وكان عرفجة يعلم ميل ابنته إلى حسن، ونفورها من الحجاج وغيره، ويتوقع إباءها فهيأ الأسباب لإقناعها بأية وسيلة، وتواعد مع طارق على أن يخرج بها إلى قرب المعسكر ويحاول إقناعها بالحسنى فإذا لم تقتنع عمد إلى العنف فيحملها إلى الحجاج مكرهة ولم يكن هو ينوي الذهاب معها لغرض له بالمدينة يتعلق بتلك المحفة السرية، فأراد إقناعها خارج المدينة وإرسالها توا إلى مكة مخافة أن تفر إلى سكينة وتلتجئ إلى بيتها في المدينة فتحميها أو تساعدها في إبلاغ أمرها إلى عبد الملك بن مروان قبل وصولها إلى الحجاج. أما بعد أن تسير إلى مكة ويتزوجها الحجاج فلا يعود هناك محل للشكوى. ولا يهمه أن تشكو سمية؛ إذ يكون قد نال بغيته، ولذلك أوصى طارقا بأن يعقد الحجاج قرانه بها حال وصولها حتى ينقطع لديها كل أمل في النجاة. ثم احتال في إخراجها إلى المعسكر كما تقدم. فلما رأى نفورها مما عرضه عليها من أمر الحجاج أصدر أمره إلى قنبر بشد وثاقها وخرج هو من الخيمة لا يلتفت إليها.
فلما لقيته أمة الله وترامت على قدميه ووعدته بإقناعها، نادى عبده فخرج، وأمر أمة الله فدخلت الخيمة وحدها، فرأت سيدتها مغمي عليها، فبادرت إلى ركوة من الجلد فيها ماء فرشت سمية به حتى أفاقت، وأخذت في حل وثاقها. فلما رأت سمية جاريتها فوق رأسها تقبلها وتحاول إنعاشها، ارتدت روحها إليها، وسمعت أمة الله تقول لها بصوت منخفض: «ماذا فعلت بنفسك يا سيدتي؟ ما هذا الذي أرى؟!»
فعادت سمية إلى البكاء وقالت: «أتسألينني يا أمة الله عما ترينه! لقد مات حسن، قتله الظالمون - قبحهم الله.»
فقطعت أمة الله كلامها ووضعت يدها على فمها وهمست في أذنها وقالت: «اخفضي صوتك لنتدبر الأمر بالحكمة؛ لأن العنف لا يجدي.»
قالت سمية: «دعيني يا أمة الله، فإني لا أريد الحياة بعد مقتل حبيبي ومنية فؤادي حسن. لقد قتلوه لعنهم الله! ليتهم قتلوني عوضا عنه.»
فتقطع قلب أمة الله حزنا على سيدتها، ولكنها كانت عاقلة حكيمة صاحبة دهاء، فتجلدت وقالت: «من قال لك إنهم قتلوه؟»
قالت: «أتسألينني؟ أما رأينا معا جمله مكسورا مهجورا؟ وهبي أن ذلك لم يكن يدل على قتله فما قولك وقد أخبرني بقتله أبي الظالم الخائن، وعرض على أن يريني جثته رأي العين؟ هل بعد ذلك من شك؟ وهل تلومينني إذا ندبت حياتي ونحت على شبابي؟ وهل ترين سبيلا إلى راحتي غير الموت؟!»
فقالت الجارية: «إن أمر القتل لا يمكن أن نعده يقينا حتى الآن، وليس يخفى عليك رغبة أبيك في تزويجك بالحجاج، فلعله ادعى أن حسنا قتل لكي يحول قلبك عنه، ومع ذلك فإن قتلك نفسك أمر مستدرك ولا يجوز لك ذلك إلا بعد أن تتيقني أنهم قتلوا حبيبك، فعليك أن تصبري، ثم إذا لم يفتح الله عليك بابا للفرج ورأيت الحجاج أوشك أن يبلغ مرامه منك، فليس أسهل من أن تقتلي نفسك بتجرع السم قبل وصوله إليك.»
قالت: «ومن أين آتي بالسم؟»
قالت: «أنا آتيك به، فاشترطي على أبيك أن أكون في خدمتك، وأنا أهيئ لك السم، ومتى تحققت انقطاع الأمل، أسعفتك به، وتجرعت منه معك، أما الآن فدعي العناد وتظاهري بالرضا، ولا يبعد أن يفتح علينا قبل وصولنا إلى هذا المعسكر، أو قبل وصولنا إلى مكة، أو لعلنا نجد حسنا في الطريق فتذهبين إليه. وليس يليق بك أن تطلقي لنفسك عنان اليأس؛ إذ ماذا يكون الشأن إذا قتلت نفسك وكان حسن لا يزال حيا.»
صفحة غير معروفة