١٢٨ - وأخطأ بعض خاصة أنوشروان في ذلك بتعريضه لحرمة لأنوشروان، واطلع أنوشروان على ذلك فلم يدر كيف يقتله، غذ ليس بأمر ظاهر الحكم فيه، ولا وجوب القتل عليه، ولم يطب نفسًا بالإمساك عنه والسلو عن الانتقام منه ولم يستحسن أن يكشف ذنبه لما في ذاك من الوهن عليه وعلى الملك والسياسة والتدبير، فدعا بالرجل من بعد سنةِ من خطيئته، وخلا به وقال له: حز بني أمر من أسرار ملك الروم، وبي حلاجة إلى عملها، وما أجدني أسكن إلى أحد سكوني إليك إذ حللت من لبي المحل الذي أنت به، وقد رأست أن تحمل مالًا إلى هاك للتجارة وتدخل إلى بلاد ملك الروم فتقيم بها، وإذا بعت ما معك حملت مما في بلادهم معك إلى هاهنا، كما يفعل التجار في تجارتهم، وفي خلال ذاك تصغي إلى أخبارهم وتطلع على أسرارهم، وتأتيني بجميع ما تتمكن منه في ذاك، فقال: السمع والطاعة لأمر الملك، فأمر له بمنال، وتجهز وخرج بتجارته إلى بلاد الروم، وأقام بها باع واشترى، وفهم لغتهم وكلامهم، واطلع به على بعض أسرار ملكهم، وانصرف إلى أنوشروان بذاك، فأظهر له الاستبشار بفعله وزاد في بره، ورده وأمره بالمقام والتربص بالتجارة ففعل حتى عرف واستفاض أمره بينهم، فلم تزل تلك حالة ست سنين حتى إذا كانت السابعة أمر الملك أن تصور صورة الرجل في جام من جاماته الذهب التي يشرب فيها، وتجعل صورته بإزاء صورة أنوشروان مخاطبًا له ومستمعًا منه ومدنيًا رأسه من رأسه في تلك الصورة، كأنه يسر إليه، ووهب لجام لبعض خدمه وقال له: إن الملوك يرغبون في مثل هذا الجام فادفعه إلى فلان إذا خرج إلى بلد الروم بتجارته ليبيعه لك من الملك نفسه ويجيئك من ثمنه بما يكون غناك وغنى عقبك، فحمل الخادم الجام إلى الرجل، وقد شد رحله ووضع رجله في الركاب، فسأله أن يبيع له الجام من الملك نفسه، فقال له: السمع والطاعة، وأمر بدفع الجام إلى الخازن، وقال له: احفظه فإذا صرت ملك الروم فاحمله في جملة ما تحمل للعرض عليهن ففعل، فلما وقع الجام في يد ملك الروم نظر إليهن ونظر إلى صورة أنوشروان في الجام وصورة الرجل، وكان الصانع قد أحسن التشبيه، فقال الرجل: خبرني هل يصور مع صورة ملككم صورة رجل خسيس، قال: لا، قال: فهل في داره اثنان يتشبهان شهًا لا يفرق به بينهما؟ قال: ما أعلم ذاك، قال له: قم قائمًا، فقام، فوجد صورته في الجام، ثم قال: أدبر، فأدبر، فتأمل الصورة فلم يختلفا عليه، ولم يحسر التاجر أن يسأل الملك عن ضحكه، ثم قال: الشاة أعقل من الإنسان إذا كانت تخفي مديتها وتدفنه، وقد أهديت إلينا هذا مديتك بيدك؟ ثم قال له تغديت؟ قال: لا، قال فقربوا إليه طعامًا، فقال: أيها الملك أنا عبدٌ والعبد لا يأكل ين يدي مولاه، فقال له: أنت عبد ما دمت عند ملك الروم مطلعًا على أموره مستنبطًا لأسراره، وملك إذا قدمت بلاد فارس ونديم ملكها، أطعموه، فأطعم وقد أحس بالشر، إلا أنه لا يفهم، معنى ما يخاطب به، وأمر بأن يسقى، فسقي الخمر حتى إذا ثمل قال له: إن يقتل لا جائعً ولا عطشان، وأمر فأصعد إلى سطح كان يشرف منه على كل من في المدينة إذا صعد إليه فضرب عنقه هناك، وألقيت جيفته من السطح، ونصب رأسه الناس، فلما بلغ كسرى ذلك أمر صاحب الجرس أن يضرب بأجراس الذهب ويمر على دور نسائه وجواريه ويقول كل نفس ذائقة الموت إذا وجب عليها القتل، وفي الأرض يقتل، إلا من تعرض لحرمة الملك فإنه يقتل في السماء فلم يدر أحد من الناس ما أراد بذلك.
١٢٩ - عن سندي بن شاهك قال: إني على رأس المنصور وهو يتغدى، ومعه يزيد بن أسيد فبيناهما يأكلان وكان يزيد فأفاءً شديدًا إذ قال له المنصور: كم ولدك، ففأفأ له ساء ثم قال: فلان وفلان، وبدرت من فيه قطرة وقعت في صحفة المنصور، فامتقع لونه وزال عقله، ورأى المنصور ما به، فأدخل يده في الصحفة وأكل منها لقمة أو لقمتين، فو الله ما رأيت صنيعًا أشرف ولا أجمل منه.
1 / 30