قال: «لقد اتفق لي اليوم حادث غريب مع رجل لقيته على غير معرفة فإذا أصغيت لي قصصت الخبر عليك، ثم نذهب ونستطلع بقيته معا عند تلك الشجرة.»
قال حسن: «ولكن هل رأيت جملا راكضا من هنا؟»
قال: «نعم رأيته، وأظنه طلب هذا الوادي، ولا تخف عليه فإني كفيل برده إليك؛ لأني أعرف رجال الحي وهم يعرفونني، والإبل سارحة عندهم ولا خوف عليها.»
قال حسن: «وأي واد هذا؟»
قال: «هو وادي القرى.»
قال حسن: «أليس هو موطن بني عذرة المعروفين بشدة عشقهم وعفتهم؟»
قال: «هو بعينه. والحادث الذي وقع لي اليوم يكشف لنا عن حقيقة ما نسمعه عن هؤلاء. فأعرني سمعك لأقص عليك الخبر.»
فمال حسن إلى سماع الحديث، وأهل الغرام يميلون إلى أحاديثه، فقال الرجل: «قضيت في هذه الأودية معظم فصل الربيع أرعى إبلي، فجاءني في أصيل اليوم رجل طويل القامة منطو على رحله كأنه جان، فسلم علي ثم قال: «ممن أنت يا عبد الله؟» فقلت: «أحد بني حنظلة.» قال: «فانتسب.» فانتسبت حتى بلغت فخذي الذي أنا منه، ثم سألني عن بني عذرة أين نزلوا، فقلت له: «هل ترى ذلك السفح؟ إنهم نزلوا من ورائه.» قال: «يا أخا بني حنظلة، هل لك في خير تصطنعه لي، فوالله لو أعطيتني ما ترعاه من هذه الإبل ما كنت بأشكر عليها مني لك عليه؟»
فقلت: «نعم، ومن أنت؟» قال: «لا تسألني من أنا. ولن أخبرك بأكثر من أني رجل بيني وبين هؤلاء القوم ما يكون بين بني العم، فإن رأيت أن تأتيهم فإنك تجد القوم في مجلسهم فتنشدهم بكرة أدماء تجر خفيها عقلاء من السمنة. فإن ذكروا لك عنها شيئا فذاك، وإلا فاستأذنهم في دخول البيوت وقل: إن المرأة والصبي قد يريان ما لا يرى الرجال. فإذا أذنوا لك فادخل بين البيوت واسأل أهلها حتى لا تدع أحدا تصيبه عينك ولا بيتا من بيوتهم إلا وقفت به وسألت».»
فدهش حسن واشتدت رغبته في سماع بقية القصة، وعاد الشيخ إلى الكلام فقال: «فأتيت القوم فإذا هم على جزور يقتسمونها، فسلمت وانتسبت لهم ونشدتهم ضالتي، فلم يذكروا لي شيئا، فاستأذنتهم في دخول البيوت وقلت: «إن الصبي والمرأة قد يريان ما لا يرى الرجال.» فأذنوا، فأتيت أقصاها بيتا ثم مضيت أطوف بيتا بيتا أسألهم فلا يذكرون شيئا، حتى إذا انتصف النهار وآذاني حر الشمس وعطشت وفرغت من البيوت وذهبت لأنصرف، حانت مني التفاتة، فإذا بثلاثة أبيات فقلت في نفسي: «ما عند هؤلاء إلا ما عند غيرهم.» ولكني عدت فقلت لنفسي: «أيثق بي رجل يؤكد أن حاجته تعدل كل مالي ثم آتيه فأقول عجزت عن ثلاثة أبيات؟» فانصرفت عامدا إلى أعظمها، فإذا أهله قد أرخوا مؤخره ومقدمه، فسلمت فردوا السلام، وذكرت ضالتي، فقالت جارية منهم: «يا عبد الله قد أصبت ضالتك، وما أظنك إلا قد اشتد عليك الحر واشتهيت الشراب.» قلت: «أجل». قالت: «ادخل.» فدخلت فأتتني بصفحة فيها تمر من هجر، وقدح فيه لبن، والصفحة مصرية مفضضة، والقدح لم أر إناء قط أحسن منه. فقالت: «دونك.» فأكلت التمر وشربت من اللبن حتى رويت. فقلت: «يا أمة الله ، والله ما أتيت أكرم منك ولا أحق بالفضل، فهل ذكرت عن ضالتي شيئا؟» فقالت: «هل ترى هذه الشجرة فوق الشرف؟» قلت: «نعم.» قالت: «إن الشمس غربت أمس وهي تطوف حولها، ثم حال الليل بيني وبينها.» فظننتني فهمت مرادها فقلت: «جزاك الله خيرا، والله لقد تغديت ورويت.» ثم مضيت فأتيت تلك الشجرة وطفت بها فما رأيت أثرا. فأتيت صاحبي فإذا هو متشح بكسائه وقد قبع بين الإبل ورفع عفيرته يغني فقلت: «السلام عليكم.» قال: «وعليكم السلام، ما وراءك؟» قلت: «ما ورائي شيء.» قال: «لا عليك، فأخبرني بما فعلت.» فقصصت عليه القصة حتى انتهيت إلى ذكر المرأة وأخبرته بما صنعت فقال: «قد أصبت طلبتك.» فعجبت لأني لم أجد شيئا. ثم سألني عن صفة الإناءين والصفحة والقدح، فلما وصفتها له تنفس الصعداء وقال: «قد أصبت طلبتك والله.» ولما ذكرت له حديث الشجرة وغروب الشمس وهي تطوف حولها، بدا البشر في وجهه وقال: «حسبك.» ففهمت أنها ضربت له موعدا للقائه عند هذه الشجرة بعد الغروب. ومكث حتى أوت إبلي إلى مباركها، فدعوته إلى العشاء فلم يدن منه وجلس مني بمزجر الكلب. حتى إذا ظن أني نمت، قام إلى عيبة له فأخرج منها بردين، ارتدى أحدهما وائتزر بالآخر، ثم انطلق نحو الشجرة. وهو الذي تراه جالسا هناك بقرب جذع الشجرة، وسنرى ما يكون من اجتماع الحبيبين.» •••
صفحة غير معروفة