الأرض؛ تاريخ الحروب الصليبية، فتجد ابن عربي أصوليا. لا بد أن أنظر إلى كل هذا عند ابن عربي، ولا أجعل منه الروحانية المطلقة؛ لأنه لا شيء اسمه الروحانية المطلقة.
المفكر يحاول باستمرار أن يسمو بالواقع، لكن الواقع أحيانا يجذب المفكر إلى الأرض، نحن الآن في العصر الحديث، المفكر لا بد أن يكون واعيا بهذا البعد بأن قدميه على الأرض وعقله يجذبه إلى السماء، وأن هذا التوتر هو نفس التوتر بين العقل والإيمان. يعني أن ننظر للحياة وللفكر وتاريخ الفكر وتاريخ الثقافة ليس بأنها ذات بعد واحد إنما توتر، وهذا التوتر ينتج نوعا من الغنى يعني دائما الإنسان في هذا التوتر. يعني الإنسان الواضح هو «روبوت» الغموض جزء من نسيج الوعي، ولا بد أحيانا أن نحتفي بالغموض، يعني البحث عن الوضوح واليقين. نعم اليقين مرتبط بالإيمان صحيح، لكنه مرتبط بدرجة عالية بالغموض، ولذلك «الذين يؤمنون بالغيب». الغيب بعض الإخوان الجهابذة يفكرون الغيب هذا مكان أو حاجة في الكون اسمها الغيب، يؤمنون بالغيب يعني يؤمنون بدون ما يكون فيه دليل مادي على إيمانهم. الإيمان بالغيب هذا، هو إيمان بأنه فيه أسئلة ليس عندك إجابة واضحة تماما عليها، فتتركها في الغموض أو تحاول أن تبحث عنها، كونك في هذا الغموض هذا هو الإيمان، الإيمان ليس إيمان العجائز، عمر قال «اللهم إيمان العجائز»؛ لأنه كان في نفس الحالة هذه، حالة الغموض، فكأنه خاف. فكيف تزود المؤمن بقوة ألا يخاف من هذا الغموض بأن يعيشه باعتباره تجربة إنسانية، وليس باعتباره أنه شيء مخيف.
كلنا سنموت، الموت شيء مجهول ومظلم، ولكنك تعيش هذا المجهول، أو تتوقع هذا المجهول، أو تتعايش مع احتمال أن هذا المجهول سيزورك ذات يوم ويطرق بابك. ليس عندك سؤال على هذا. نعم، العلم يحاول، لكن ليس عندك سؤال على هذا. وعظمة الإنسان أنه عائش هذه الحالة. الملحد يريح نفسه حتى يصل إلى الوضوح، فيقطع على نفسه حالة الغنى الغامضة هذه. المؤمن المنغلق أيضا يفتح على نفسه الأسطورة، الأسطورة بمعنى الخرافة. إنما أنا في رأيي أن الإيمان الحقيقي هو الذي يعيش حالة الغموض ويحتفل به باعتباره طبيعة الإنسان وطبيعة الكون. العلم يحاول أن يحل كل هذه المشاكل، لكن يظل العلم كلما يتقدم يترك مساحة المجهول أوسع. هنا الإيمان والمعرفة معا ليسا متناقضين.
هذا على المستوى الشخصي، وهذا ما يجعلني أحتفي جدا بالفن وأستمع إلى «المزيكا» وأزور متاحف؛ لأن هذا جزء من إمكانية الفن أن يجيب لك على بعض الغموض أو يعمق لك بعض أوجهه. وحين أقرأ القرآن أجد الغموض الموجود به ليس أنه متشابه ومحكم ... إلخ، لا؛ فمثلا لما أقرأ:
صفحة غير معروفة