فخرجت وخرج ابن هبيرة فوضع يده بين منكبي وقال: يا أخا بني الحارث، والله ما كان كلامي إياك إلا هفوة، وإن كنت لأربأ بنفسي عن مثل ذلك، ولقد سرني كيف لقنت علي الحجة، ليكون ذلك أدبًا لي فيما استقبل، وأنا لك بحيث تحب، فاجعل منزلك عليَّ! ففعلت، وأكرمني وأحسن إليَّ!.
١٣٨ - وغنى علوية بين يديى المأمون:
برئتُ من الإسلامِ إن كانَ ذا الذي ... أتاكِ به الواشونَ عنِّي كما قالوا
ولكنَّهم لما رأوك سريعةً ... إليَّ تواصوا بالنميمةِ واحتالوا
وقد صرتِ أذنًا للوشاةِ سميعةً ... ينالون من عرضي ولو شئتْ ما نالوا
فقال المأمون لعلوية: لمن هذا الشعر؟ قال: للقاضي، قال: أي قاضٍ؟ قال: قاضي دمشق، فأقبل على أخيه المعتصم وقال له: أعزله، قال: قد عزلته، قال: فليحضر الساعة! فأحضر شيخ خضيب ربعة، فقال له المأمون: من تكون؟ فنسب نفسه، فقال: تقول الشعر؟ قال: قد كنت أقوله .. قال: يا علوية أنشده الشعر، فأنشده، قال: نعم يا أمير المؤمنين، وبرئ من الإسلام ونساؤه طوالق وعبيده أحرار وماله في سبيل الله إن كان قال شعرًا منذ ثلاثين سنة إلا في زهد أو معاتبة صديق! فقال للمعتصم: اعزله يا أبا إسحق، فما كنت لأولي الحكم بين المسلمين من يبدأ في هزله وجده بالبراءة من الإسلام، ثم قال: اسقوه، فأتي بقدح فيه شراب فأخذه بيده وهي ترعد، ثم قال: يا أمير المؤمنين، الله الله، ما ذقته قط! قال: فلعلك تريد غيره؟ قال: لم أذق منه شيئًا قط! قال: أفحواهم هو؟ قال: نعم، فقال المأمون: أولى لك، فبها نجوت، انصرف، فانصرف، ثم قال لعلوية لا تقل:
برئت من الإسلام ......
وقلْ:
حرمتُ مناي منكِ إن كان ذا الذي ... أتاكِ به الواشونَ عنَّي كما قالوا
١٣٩ - وقيل: أنشد الفرزدق الحجاج:
وما يأمنُ الحجاجَ والطيرُ تتقّي ... عقوبته إلاّ ضعيف العزائمِ
فقال له: ويلك يا فرزدق جعلتني لا عهد لي ولا عقد! قبحك الله وويحك أين أنت من قول جرير:
فمن يأمنُ الحجَّاجَ: أمَّا عقابه ... فمرٌّ وأمَّا عقدهُ فوثيقُ
يسرُّ لك الشَّحناءَ كلُّ منافقٍ ... كما كلُّ ذي دين عليك شفيقُ
فاعتذر الفرزدق: وقال غلطة من غلطات الشعراء، وسهوة من سهوات القول!
١٤٠ - وحدث الصولي قال: انفرد الرشيد وعيسى بن جعفر بن المنصور والفضل بن البيه في صيد من الموكب، فلقوا أعرابيًا مليحً فصيحًا، فولع به عيسى إلى أن قال له: "يا بن الزانية! " فقال: بئس ما قلت، قد وجب عليك ردها أو العوض منها فارض بهذين المليحين يحكمان بيننا، قال عيسى: قد رضيت، فقالا: يا أعرابي خذ منه دانقين عوضًا من شتمك! فقال: أهذا الحكم؟ قالا: نعم، قال: وهذا درهم خذوه وأمكم جميعًا زانية، وقد أرجحت لكم بدل ما وجب لي عليكم! فغلب عليهم الضحك، وما كان لهم سرور يومهم ذلك غير الأعرابي: وضم الأعرابي إلى الرشيد وخص به، وكان يدعوه في أكثر الأوقات، والأعرابي نادم واجمٌ، ويقول للرشيد: لو عرفت لأبقيت، وما نفع الحمق!.
١٤١ - وحدث ابن دريد عن الرياشي عن الأصمعي قال: حدثني منتجع بن نهبان قال: أخبرني رجل من بني الصيداء من أهل الصريم: قال: كنت أهوى جارية من باهلة يقال لها رملة، وكان قومها قد أخافوني وأخذوا علي المسالك، فخرجت ذات يوم فإذا حمامات يسجعن على أفنان أيكات متناوحات في سراوة فاستفزني الشوق فركبت وأنا أقول:
دعتْ فوقَ أغصانٍ من الأيكِ موهنًا ... مطوقةٌ ورقاُ في إثرِ آلفِ
فهاجت عقابيلَ الهوى إذ ترنَّمت ... وشبَّت ضرام الشوقِ بين الشراسفِ
بكت بجفونٍ دمعها غيرُ ذارفٍ ... وأغرت جفوني بالدموع الذوارف
وخرجت حتى أتيت أرضها، فآواني الليل إلى حي، فخفت أن يكونوا من قومها، فبت بالقفر فلما هدأت الرجل ورنقت في عيني سنة فإذا قائل يقول:
يمتعْ من شميمِ عرارِ نجدٍ ... فما بعدَ العشيَّةِ من عرارِ
فتفاءلت بها وانزعجت لها، ثم غلبتي عيناي فإذا آخر يقول:
لن يلبثَ القرناءُ أن يتفرقوا ... ليلٌ يكرُّ عليهمُ ونهارُ
فقمت فعثرت، وركبت متنكبًا عن الطريق، وإذا راع قد سرح غنمه، وهو يتمثل بقول القائل:
كفى بالليالي مخلقاتٍ بجدَّةٍ ... وبالموتِ قطَّاعًا حبالَ القرائن
1 / 33