٣٠ - وروى أنا أبا النجم العجلي ورد على هشام بن عبد الملك في الشعراء فقال له هشام: صفوا إبلًا فقبطوها، وأصدروها حتى كأني أنظر إليها، فأنشدوه، وأنشد أبو النجم العجلي قصيدته:
الحمدُ لله الوهوب المجزل ... أعطى فلم يبخل ولم يبخلِ
حتى بلغ إلى ذكر الشمس فقال:
وهي على الأفقِ كعينِ الأحولِ
ولم يقل (الأحول) وقطع البيت، وأرتج عليه، فقال له هشام: أتمم ويلك! فقال: (عين الأحول) وأتم القصيدة، فأمر هشام بوجء عنقه وإخراجه من الرصافة، وقال لصاحب شرطه: يا ربيع إياك وأن أرى هذا! فكلم وجوه الناس الربيع في أمره وأن يقره، ففعل، وكان أبو النجم متخفيًا، يأوي (إلى) المساجد، ويصيب من فضول أطعمة الناس على المزابل، فاهتم هشام ليلة، وأراد محدثًا يحدثه، فقال الخادم له: أبغني محدثًا أعرابيًا شاعرًا يروي الشعر، فخرج إلى المسجد فإذا هو يأبى النجم، فضربه برجله وقال: قم وأجب أمير المؤمنين! قال: إني رجلٌ أعرابي غريب، قال: إياك أبغي، هل تروي الشعر؟ قال: نعم وأقوله، فأقبل به حتى أدخله القصر، وأغلق الباب! قال: فأيقنت بالشر، ثم مضى به وأدخله على هشام وهو في بيت صغير، بينه وبين نسائه ستر رقيق، والشمع يزهر بين يديه، فلما دخل قال له هشام: أأبو النجم: قال: نعم يا أمير المؤمنين طريدك، قال: اجلس، وسأله فقال: لمن كنت تأوي وأين منزلك؟ فأخبره، قال: ومالك من الولد؟ قال: ثلاث بنات وبني اسمه شيبان، وقال: وكيف اجتمعوا لك، وهل زوجت منهن أحدًا؟ قال: نعم زوجت اثنتين وبقيت واحدة تجمز في أبياتنا كأنها نعامة، وقل: وما وصيت به الأولى؟ وكانت تسمى برة فقال:
أوصيتُ منْ برةَ قلبًا حرًا ... بالكلب خيرًا والحماةِ شرًا
لا تسأمي شربًا لها وجرًا ... حتَّى ترى حلوَ الحياة مرًا
وإن كستكِ ذهبًا ودرًا ... والحيَّ عميهم بشرِّ طرًا
فضحك هشام وقال: ما الذي قلت للأخرى، قال: قلت:
سبِّي الحماةَ وابهتي عليها ... وإنْ دنتْ فازدلفي إليها
وأوجعي بالفهرِ ركبيتها ... ومرفقيها واضربي جنبيها
قال: فضحك حتى بدت نواجذه وسقط على قفاه، وقال: ويحك ما هذه وصية يعقوب لولده، فقال: ولا أنا كيعقوب، قال: ما الذي قد قلت: في وصيتك للثالثة؟ قال: قلت:
أوصيكِ يا بنتي فإني ذاهبُ ... أوصيكَ أن تحمدكَ القرائبُ
والجارُ والضيفُ الكريم السَّاغبُ ... لا يرجع المسكينُ وهو خائبُ
ولا تني أظفاركِ السَّلاهبُ ... في الزوجِ إنَّ الزوجِ بئس الصاحبُ
قال: وما قلت ف تأخير تزويجها؟ قال: قلت واسمها ظلامة:
كأنَّ ظلامةَ أختَ شيبانْ ... يتيمةٌ ووالدها حيَّانْ
الرأسُ قملٌ كله وصئبانْ ... وليس في السَّاقين إلاَّ خيطان
تلك التي يفزع منها الشيطانْ.
فضحك هشام حتى ضحك النساء لضحكه وقال للخادم: كم بقي معك من نفقتك؟ قال: ثلاثمائة دينار، فقال: أعطه إياها فيجعلها في رجل ظلامه مكان الخيطين! وكان أبو النجم أسرع الشعراء بديهةً.
٣١ - وحكى عبد الله بن طاهر قال: حدثني من شهد لمأمون مع جماعة يتراءون هلال شهر رمضان، وأبو عيسى أخوه معه، وهو مستلقٍ على قفاه، فرأوا، وجعلوا يدعون للمأمون، فقال أبو عيسى قولًا أنكره عليه المأمون في التسخط لورود شهر رمضان، فما صام بعده، وقيل إنه قال:
دهاني شهرُ الصَّومِ لا كان من شهرِ ... ولا صمتُ شهرًا بعدهُ آخرِ الدهرِ
فلو كانَ يغنيني الإمامُ بقدرةٍ ... على الشَّهرِ لاستعديتُ جهدي على الشهرِ
ومات قبل ورود السنة الثانية.
٣٢ - وروي أن المأمون امتنع من النوم عند وفاة أبي عيسى أخيه، فدخل عليه أبو العتاهية فقال له المأمون: حدثني بحديث بعض الملوك ممن كان في حالنا، يا أمير المؤمنين لبس سليمان بن عبد الملك بن مروان أفخر ثيابه، ومس أطيب طيبه، وركب أفره دوابه، وتقدم إلى جميع من معه بأن يركب في زيه وسلاحه، ونظر في مرآته فأعجبه هيئته وحسنه، فقال: أن الملك الشاب! ثم قال لجارية له: كيف ترينني؟ فقالت:
أنتَ نعمَ المتاعُ لو كنتَ تبقى ... غيرَ أن لا بقاءَ للإنسانِ
أنت خلوٌ من العيوبِ ومما ... يكرهُ الناسُ غيرَ أنك فانِ
1 / 7