قال: «ألم أقل إنك جبارة لا تخافين الله، إذا كانت نفقة هذا الطابق قد بلغت ما أرى، وكنت قد ضاعفت العناية بالطابق الأعلى، فأي نفقة كلفتكم هذه العناية؟»
قلت: «دعك الآن من النفقة، وقل لي رأيك في الإصلاح»، وصعد معي إلى الطابق الثاني، فلما دخل غرفة النوم الفسيحة، ودار بنظره في أرجائها فتح عينيه واسعتين، وقال: «هذه غرفتك أنت أم غرفة مدام ركامييه؟ أقسم أن غرفة «زبيدة» الملكة زوج «هارون الرشيد» لم تكن في جمال غرفتك هذه وإبداعها، الآن أعترف أن ذوقك لا يعلوه ذوق، ولو أن الأقدار كانت منصفة لوجب أن تكوني من أصحاب الملايين، حتى لا يقف في سبيل ذوقك الجميل عائق.» قلت فيما بيني وبين نفسي: «ترى ماذا عساه كان يقول لو أنه دخل هذه الغرفة وأنا في زينة سريري؟!» وشرد ذهني لحظة حين كان هو يتفقد كل قطعة من قطع الغرفة، ويقف أمامها هنيهة، فلما عاد إلى ناحية الباب حيث كنت أقف قال: «كل ما هنا بديع بارع، لكن هذا لا يمنعني من أن أقول لك إنك ظلمت زوجك في النفقة ظلم الحسن والحسين.»
ضقت ذرعا بتكراره عبارة النفقة وظلمي زوجي، فقلت: «وهل يضيق بأمور المال رجل ذو همة وذكاء؟! إنما يقعد العجز بصاحبه عن الإقدام لبلوغ ما يريد! وهل أمطرت السماء ذهبا على من تعرف ممن جمعوا مئات الألوف بل الملايين، أم أن إقدامهم وحسن حياتهم هما اللذان نصبا للمال شباكه فصادته، وكانوا قبل ذلك فقراء لم يرثوا عن أهلهم ما ورث زوجي عن أبيه؟! معذرة عن كلامي هذا، لكنك أكثرت الحديث عن النفقة وإسرافي فيها، وقد حملت ما قلته أول الأمر على أنه اعتذار عن عدم بلوغ الإصلاح ما يرضيني حين إشرافك عليه، أما الآن فإني أشعر أن زوجي يكرر عليك الكلام فيه ولكأنه يوجه إلي الاتهام بشأنه، وأنا إنما أردت أن يعيش كما يجب أن يعيش، فإن كنت أسرفت في حسن ظني فاستغفره لي، وقل له إني تبت لعله يقبل توبتي!»
قلت هذا الكلام في حدة روعت الرجل فقال: «مهلا مهلا، لا تسرفي في التثريب على الرجل إلى حد اتهامه بالضعف والعجز، إن أولئك الذين تذكرين ممن تصيدوا الملايين لم يتصيدوها في عام ولا في بضعة أعوام، وزوجك اليوم أعمق تفكيرا في التحايل على المال منه في الغضب منك أو في اتهامك، إنه يريد إرضاءك، إرضاءك بكل وسيلة لا تخدش شرفه، ولا تؤذي سمعته بين الناس. ولست أدري أيستطيع إنسان أن يجمع بين المال والشرف وحسن السمعة؟ لكن تصيد المال هو ما يشغل زوجك الآن إرضاء لطموحك، ولعلي لو كنت مكانه لما صنعت صنيعه، ولوقفت في طريق اندفاعك إبقاء على نفسي من الانزلاق في سبيل لا يغامر بالانزلاق إليها إلا الذين لا يعنيهم شيء، فإن تحقق ما غامروا في سبيله ارتفعوا بثروتهم إلى السماء، وإن لم يتحقق ظلوا في القاع الذي يحاولون الخروج منه.»
وخشينا كلانا أن يسرقنا الوقت إلى ما يثير هواجس زوجي من بطئنا، فلما رآه صديقنا قال له: «هنيئا لك يا صديقي هذا المنزل الفخم، بل القصر المنيف، لم أكن أتصور أن يخلق الإصلاح من تلك الدار التي رأيت أول الصيف هذه التحفة التي أرى الآن!»
ثم التفت إلي وقال: «وأنا أهنئك يا سيدتي، لقد محا إعجابي بذوقك كل غضب أثاره في نفسي عدم رضاك عن إشرافي، وهو إعجاب لا حد له، ولو أن أصحاب هذه الدار كانوا أهل ذوق ومروءة لاحتملوا نفقات هذا الإصلاح كلها، وأنا مستعد لأن أخاطبهم في ذلك، وأحملهم ما أستطيع منها إذا لم يكن لكما على تدخلي اعتراض.»
وشكرناه وقلنا له إنا لا اعتراض لنا على تدخله. والعجب أنه لم يمض على حديثنا في الأمر غير ثلاثة أيام، ثم إذا هو يحمل إلينا النبأ بأن الدائرة قبلت أن تتحمل نصف ما أضيف علينا من نفقات الإصلاح، وشعرت كأن زوجي انتشل من وهدة لسماع هذا النبأ السار، واغتبطت أنا كذلك، ولكن هذه الفرحة التي بدت على زوجي جعلتني أشفق عليه لعجزه عن أن يفعل ما فعله صديقنا، ويحمل الدائرة على ما حملها هذا الصديق عليه، وكان هو أحرى بهذا وهو صاحب الشأن الأول والمصلحة المباشرة، ولو أنه فعل لرفع عن عاتقه هما وأرقا كاد أثرهما يسيء إلى صحته.
وعاد صديقنا سيرته الأولى إلى مودتنا والتردد علينا، وعاد يعابث زوجي بفلتات لسانه، ويعابثني أحيانا كذلك، ولم يكن زوجي يجيب معابثته إلا بالسخر منه، وعدم الاكتراث لعبثه، وكان هذا الموقف وذاك من جانب الرجلين طبيعيا، ولكن عجبت كيف جمعت الصداقة بين طبعين مختلفين هذا الاختلاف، فزوجي رزين شديد الاتزان يقدر كل كلمة يقولها، ويبالغ في احترام الناس احتراما لنفسه، وصديقنا على النقيض يلقي الكلام جزافا، ولا يعبأ بمظاهر الاحترام، وزوجي شديد الحياء إلى حد أضيق به أحيانا، وصديقنا يجد الحياء سخفا لا معنى له، وزوجي ودود متخفف مع ذلك في وده، وصديقنا مسرف في الود سريع مع ذلك إلى المغاضبة، ولكن صداقة الرجلين اتصلت منذ كانا طالبين معا في المدرسة الثانوية، وصداقة الصبا قل أن يعدو عليها الزمان وإن أمكن أن يعدو عليها النسيان!
وكان صديقنا يعرف صديقتي التي مات زوجها منذ عامين فطمع أهله في تركته ومنعوها وذريتها الضعاف من الاستيلاء عليها أو على إيرادها، وكان صديقنا كذلك صديقا لزوجها ولأمها، وكان فيما يخيل إلي معجبا بجمالها وبطبعها، وقد كان زوجها شديد الغيرة عليها، وكان يعرف في طبعها خفة لا تؤذي وفاءها وعفتها، ولكن تؤذي غيرته، ولذلك انتقل بها إلى الضواحي وسكن معها فيها، ومنعها من أن تنزل إلى المدينة إلا بإذنه وفي رفقته، فلما مات عادت إلى القاهرة وأظهرت من الحزن عليه ما رق له قلب صديقنا وفاء للزوج المتوفى، وإعجابا بالزوج الأرمل . ولقد عرف بعد قليل ما تضطرب فيه هذه الزوج الأرمل من مشاكل ميراث مع أهل زوجها لا قبل لها وحدها بحلها، فتبرع مشكورا لمعاونتها، واضطر من أجل ذلك أن يكثر التردد عليها، واقتضت هذه المشاكل مشورة طبيب فأشرك صديقنا زوجي معه في مهمته.
ولم يبد زوجي بادئ الأمر حماسة لهذه المعاونة لولا أن دفعته أنا إليها، وقد أدهشني تباطؤه عن المبادرة إلى عمل إنساني يتفق مع طيبة قلبه وحبه الخير للناس، وزادني دهشة أنه كان يعرف صديقتي في حياة زوجها، وكان يتردد عليها لعيادتها، ولعيادة أطفالها، ثم كان يحدثني عنها حديثه عن أي مريض أو مريضة يعوده أو يعودها، ولم يبد من مظاهر الإعجاب بجمالها ما يريبني، لكنه لم يلبث بعد حين من مشاركته صديقنا في معاونتها أن ازدادت حماسته لهذه المعاونة، حتى بلغت أشدها، وأن صار يتحدث عنها وكأنه يقوم بعمل يمس قلبه، بل يحركه، فماذا حدث؟ أتراه أذعن لفتنتها فصار يبدي لميراث أبنائها كل هذه الحماسة؟! ثم إنه أخذ يتردد عليها في بيت أمها العجوز الشمطاء، وهي في غير حاجة إلى طبه وعلاجه، فهل تراها تنصب له شباكها ليقع في حبائلها؟ هنالك بدأت الغيرة تدب في صدري، وإن حرصت على ألا يبدو من أثرها أي مظهر، وبدأت أفكر كيف أستعيد هذا الرجل خالصا لي كما كان.
صفحة غير معروفة