١١١ - وروى الحرمازي قال: خرج أبو العباس السفاح ذات يوم بعد فراغ مدينته التي بالأنبار متنزهًا نحو الخورنق في بعض أيام الربيع، ومعه جماعة عمومته وسائر مواليه وخاصته، فدعا بغدائه، فبيناهم على طعامهم وانبساطهم وأنسهم إذ طلع عليهم أعرابي، فوقف بإزائهم، وأشار بالسلام، فأومأ إليه أبو العباس، فدنا، فلم يزل يدنيه حتى قرب منه، وأمر بغسل يده فغسلت، وأحضره الطعام فأكل أكل نهم إلى أن انتهى، قم أقبل على السفاح فقال: بأي أنت وأمي، ما أحسن وجهك وأكرم فعلك! انتسب لي أعرفك، فتبسم وقال: رجل من اليمن، ثم من بني عبد المدان! فقال: شريف ولكني أشرف منه! فقال السفاح: فانتسب لي أعرفك! فقال: أنا رجل من قيس عيلان، ثم من بني عامر بن صعصعة، فقال السفاح: أنت لعمري شريف، ولكني اشرف منك! فقال: لا ورب الكعبة، ما بنو الحارث بن كعب اشرف من بني عامر، إلا أن تكون عارضتني في نسبك! فقال له: ما عارضتك، وإنهم لأحد طرفي، قال له: فعرفني بأبي أنت وأمي الطرف الآخر لأثبتك! قال: رجل من بني هاشم! قال: بخ بخ رهط رسول الله ﷺ فما قرابة بينك وبين هذا الملك؟ قال: قرابة قريبة! قال: بأبي أنت، وهو الشروي الحميمي؟ قال: نعم هو هو؟! قال: يا بني اكتم علي حديثًا أحدثك عنه؟ قال: أفعل فقل منبسطًا، فلا عين عليك، قال: بأبي أنت، لقد رأيته وهو غليم يفعة يرمي في غرض بالحميمة، فيجمع في كنانته بعض سهامه ثم يرمي الطائر فيصيبه ثم يقربه إلى نار بالقرب منه، فحين يظن أن النار قد عملت فيه يبادر فيخرجه خوفًا أن يغلبه أحد عليه حتى ينتهشه فيأتي عليه مع لحمه وفحمه، ولا يشركه فيه عشير ولا أجير؟ فصاح به داود بن علي عم السفاح: اسكت فض اله فاك وأسكت نأمتك، أتدري من تخاطب؟ إنما تخاطب أمير المؤمنين: فقال السفاح: مه يا عم، ما هذه المعاشرة الفظة، رجل تكلم على الأنس والانبساط، مأذون له، مستدعى ذلك منه، بعد أن تحرم بنا رعيته وأزعجته وقطعته عن حديثه! ثم أقبل على الأعرابي فقال: تكلم عافاك الله، فلما سمع الإعرابي وما كان من داود بن علي ثاب إليه عقله وأدركه ذهنه، واستيقظ من غفلته، وانتبه لهفوته، فقال له: لقد كنت أرى في هذا الملك أمارات الخير ودلائل العلو، وأنه سيملك ما بين بيتها، لفضحك السفاح وقال له: وما تلك الدلائل؟ قال: بهد الهمة وشرف الطبيعة ولين الجانب وبذل النائل والصفح عن الجاهل يعني نفسه مع مركبه الكريم ومحتده الشريف العظيم وموضعه من النبوة، فازداد تعجب السفاح من فصاحته وحسنة بيانه، وأمر له بعشرة آلاف درهم، وكساه وحمله، ثم قال: يا أخا بني عامر، إن كنت رأيت ما رألأيت إذ ذاك فكان يومئذٍ الموجود، وهذا أوان الجود!.
١١٢ - وحكي أن الحجاج انفرد يومًا من عسكره في سواد واسط، فمر ببستاني يسقي ضيعته، فوقف معه وقال: يا بستاني، كيف حالكم مع الحجاج؟ فقال: لعنه الله، المبيد المبير، الحقود الحسود، وعاء النقمة، سافك الدماء غير حلها، المفرق بين الحبيبة ونخلها، جاعل النسا أيامى والولدان يتامى، والروح شيئًا معدومًا، والمال إرثًا مقسومًا، عجل الله منه بالانتقام، وصرف معرته ومضرته عن المسلمين والإسلام! فقال له الحجاج: أتعرفني؟ قتال: لا، قال: فأنا الحجاج! فرأى البستاني دمه طائحًا وموته لائحًا، فرفع عصًا كانت بيده عليه وقال: أتعرفني، أنا أبو ثور المجنون، وهذا يوم صرعي! وأزبد وأرغى وهاج وعدا، وأراد أن يضرب رأسه بالعصا، فضحك الحجاج منه ومضى.
1 / 23