كان زوجي يسمع قصتي مستريحا لها راضيا عنها، وتزداد أساريره انفراجا كلما أمعنت فيها، فلما فرغت منها، وهز رأسه وكأنما تولاه العجب وقال: «لشد ما تختلف الصور لتنتهي من بعد إلى التقاء، بل إلى امتزاج! فقصتي معك تختلف عن قصتك معي كل الاختلاف، والقصتان تنتهيان مع ذلك إلى امتزاج قلبينا أشد الامتزاج، لقد أحببتك أنا من أول نظرة، يوم قدمني زوجك الأول إليك على أنني صديقه الوفي، وقد تمنيت يومئذ لو لم تكوني زوجه لأتزوجك، ولعلك تذكرين أنك أنت التي طلبت إلي أن أعنى بميراث صديقتك وأبنائها، فاعتبر قلبي طلبك أمرا لا مفر من نفاذه، ولا تنسي أنني استشرتك في الاستعانة بزوجك فأذنت لي، بل ألححت عليه في معاونتي، وأتاح لي ذلك فرصة الإكثار من التردد عليك، وإرضاء قلبي وروحي بجاذبيتك وسحر حديثك، وكان ذلك يلهب حبي ، ويضاعف الصراع بينه وبين الوفاء لصديق ائتمنني على بيته وشرفه.
عند ذلك فكرت في التزوج من صديقتك وأنا أعلم الناس بخفتها ونزقها؛ لأجد في جمالها وفي حواسها بعض ما يسكن شغفي بك وحبي إياك، فلما أفسدت أنت هذا الزواج آمن قلبي بأنك تحبينني كما أحبك، لهذا عاد الصراع بين الحب والوفاء للصداقة أعنف مما كان، لكنني كتمت ما في نفسي إبقاء على شرفك وشرفي، وحاولت جهدي أن أعيد الحياة لحبك المحتضر، مكتفيا من حبي إياك بالنظر إليك، والمتاع بسحر حديثك، فلما ذهب جهدي عبثا، وطلقت من زوجك لم أرد أن أفاتحك بحبي حتى لا يصدق ما أذاعته صديقتك من أنك أردت الطلاق لتتزوجي مني، لكن رأيتك بعد ذلك ريشة في مهب الريح، فمددت يدي إليك إرضاء لحب تأجج في صدري كل هذه السنين، فتزوجنا. يومئذ اطمأن قلبي، ولم يعنني من بعد أن يقول مطلقك إنني خنت عهد صداقته، فالله يعلم وأنت تعلمين كم وفيت له، وكم قاسيت في سبيل هذا الوفاء؛ ولهذا أمتعنا الله سني زواجنا بالسعادة والنعمة، وكذلك امتزج قلبانا بعد أن بقيا متحاذيين على طريق الحياة السنين الطوال.»
وسكت الرجل بعد ذلك هنيهة، ثم قال: «على أنني يزداد يا عزيزتي عجبي حين تذكرين أنك لم تشعري ببأس الحب وسلطانه ما تشعرين اليوم، ثم تريدين مع ذلك أن نفترق! أصدقك القول إنني لم أفهم هذا التصوف الذي تلبسين اليوم لباسه، وكنت أحسب أن سلطان الحب الذي حدثتني عنه سيدفعك إلى مصاحبتي، والعود معي إلى دفء عشنا الجميل بالقاهرة.»
قلت وفي صوتي نبرة التوسل والاستجداء: «أنت تعلم أنك إن أمرتني أن أعود معك فلن أعصي لك أمرا، وأني لن أقيم هنا إلا بإذن منك تبذله عن رضا وطيب نفس، وإنما أضرع إليك أن تدعني هنا في جوار الرسول إلى رجب المقبل حتى يطهر قلبي، ويتقبل مني ربي، وتصدق عنده توبتي، فلا تشوب نفسي بعد ذلك شائبة من وزر أو هوى، ولك علي عهد الله وميثاقه إن أنت رغبت إلي خلال هذه الأشهر الستة أن أعود إلى القاهرة، ولو بعد أيام من وصولك إليها، فستجدني حاضرة عندك؛ إيمانا مني بأن قلبك هو الذي دعاني.»
وبعد هنيهة أضفت: «والآن أطلب إلى هذا القلب الكبير أن يأذن ببقائي، ذلك رجاء أتوسل إليك في ضراعة أن تقبله، والأمر بعد الله لك جزاء حبك وإحسانك وبرك.»
كان زوجي مطرقا وأنا أتكلم، فلما فرغت من حديثي رفع إلي رأسه، وقد ارتسمت معاني الطيبة والحب على محياه، وقال: «ما كنت لأحول بينك وبين ما تطمعين فيه من مغفرة بارئك وعفوه، فأنت وما تريدين، أقيمي إلى جوار الرسول الكريم ما طاب لك المقام، ولا تنسي الدعاء لي أن يغفر الله ذنوبي! أقيمي راضية عني مرضية مني، وأرجو الله أن يجمعنا هنا في زيارة رجب، وأن تطيب نفسك يومئذ بالعود إلى أرض الوطن طاهرة مطهرة.»
عقدت غبطتي بكرم عواطفه لساني، فلم أجد الألفاظ التي تكفي للثناء عليه، فقمت إليه فقبلته قبلة شكر ومحبة، ثم قلت له: «فليتول الله جزاء إكرامك إياي وإحسانك لي!»
وانتقلنا بالحديث إلى مألوف القول، ثم إنني بعثت بالخادم، فدعت ابنتي فتناولت فطورها معنا، فلما فرغت منه سألت: أوتعودين معنا يا أماه؟ وأجبتها: قد أذن لي عمك يا ابنتي في المقام هنا إلى زيارة رجب على أن أخف بالعودة إلى القاهرة ساعة يدعوني إليها، وإن لساني ليعجز عن شكره على جميل صنيعه. أما وقد علمت منه أنكما تعودان إلى مصر على الباخرة التي تبحر من ينبع بعد غد فإني أرجو لكما السلامة، وأحملك إلى أخيك قبلات شوقي ومحبتي، وكم أتمنى لو أتيح له أن يحضر إلى هنا لأراه كما رأيتك، وأروي برؤيته شوقي الظامئ لضمه إلى صدري، وهو لا ريب أحكم من أن يحتاج الأمر بيني وبينه إلى حوار كالذي دار بيني وبينك.
وابتسمت الشابة وقالت: «إن طيبة قلبه، وكرم خلقه، وشدة حبه لزوجه يغنيه عن مثل هذا الحوار.
ولقد فكرت هذه الليلة طويلا فيما أسديت لي يا أماه من نصائح فرأيتك على حق، أهو عقلي الذي هداني إلى تبين هذا الحق، أم هو وحي هذه المدينة المنورة، أم أنهما تآزرا على هدايتي؟! أيا كان الأمر فإني شاكرة لك من أعماق قلبي، مستغفرة عما لعله فرط مني في أثناء حديثي.»
صفحة غير معروفة