وما تسمع لهؤلاء الناس أنينا يخلو من نبرات الانتقام، فكل ما يصدر عنهم من مديح ينطوي على أذية، فهم يرون منتهي السعادة في إقامة أنفسهم قضاة على العالمين، فأصغوا إلى نصيحتي أيها الأصدقاء: احذروا من تغلبت عليهم غريزة إنزال العقاب؛ لأنهم متحدرون من أفسد الأنواع وعلى وجوههم سيماء الجلادين.
احذروا من لا ينقطعون عن ذكر عدالتهم، فإن نفوسهم خالية من كل صفة حميدة، وإذا ما هم ادعوا الصلاح والإنصاف فلا تنسوا أنهم لم يتخذوا بين الفريسيين مقامهم إلا لما يشعرون به من عجز.
إنني أربأ بنفسي، أيها الصحاب، أن تنزلوها بين هؤلاء الناس فلا تميزون بيني وبينهم. فهنالك من يذيعون تعاليمي عن الحياة، وهم في الوقت نفسه ينادون بالمساواة وينتمون إلى العناكب المسمومة، هم يدافعون عن الحياة ولكنهم يعرضون عنها قابعين في مغاورهم؛ ليتمكنوا من اجتراح الشرور والإيقاع بمن يقبضون على زمام السلطة في هذا الزمان، وقد تعودوا إنذارهم بالسقوط، ولو أن السلطة كانت في يد العناكب لكانت تعاليمهم تتخذ شكلا آخر؛ لأنهم عرفوا فيما مضى أكثر مما عرف غيرهم؛ كيف يوقدون المحارق ويرهقون مخالفيهم اضطهادا وتعذيبا.
لا أريد أن أحسب من هؤلاء المنادين بالمساواة لأن العدالة علمتني: «أن لا مساواة بين الناس.» وأنه من الواجب ألا يتساووا، وليس لي أن أقول بغير هذا المبدأ وإلا فإن محبتي للإنسان تصبح ادعاء ومينا ...
على الناس أن يسيروا على آلاف الطرق وآلاف المعابر مسارعين نحو آتي الزمان، فتنشأ بينهم الحروب وتتسع شقة التفاوت بينهم على ممر السنين، ذلك ما ألهمني إياه حبي العميم.
يجب أن يقيم الناس في أعماق سرائرهم مثلا عليا وأشباحا يجاهدون في سبيلها، فيسير الصالح والطالح والغني والفقير والرفيع والوضيع إلى التصادم بجميع ما في الأرض من نظم؛ فتضطرم الحروب سلاحا لسلاح ورمزا لرمز، لأن على الحياة أن تتفوق أبدا على ذاتها.
إن الحياة تتجه إلى الارتقاء بدعائمها ودرجاتها، فهي تتطلع إلى الآفاق البعيدة ما وراء الجمال المقتعد عرش غبطته، لتبلغ مستقرها في أعالي الذرى.
إن الحياة بحاجة إلى ارتقاء المرتفعات، فلا غنى لها عن الدرجات والدركات؛ ليعارض المنخفضون المرتفعين، إنها لفي حاجة إلى التفوق على ذاتها وهي متجهة إلى الارتقاء.
انظروا، أيها الصحاب، ها هي مغارة العناكب وقد لاحت فيها خرائب هيكل قديم فأرسلوا عليه نظرات المستلهمين.
والحق أن من جمع أفكاره قديما ليرفعها صرحا من الصخر ينطح السحاب كان كأحكم الحكماء عارفا بأسرار الحياة.
صفحة غير معروفة