قالت: «وما الذي جاء بك إلى هذا المعسكر؟ وأين حسن؟ هل هو حي كما يقولون؟!» قالت ذلك وشرقت بدموعها.
فقال: «نعم يا سيدتي إنه على قيد الحياة، ولم أكن أعرف ذلك إلا هذه الساعة، وكنت قد يئست من حياته مثلك ولكن الله أنعم علينا بنجاته. فالحمد لله.»
قالت: «وأين هو؟»
قال: «إنه مختبئ على مقربة من هذا المكان حتى لا يراه أحد؛ لأنه جاء متنكرا ولم ينتبه له إلا أبوك، فطلب إلى الأمير أن يقبض عليه. وقد اطلعت أنا على هذه المكيدة فأسرعت إليه وأنبأته بها، وخرجت به إلى مخبأ قرب هذا المعسكر، وجئت لأنبئك بذلك لنتعاون على استنباط حيلة تخرجان بها إلى حيث تشاءان وأنا في خدمتكما.»
فقالت: «سامح الله أبي، بل لا سامحه الله على ما يسومنا إياه من البلاء. لقد أصبحت أكره اسم عرفجة وأكره أن أراه من أجل هذه المعاملة. آه يا ربي! ما العمل؟ ما الحيلة؟ قل لي يا عبد الله هل حسن في مأمن؟»
قال: «نعم يا مولاتي إنه في مكان أمين ولا بأس عليه.»
فقالت: «وكيف أدخلت نفسك في زمرة الحراس، وكيف انطلى أمرك على الحجاج وعلى أبي؟»
قال: «إن حكايتي طويلة ، وخلاصتها أني لما يئست من لقاء مولاي حسن في المدينة وكنت قد عثرت على رحله وفيه كتاب من خالد بن يزيد إلى عبد الله بن الزبير لا بد من إيصاله إليه، رأيت القدوم به إلى مكة، فإذا كان مولاي حسن قد سبقني إليها لقيته وسلمته إليه، وإذا لم أجده أوصلت أنا الكتاب إلى ابن الزبير، فلما دنوت من مكة علمت أن رجال الحجاج يحيطون بها من كل جانب، ولا يستطيع أحد الدخول إليها، وخشيت أن يقع الكتاب في أيديهم، واحتلت لدخول معسكر الحجاج لعلي أتنسم خبرا عن سيدي، وقد يسر لي الدخول أني من ثقيف قبيلة الحجاج، وهو كثير الثقة في أهل قبيلته ويعرفني من قبل، ولكنني أعلم أنه رجل شديد داهية فربما شك في أمري فيأمر بقتلي، فعزمت على أن أتقرب إليه بأن أعطيه الكتاب، ولا سيما أني لم أر فيه فائدة بعد فقد مولاي، وربما تمكنت باقترابي من الحجاج من استطلاع خبر مولاي، فتظاهرت بأني قادم على الحجاج لأمر ذي بال يهمه، وجئت المعسكر وطلبت أن أقابله في خلوة فأذن لي، فلما عرفته بنفسي عرفني. ثم أخرجت له ذلك الكتاب وأنا عالم أن ليس فيه ذكر لمولاي حسن، وإنما هو خطاب من خالد بن يزيد إلى عبد الله بن الزبير في أمر خطبة أو نحوها، فتظاهرت بأني عثرت بالكتاب مع رجل قادم من الشام، ولما رأيت عليه اسم عبد الله بن الزبير شككت في أمره فقتلت حامله، وجئت بالكتاب إليه.
فلما سمع الحجاج ذلك مني، مع علمه بأني من قبيلته، أحسن الظن بي وقربني وجعلني من حراسه كما ترين. وفي مساء ذلك اليوم قدم أبوك على الحجاج فأطلعه على ذلك وأنا واقف ببابه. فلما اطلع أبوك على الكتاب ناداني فدخلت الفسطاط فقال: «من أين أتيت بهذا الكتاب؟!» فقصصت عليه الخبر كما ذكرته، فقال: «إن صاحب هذا الكتاب عدو لنا عرفناه في المدينة وحاولنا قتله، ولكن الذي ذهب لاغتياله لم يعد إلينا، فهل قتلته أنت؟» فلما سمعت قوله اطمأننت على حياة مولاي، ومضيت في إتمام الحيلة فقلت: «لا أعلم أهو الذي قتلته أم لا، ولكنني قتلت شابا بلباس كذا.» وذكرت له ما يقرب من صفات مولاي فقال: «لعله هو وقد أحسنت على أي حال.» وأدناني أبوك منه ومكثت في جملة الحراس وأنا أتفقد الأحوال وأستطلع الأخبار حتى جاءنا مولاي في هذا النهار مع ليلى الأخيلية وقد تنكر، فعرفته، ولم ينتبه لي ولا أنا أردت أن يعرفني لئلا ينكشف أمرنا. فتجاهلت حتى دخلت ليلى على الحجاج وخرجت. وكان أبوك مع الحجاج في الفسطاط، فلما خرجت ليلى رأيت علائم الغدر في وجه أبيك، وسمعته يخاطب الحجاج فأصغيت فإذا هو يشير بإصبعه إلى ليلى ويقول: «إن راويتها جاسوس متنكر.» وأشار بالقبض عليه، فعلمت أنه عرف حسنا واحتلت في الخروج حتى جئته وهو جالس بقرب هذا الخباء فأخبرني أنه جاء من أجلك، فذهبت به إلى خربة وراء هذا المعسكر لا يهتدي إليها أحد، ووعدته أن آتي إليك وأطلعك على أمره لندبر حيلة للفرار.»
وكان عبد الله يتكلم وسمية تتطاول بعنقها وتصيخ بسمعها وعيناها شاخصتان فيه. فلما جاء على آخر الحديث اطمأن قلبها وزال قلقها على حبيبها، فانبسطت أسرتها وقالت: «بورك فيك يا عبد الله، إنك لنعم الرجل، وإذا أتيح لنا أن ننجو على يدك فستكون شريكنا في سعادتنا، وإلا فلا حول ولا ...»
صفحة غير معروفة